على قارعة الطريق
تحت جذع نخلة باسقة جلست تعبث بـ تربة الأرض تحفر حفرة كبيرة ثم تدفنها ..
تارة تجلس في قلب الساقية وهي تقهقه فرحا وتارة ترمي الصغار بــ الحصى وقد استاط وجهها غضبا .. تارة تراها تمضي بين زقاق البيوت .. وقد تراها تقف متسولة ترجو دريهمات إحسان .. هذه فاطمة ابنة السبعة عشر ربيعا .. المحرومة نعمة العقل والمشوهة وجها وقدمين.
تألق القمر بدرا في كبد السماء .. وقد امتلأ قلبه نورا فأرسل إشعاعاته على المنازل النائمة .. بعد يوم استبشر الناس فيه خيرا .. وقد عانقت الأرض العطشى سقاء السماء .. وريح التربة المضمخة بعبير المطر يشجي النفس بزواكيه.
أرق السّهاد فاطمة .. وقد نام الجميع .. فـ خرجت من دارها ومضت حيث تقودها خطاها .. ثم توقفت أمام شباب فـ مدت يدها إليهم ترجو نوال المسحنين .. فـ سولت لهم أنفسهم أمرا.
تحرك الجنين في أحشاء فاطمة .. فـ أدرك الأهل هول المصاب .. ووضعت فاطمة طفلا .. وهي لا تعي من أمرها شيئا .. كبر الطفل .. واليوم أصبح له من العمر ست سنوات .. بينما كنت أمضي في الطريق .. رأيت أطفالا تحلقوا حول قرين لهم وهم وهو يستجير .. اقتربت منهم وأبعدتهم عنه حتى تفرق شملهم مع تعالي ضحكات بعضهم وصيحاتهم: ولد المجنونة .. ولد المجنونة.
نظرت إليه وقد امتلأت عيناي دمعا .. وتجسد المأساة في عمقي وألجمني الألم .. فـ مضيت بخطى ثقيلة تائهة .. ومرارة العذاب تلتهم روحي .. لحق بي والعبرات تنحدر من عينيه الصغيرتين وشعره معفر بـ التراب وآثار الضرب على وجهه .. ابن من أنا ؟
لم أتمالك دموعي التي تدفقت كالشلال .. بعدما أشحتُ بـ وجهي .. مسحت على رأسه .. ووهبته شيئا من حلوى ..مضيت أئن من وطأة العذاب .. وقد شل تفكيري .. وعاد صدى سؤال الصغير يمزقني .. ابن من أنا ؟
تهالكت على أطلال بيت كتب عليه الدهر عليه حديثه .. ورأيت الصغير وقد تبعني .. وتوقف بعد خطوات مني وظل يرقبني وقد فاض قلبه لوعة وسقما .. وعلا صوته الشجي .. الكل يعيّرني إذ لا أب لي أعرفه .. ابن من أنا ؟
تساقطت دموعي على التراب .. وأنا أكتم نحيبي .. وزفرت زفرة أحرقا معها معاني سمو الحياة .. وهمستُ لوعة..
أنت ابن انحدار أمة.