هذا ما وصل إليه علم الأخباريين عن العرب في الهلال الخصيب وهو علم لا يستند بالطبع إلى نصوص عربية جاهلية، و إنما أخذ من روايات شفوية، وأخبار وردت على ألسنة الإخباريين ومن روايات أهل الكتاب.
ومن الخطأ بالطبع أن نتصور أن وجود العرب في بادية الشام وشاطئ الفرات وأطراف دمشق يرتقي إلى أيام الآشوريين، أو قبل ذلك بقليل. فوجود العرب في هذه الأرضين هو أقدم من هذا العهد بكثير. و إذا كنا قد أشرنا إلى وجودهم في المواضع المذكورة في هذا العهد، فلان الكتابات الآشورية هي أقدم كتابة وصلت إلينا ووردت فيها إشارة إلى العرب،وإلا فإن العرب هم في هذه الأرضين قبل هذا العهد بكثير. في عهد لا نستطيع بالطبع تعيين ابتدائه، لأن هذه الأرضين هي امتداد لأرض جزيرة العرب، والتنقل بينها وبين جزيرة العرب هو تنقل حرّ ليس له حاجز ولا حدود، فلا نستطيع إذن أن نقول متى سكن العرب بادية الشام.
وقد لاقت القبائل العربية مقاومة شديدة وعنتاً شديداً من الحكومات التي حكمت العراق والحكومات التي حكمت بلاد الشام، فقد وقفت تلك الحكومات منذ الدهر الأول لها بالمرصاد، وأبت أن تسمح لهه بالتوغل في داخل أرضها التي نحكمها حكماً فعلياً، ذلك لأنها كانت كًاب الأعراب و تخشى من البداوة، إذ لم يكن من السهل على البدو تغيير سنهم و اقتباس سنن الحضر، ثم إنهم كانوا يغيرون على الحضر وعلى الحدود لأخذ ما يجدونه أمامهم. وقد ترك غزو الأعراب للحدود أثراً سيئاً راعباً في نفوس الحكام جعلهم لا يتسامحون في د********* البدو إلى أرض الحضارة،
ما دامت للحكام قوة، ولم يتماهلوا معهم إلا بالوصول إلى حدود الحضارة ومشارفها، وذلك لأنهم نصبوهم حرساً لهم، يمنع القادمين الجدد من البادية من الدنو من أرض الحضارة، ويدافع عن الحدود ساعة الخطر، ويهاجم مع القوات النظامية للحكومة الحاكمة أرض العدو في الحروب، وفي أيام السلم لإلقاء الرعب والفزع في نفس العدو وإكراهه على تنفيذ مطلب يراد منه.
وقد اضطرت الحكومات إلى دفع أ دَ وطعم وهبات وعطايا سخية لسادات القبائل الحرّاس في مقابل قيامهم بحراسة الحدود. إذ لم يكن في استطاعة تلك الحكومات القيام بها بنفسها، ولا سيما في تعقب الأعراب وملاحقتهم في البوادي وغزو أعراب العدوّ، فصارت لسادات القبائل جعالات سنوية وهدايا وألطاف وبعض امتيازات لاسترضائهم وإسكاتهم ما داموا أقوياء أعزاء، وجعلت معهم في بعض الأحيان حاميات من قوى تلك الحكومات عليها سياسيون وقادة لمراقبة اعمال سادات القبائل والحدّ من غلوائهم، ولمساعدتهم عند ظهور سيد آخر قوي منافس في الميدان يريد مهاجمة الحدود أو انتزاع الرئاسة من سيد القبيلة صاحب الامتيازات.
والحكومات هم عادة إلى جانب سادات القبائل ما دام السادات أقوياء أعزاء. فإذا بدا الوهن عليهم، وتبين أن الأمر قد أفلت من أيديهم، وان سادات جدداً أصحاب كفايات وقُدَر ورؤساء أقوى من رؤساء القبائل القديمة قد برزوا في الميدان، وقد أخذوا على أيدي السادات القدامى، وأن المصلحة تقتضي الآن التحول من القديم إلى الجديد، تحولت تلك الحكومات إلى السادات الجدد، واتفقت معهم على شروط مرضية، للقيام بأداء المصالح والواجبات المذكورة حتى يظهر منافس جديد، يتطاول على القديم فيأخذ مكانه. وهذا هو سر تعدد حكم سادات القبائل، وانتزاع قبيلة الحكم من قبيلة أخرى، و تغير حكم "آل فلان" و "آل فلان"، وحلول حكم قبلي محل حكم قبلي سابق.
وسادات القبائل هم على هذه السنة أيضا، فكانوا إذا وجدوا ضعفاً في الحكومة المهيمنة على العراق أو على بلاد الشام وأدركوا إنها في وضع حرج، تقدموا إليها بمطالب جديدة وبشروط جديدة، تكون متناسبة مع حراجة الموقف.
فإذا لم تجب قام سيد القبيلة بتهديد مصالح الحكومة وبغزو أرضها أحياناً، وقد يفاوض العدو للاتفاق معه عليها، وقد يثور ويخرج عن طاعتها، ويظل هذا شأنه حتى تجاب مطالبه، أو يتفق معها على شروط يرضى عنها. وبنطبق هذا الوضع على الأعراب الذين يجاورون الحضر، فعلى الحضر دفع جعالة إلى سيد الأعراب في مقابل حمايتهم لهم ومنع القبائل الأخرى المجاورة من الإغارة على أولئك الحضر. ويتقيد هؤلاء السادة بعهودهم مع الحضر ما دامت في مصالحهم.
