مَسَاؤُكُم طَاعَة !
مَقَالَة قَيَّمَة لِـ\ عائشة السيفية \ ذَا صِلَةٍ بِالْمَوْضوع أُقَدِمُهَا لَكُم :{ طَرَحَهَا أَحَد الْأَعْضَاء فِي مُنْتَدَى أخَر }
الشيطَان الجميل ينتصرُ مجدداً !
عائشة السيفية
قبلَ أيّام كنت أتحدّث لصديق في الماسنجر عن مشوَاري مع القراءة والكتَاب وقد ضحكنَا كثيراً على مواقف كثيرَة حدثت لي بمَا يخصّ علاقتيْ والكتاب .
أوّل كتاب «أدبيّ» قرأته كان الوحيد المتوفّر لديّ ولذلكَ قرأتهُ مراراً لأني لم أملكُ خياراً غيرهُ .. وقد جلبهُ أحدُ أشقّائي من احد معارض الكتاب بالإمارات العربيّة المتّحدة ..
المستطرف فيْ كلّ فنٍ مستظرف هوَ أوّل ما قرأتهُ .. وظللتُ لثلاثِ أعوامٍ أقرأهُ .. أعيدُ قراءتهُ حالمَا أنهيهُ
كنتُ أعودُ من المدرسَة القريبَة من بيتنا ، فأشعُر بفراغٍ كبيرٍ في المنزل لأنّ أشقائي لا يكُونون قد عادُوا بعدُ من مدارسهِم
أتوجّه فور وصوليْ إلى دكّان (عبدالسّتار) البائع الهنديّ الذي أحتفظُ بهِ صديقاً جميلاً في الذاكرة القرائيّة لأنني كنتُ أستمتعُ بأكل حلويّاته وأنا أقرأ المستطرف
لم أقلع عن المستطرف إلا بعدَ أن بدأت علاقة جميلة مع روائيّ جديد تعرّفت إليه عن طريق أختي التي تدرُس بجامعة السلطان قابُوس
والتي أشفقت على عدم امتلاكي كتباً أدبيّة لقراءتها بعد ملاحظتي إقبالي الشّديد على قراءة المستطرف
أذكر أنها سألتني إن كنتُ أريد كتباً من مكتبَة الجامعة .. فقلت لها: لا أعرف كتباً أو مؤلفين ولكنْ أحضري ليْ قصصاً كتلك التي في المستطرف
ومنْذ تلك اللحظة بدأت مرحلةٌ قرائيّة جديدة في حياتي فتحَ فصولها نجيب محفوظ
الروائيّ الجديد الذي تعرّفت إليه حينها .. وأسبُوعاً بعد أسبُوع أصبحت أختي تجلبُ لي روايات محفُوظ
الثلاثيّات ، أولاد حارتنا ، قصر الشّوق ، رادوبيس ، بين القصرين وأخريات
والحقِيقة أنّي كنتُ كلّما أنهيتُ قراءة روايةٍ له أقسمُ ألا أعود لقراءَة أيّ رواية له لحنقي على النهاياتِ المأساويّة التيْ ينهي بها تعلقيْ بشخصيّات رواياتهِ
إلا أنني أجدني أغرق لاحقاً في دوّامة جديدَة معه بعد أن أطلب روايَة جديدة له .. كان يجرّني معه إلى أسفل ، إلى عمقِ نسيج الحبكَة الروائيّة التي يمسكُ بها القارئ من رقبتهِ فلا يبرحهُ حتّى ينهيْ روايته ..
ولأجلِ ذلكَ ، يكادُ يكُون نجيب محفُوظ الروائيّ الوحيد الذي أبكاني رحيلهُ ، لأنه جزءٌ من مساحات اكتشَاف المحرّم، اكتشَاف الطوطم المنزّه عن الاقتراب أو اللّمس ، اللذة الأولَى والوخزَة الأولى بالنسبة ليْ أحدثها نجيب .. كانَ فعلاً محترفاً جداً !
أوّل كتابٍ سرقتهُ كانَ كتاب ألف ليلة وليلة الذي اشتراهُ شقيقي .. وكانَ مغرماً بالقراءة كذلكَ لكنّه كان يمنعني من قراءَة ما يقرؤهُ
بحجّة أن الكتاب للكبَار فقط ، وأنّ هنالك خطوطا حمرَاء لا ينبغي لي قراءتها لصغر سنّي
قراءتيْ لألف ليلة وليلة جاءتْ قريبةً زمنياً من قراءتي لنجيب .. وأذكرُ أن أخي كلما أنهى جزءاً من ألف ليلة وليلة يضعهُ في مكتبَة المنزل
كنتُ أقرأ الجزءَ الذي ينهيهِ مباشرةً وكنتُ في كثيرٍ من الأحيان أسبقه .. فأنتظر إنهاءهُ للجزء اللاحق حتى أتمكّن من قراءتهِ ..
