في قلب كل امرئ حكاية..
جمعتني الأقدار أثناء أدائي للخدمة العسكرية خلال سنوات الجمر بأطياف بشرية عديدة من ربوع وطني الحبيب.
لازلت أذكر ذلك الشاب من منطقة الشرق، كان دائما شارد الذهن، مهمل لنفسه، كسول، يمشي متثاقل الخطى وكأن هموم العالم على كاهله، كان لا يريد التحدث إلى أحد، ينزوي على نفسه، كنت أنا الوحيد الذي يقترب منه ويستأنس له، كنا نتكلم في أمور عدة إلاّ سر همومه ! لم أشأ الضغط عليه وكنت أتحاشى الخوض في ذلك.
وذات يوم تجرأت ودخلت أعماقه سائلا إياه عن السر الكامن وراء تصرفاته ؟ فأجابني بنبرة حزينة، سأخبرك حينما ننهي فترة التدريب.
أكملنا التدريب وجاءت لحظة التوجيه إلى العمل الميداني وفي الوقت نفسه لحظة فراق "رشيد".
اقترب مني: " حان الوقت لأخبرك يا صديقي أن كل همومي سببها وفاة شقيقتي الكبرى، تركتها تعاني المرض قبل مجيئي إلى هنا، كانت أختي وأمي ومستودع أسراري، لم أحضر رحيلها ولم ألقي عليها حتى النظرة الأخيرة..".
بعد نهاية التدريب، انتقلت إلى جهة أخرى والتقيت بـ"محمد"، شاب آخر ولكن هذه المرة من منطقة الغرب، لم يكن يختلف عن رشيد، تراه مستلقيا على ظهره، جاعلا يديه وسادة تحت رأسه، شارد الذهن، قليل الكلام، كنت أدنو منه وأعانقه من الخلف واضعا خدي على خده، وحينما أهم بسحبها يشدها من جديد وبقوة وكأنه لا يريد أن يفارق عناقي.
مثلما فعلت مع رشيد، عملت الأمر نفسه مع "رشيد": ألم يحن الأوان لتخبرني الحكاية ؟
فرد، سيكون لك ما تريد حينما تكمل أنت خدمتك العسكرية.
كنا قبالة مرفأ مدينة "شرشال" الساحرة، نطق وهو يحاول إخفاء دموعه عني:
" كانت فاتنة، أحببتها من أعماقي ومذ رأيتها تمنيت أن تكون هي لا غيرها، سكني ورفيقة دربي وأم أبنائي.
خطبتها ورتبنا يدا بيد كل أمور الفرح. و في غمرة الاستعداد للعرس، عبرت كبدي الشارع وإذا بسيارة مجنونة تصدمني في حبيبتي وتتلاشى كل أحلامي برحيلها.
يا للمفارقة.. في قلب كل امرئ حكاية..
(من ذكريات الواقع)
|