أما إذا رأوا أن الحضر في وضع حرج وأن الحكومة التي ترعاهم، أو حكومة المدينة ضعيفة غير قادرة على الدفاع عن نفسها، فإن الأعراب يفرضون على الحضر مطالب جديدة، ويأخذون منهم امتيازات إضافية مثل حق الارتواء من الآبار ومن مجاري الماء، وحق رعي ماشيتهم في زرع الحضر، إلى غير ذلك من شروط، يضطر الحضر إلى الموافقة عليها للمحافظة على حياتهم وأموالهم، وإلا تعرضوا للغزو ولكوارث أخرى قد تنزل بهم أضراراً تزيد على ما يطلبه الأعراب منهم بكثير.
وللسيطرة على حركات الأعراب ولضبطهم، أقامت حكومات العراق وبلاد
الشأم لما "مسالح"، أي مواضع حصينة تعسكر فيها قوات نظامية في البادية،
يترأسها ضباط، وضعت فيها كل ما يحتاج إليه من سلاح ومؤن وذخائر وقوات كافية للقيام بمثل هذه المهمات الخطيرة في البوادي. وقد حفرت لها آباراً للارتواء منها ونصب ضباط هذه الحصون أنفسهم حكاماً يتحكمون في البوادي التي يشرفون عليها، يفضون مشكلات القبائل، ويحافظون على الأمن، ويراقبون تحركات الأعراب وتنقلاتهم، ليكونوا على حذر منهم و من غزواتهما المفاجئة للحدود. وقد بقيت هذه "المسالح" إلى أيام فتوح المسلمين للعراق و لبلاد الشام. وكان من واجبات هذه الحصون توزيع الأرزاق على الأعراب أيام الشدة والضيق، والتقرب إلى سادات القبائل، وعقد صداقات معهم ليستفاد منهم في كبح جماح أتباعهم، و يحولوا دون تحرشهم بهم، ولئلا يقوموا بمهاجمة الحدود.
وكان أقصى مكان سمح للعرب بالوصول إليه هو الشاطىء الغربي لنهر الفرات، وحدود الحضارة لبلاد الشام وأعالي البادية، أي قصر البادية الأعلى. أما ما وراء. ذلك، فكان من الصعب على العرب الوصول إليه، لتشدد الحكومة في منعهم من الدنو منه، وتصلب الحضر تجاههم.
ولم يدخله من العرب إلا أفراد أو جماعات تنكرت للبادية ولسننها، وكفرت بسنة الغزو، ورأت في الزراعة وفي احتراف الحرف شرفاً لا يقل عن شرف رعي الإبل والتنقل بها من مكان إلى مكان. أما الذين وتفوا عند هذه الحدود، وهم السواد الغالب، فقد يقوا على سنن البادية، مخلصين لها مؤمنين بحق الغزو والقوة، إلا من اشتم رائحة الحضارة وتنفس قليلاً من ريح الحضارة، وجاور الفرات ومشارف الشام، حيث تلوح معالم الحضر، فقد طوّر نفسه بعض التطور، واستقر في الأرض بعض الشيء وصار وسطاً بين الحضارة و البداوة، لا هو حضري كل الحضري، ولا هو أعرابي تام الأعرابية، و إنما وسط بين بين، ومنزلة بين المنزلتين.
ولم يكن من الممكن للأعرابي أن يدرك قيمة الزرع والغرس وحياة الاستقرار لأن الماء وهو جوهر الزرع غير متوافر لديه، ولأن الأمن غير موجود عنده، فهو متى زرع واستقر وكون مجتمعاً حضرياً صغيراً، هاجمه من هم على شاكلته من أهل البادية وسلبوه كل ما لديه.
و مجتمعه مجتمع صغير لا يستطيع الاعتماد على نفسه والركون إلى قوته في صد عادية الغزاة، لذلك حالت هذه الظروف دون السكنى والزرع والاستقرار. إلا في الأماكن التي وجدت فيها مياه، وتوافرت لديها القوة، كما لم يكن من السهل على سادات القبائل. إكراه أتباعهم على الاستيطان والسكنى في بيوت من مدر، ذلك لأفهم هم أنفسهم أبناء بادية، وآراؤهم آراء أعرابية ولا يفكر في هذه الشؤون إلا من كان حضرياً مستقراً ومن ولد ونشأ وتثقف في أرض الحضارة. ثم إن تنفيذها يستدعي وجود مال وأمن وقوة رادعة تمنع الأعراب من إفساد ما تقوم به الحضري من عمل مجهد، ولم تكن هذه متوافرة عند سادات القبائل، ولم يكن في وسع سيد القبيلة الذي يجب أن يكون محترساً يقظاً حتى لا يفاجئه منافس طامع من آهل البادية فيأخذ مكانه، أن يأمر قومه بالاستيطان، ووضعه على هذه الحالة من القلق وعدم الاستقرار. لذلك قضت طبيعة هذه البيئة على غالبية الأعراب التي جاءت إلى هذه الأماكن بان تعيش عيشة أعرابية أو عيشة رعي، تعيش على ماشيتها بدلا من الاستقرار استقراراً دائماً والاشتغال بالزراعة والاتجار بالزرع
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|