كانتْ تلك أول تجربةٍ لي للقراءَة بعيداً عن عيُون الآخرين .. القراءَة ، اختلاساً !
القرَاءة .. هرباً من تلصّص أحد ..
الروايَة الأخرى التيْ أدخلتنيْ إلى قائمَة اللصُوص هي روايَة مائة عام من العزلَة التي منعتُ من قراءتها لنفسِ أسبابِ ألف ليلة وليلة
والحقيقة أنني قرأتُ أول مائة ورقةٍ من الرواية لا استمتاعاً بقدر رغبتي في كسرِ التابُوت وبحثاً عن المحظُور الذي منعَ قراءتيْ العلنيّة للرواية التي لم أكملها لأني لم أستمتع بقراءتها
وقد دهشتُ لمنعِ أخي من قراءتي للكتابينِ أعلاهُ لأنّ جرعات الإثارة والخطوط الحمرَاء كانتْ أقلّ بكثير من روايات نجيب محفُوظ .. و لو قدّر لي كنتُ لأنصحهُ بقراءة نجيب لأنهُ كانَ سيحبّ سردهُ الروائيّ ..
تجربتيْ القرائيّة الحقيقية التي بدأت معي شوطاً جديداً .. لأنها منحتني مساحَة اختيار حقيقيّة وإنْ كانت ضيّقة لكنني كنتُ على الأقلّ أملك اختيار هذا الكتاب أو رفضهِ
كانت حينَ بدأتُ أدرسُ في جمعيّة المرأة العمانية بنزوى كلّ صيف ، حيثُ أذهب مع أشقائي لدرَاسة اللغة الإنجليزية والرياضيات .. في الجمعيّة كانت هنالك مكتبَة جميلة ..
مُهملة جداً ، غير مرتّبة ، لكنّها كانت تحتوي على كتبٍ رائعَة جداً كشفتْ أمامي أني لم أكن أعيش في العالم .. أنني كنتُ غارقةً في حياة عاديّة جداً بعيداً عن سحر تلك الكتب وعالمهَا المثير ..
مرحلَة دراستيْ بالجمعيّة أدخلتني في عالم قراءَة السّير الذاتيّة وقد شغفتُ بقراءة مذكّرات السياسيين خاصّة الإسرائيليين منهُم فقرأت مذكرات أرئيل شارُون ، واسحاق شامير ، وديغول ..
أحببتُ كثيراً سيرَة اسحاق شامير ، كاتباً ! ودخلتُ إلى دماغهِ ، أحببتُ زوجتهُ شولاميت وشقاوة أطفالهِ .. اكتشفتُ مع قراءتهم أنّ هؤلاء الدكتاتوريين سياسياً يعيشُون في الجانب الآخر حياةً هادئة جميلة يلتقون فيها كلّ يومٍ بأطفالهم ويتناولونَ برفقة زوجاتهم الإفطار ويخلدُون كأيّ أبٍ نهاية اليَوم إلى سريرٍ يجمعهُم بحضنِ زوجَة جميلة يمتصّ عنهم سوداويّة كلّ دقيقة يمارسُون ساديّتها تجاَه أيّ شعب ..
وعرفتُ في تلك المرحلَة كاتباً سياسياً جميلاً اسمهُ محمّد حسنين هيكل الذي أدخلنيْ إلى عوالم عبدالنّاصر والسادات وحرب 1967 واغتيالات السبعينات .
في تلكَ المكتبة الكئيبَة تعرّفتُ كذلكَ إلى أدب الآخر المترجَم ، وقرأتُ أوّل الروايات المترجمَة .
أذكرُ أني قرأتُ لأوّل مرة أدبَ أوروبا وشرقَ آسيا وأدَب الأمريكتين
تلك المكتبة فتحتْ أمامي كذلكَ آفاقاً جديدة أدركتُ خلالها أنّ القراءَة قد تعَامل أحياناً كعمَل فضائحيّ ، أذكرُ فيمَا يخصّ ذلكَ أنني كنتُ أقرأ مرةً مجمُوعة قصصيّة مترجَمة لمجمُوعة قاصين إيرانيين فيما كنتُ في البَاص عائدةً إلى المنزل .. أطلّت امرأة كانتْ تعمل في الجمعيّة وسألتنيْ ما الذي أقرؤهُ .. فقلتُ لها : مجموعة قصصية لقاصين إيرانيين استعرتها من مكتبَة الجمعيّة.. ثمّ أردفتُ: هل تودين قراءتها؟ بالإمكان أن أعيركَ إياها ثمّ أعيديها لي .. وهكذا أعطيتها المجموعة، التي عادتْ بها في اليوم التّالي وهي تنظرُ إليّ وكأنها اصطادتنيْ وأنا أرتكب جريمَة .. نظرت إليّ بشكّ وقالت: قرأت الكتاب ولم أحبّه، بهِ مشاهد (ماصخَة) وأمور قلّة أدب .. أنت صغيرة ، لا تقرئي هذه الكتُب ..
والحقيقَة أني صعقتُ حينها وتعلّمت بأنّ هنالكَ تابوهاً محظوراً اسمهُ الجنس ، لا يلتفتُ كثيرونَ إليه حينَ قراءتهم لأيّ نصٍ أدبيّ ، منذ ذلكَ اليَوم تعلّمتُ ألا أثق بأحد وألا أشارك قراءاتي للآخرين إلا بحذَر خوفاً من أحكامٍ سطحيّة تعرضت لها بحسنِ نيّة ..
في مرحَلة متقدّمة وجدتني أمارسُ نكوصاً جميلاً إلى مؤلفات جابرييل جارسيَا ماركيز وبالإمكانِ أن أقولَ أن السنوَات الأخيرة هيَ سنوَات ماركيز بامتياز ، فالروَاية التي لم أحبّها قبل سنوات عدتُ إليها وعشقتُها .. شعرتُ حينها أني كنتُ صغيرةً جداً وساذجة حينَ فوّت مئويّة ماركيز ومنْ ثمّ احترفتُ قراءَة باقي رواياتهِ كخريف البطريرك والحبّ في زمن الكوليرا ولا أحد يكاتب الكولونيل وَمذكّرات عاهراتي الجميلات .. لقد شعرتُ فعلاً أني كنتُ غافلة تماماً عن عالم شيطانيّ يشكّل ماركيز ملامحهُ باحترافٍ شديدة وتقانة لا يتقبّلها سوَى قارئ يعرفُ ماركيز جيداً ما الذي يبحثُ عنهُ .. بعدَ روايَة خريف البطريرك التي استنزفتنيْ قراءتها أكثر من أيّ رواية أخرى أدركتُ أنّ ماركيز لم يخلقْ سوَى للمحترفين الذين تمنيتُ أن أكونَ ضمنهُم.. ضمن مساحاتهم وعوالمهم البوهيميّة ..
ينبغيْ أن أشيرَ هنا.. إلى أنّ كتباً لكتابٍ معينين أثّرت عليّ كثيراً على مسَار قراءاتي وانتقاءاتي .. بعد تلك الكتب شعرتُ أني مسؤولة تماماً الآن عن انتقاءٍ أكثر حرصاً لما أقرأه .. فمن يقرأ .. بيت الأرواح ، والعطر والمزحَة وكائن لا تحتمل خفّته يشعرُ أنهُ أصبحَ الآنَ انتقائياً أكثر فيما يودّ قراءتهُ
هنالكَ أيضاً ساحرٌ جميلٌ اسمهُ عبدالعزيز نيسين الذي اكتشفتُ مع قراءَة كتبهِ كسرنَامة، صحوَة النّاس ، تري لي لم ، الحمَار الميّت.. صنَاعة جديدة اسمهَا الكوميديا السّوداء التي كانَ نيسين يمارسهَا بحرفنَة عجيبَة خاصّة بماركَة لا يمتلكها إلا نيسين ..
الرّواية .. هيَ لبّ تاريخيَ القرائيّ .. الذي لمْ يخفتْ تأثير قراءاتي الشّعريّة لشعرَاء كدرويش وجوزِيف حرب وعدنان الصّائغ وبول شاوول ومريد البرغوثيّ وابراهيم نصر الله وآخرين على حضُوره كخَيار رئيسيّ لديّ للقراءَة ..
اليومَ وبعد مرورِ ما يزيدُ على عشرِ أعوامٍ منذ اكتشافيْ كائناً اسمهُ الكتاب يمارسُ دكتاتوريّة جميلة عليّ أحبّها وأقبّل تفاصِيلها، أشعرُ أني مبَاركة .. مباركة بهذهِ الرغبة في القرَاءة .. كممارسَة فضائحيّة ممتعة لا يمارسُ فيها أحدٌ سلطويّة بغيضة عليّ .. هذَا الشيطَان الجميل ينتصِرُ .. ينتصرُ مجدداً !
المصدر:
ملحق شرفات
الأربعاء غرة رجب 1430هـ/ 24 يونيو 2009م
|