الحضارة اليونانية
التحدث عن البدايات أمر صعب كل الصعوبة في كل ما يخص الانسان ، وعلى الأخص في حالة هذه النباتات المعقدة التركيب المتشابكة العلاقات التي تسمى بالحضارات ، ذلك أن البداية في التاريخ مفهوم ' بعدي ' بمعنى أن المؤرخ الذي يأتي بحكم وضعه بعد الأحداث هو الذي يحدد نقطة زمنية باعتبارها بدءا لتطورات مستقبلية .ولكنه واضح هنا مدى إمكان الوقوع في اختيارات ذاتيه ، أي غير موضوعيه ، كذلك فإن البشر الذين يبدأون تطورا ما ( في نظرنا ) لا يمكنهم أن يعوا كل إمكانيات هذا التطور ، وبالتالي فنادراً ما يعون هم أنفسهم أنهم بداية لشيء ، اللهم إلا في حالة الدعوة للأديان الكبري.
لسبب آخر هو أنه يسمح بنزع الستر عن أسطورة ' المعجزة الأغريقية '
ما هو المقصود بهذا التعبير : ' المعجزة الأغريقية ' ( أو اليونانية ' ؟
الكتاب الذين نشروا هذا المفهوم في القرن التاسع عشر الميلادي في الحضارة الغربية كانوا يقصدون به شيئين على وجه الخصوص.
1) أن الحضارة اليونانية والفكر اليوناني على الأدق يختلف إختلافاًٍ كبيراً أي في النوع ، عن كل التفكير ' الشرقي ' في الحضارات السابقة على اليونان .
2) أن العقل الإنساني بمعناه ' المطلق ' في زعمهم اكتشف نفسه علي هذا الشعب من التجار والملاحين متحررا من كل القيود ' المعجزة ' أي الشيء الخارق للعادة أو المألوف .
بعض خصائص الفكر اليوناني:
بعض خصائص حضارة ما في صيغة بسيطة أو أمر يكاد يكون مستحيلا ، لأن الحياة الإنسانية المعقدة تتعدى دائما كل التبسيطات ، التي قد تصدق في ميدان ، ولا تصدق على آخر ، ولكن هذه التبسيطات إذا كان هدفها التقريب وليس الحكم الجازم ، ولا نزعم أننا نملك حاليا هذه الصياغة السحرية خصائص الحضارة اليونانية ولهذا فإننا سنعرض لبعض الآراء في هذا الموضوع ومن أهم الآراء رأي اشبنجلر المؤرخ الألماني وفيلسوف الحضارة ، وملخص رأي اشبنجلر أن ' الروح ' اليونانية كانت مرتبطة باللحظة الحاضرة وليس بالماضي أو المستقبل ، ومن هنا تسود عندها فكرة السكون ، والنتيجة هي النفور من فكرة ' اللامتناهي ' وإيثار فكرة ' المتناهي ' من جهة أخرى تمتاز ' الروح ' اليونانية بخاصة ' الانسجام ' وهي عند اشبنجلر الخاصة الرئيسية لها والتي تعبر عنها فظة ' الأيولونية ' نسبة إلى الأله أبو للون ، وكل هذه الأفكار والخصائص تجد مظاهر لها في شتي جوانب الحضارة من سياسة ودين نوفن ولعم وفلسفة وصف اشبنجلر هذا يعبر عن حقائق ، ولكنه وصف جزئي .
وهناك رأي آخر جرج به ،' نيتشه ' وكان له أكبر الأثر في توجيه الدراسات اليونانية في مجال الحضارة وجهة جديدة ، وهذا الرأي يؤكد على ثنائية جوهرية كانت تتنازع ' روح ' الحضارة اليونانية فتميل طورا ، في هذا الجانب أو ذاك ومع هذا الشخص أو ذاك ، وإلي اتجاه أو إلي آخر ، هذان الاتجاهان أسماهما ' نيتشه ' بأسمى الهين رئيسيين من الآله اليونانية وهما : أبوللون وديونيسوس . أبوللون يمثل القوى العقلية ، والوضوح والانسجام والحلم أما ديونيسوس ، أبوللون يمثل القوى العقلية ، والوضوح والانسجام والحلم ، أما ديونيسوس فيمثل الغرائز والاحساس والاختلاط والنشوة حتى الثمل التي كانت تميز الاحتفالات بأعياد هذا الإله . كان هدف نيتشه هو تحطيم الصورة التقليدية ' الكلاسيكية ' للحضارة اليونانية التي لا يسودها إلا العقل ولا تعرف إلا الإتزان والهدوء ، ,وأراد أن يبين أن هناك وراء هذا المظهر عالما من الألم والمعاناة والحزن الذي كان يكبحه اليونان بمعونه تصورهم الواضح ' العقلي ' لآلهة الأولمب ، وهو نتيجة للروح الأبولونية .
هذه الآراء ، التي خرج بها كتاب من أول كتب ' نيتشه ' وهو ميلاد التراجيديا ' بدأت إتجها جديدا يفحص عن العناصر اللاعقلية اليت شاركت في تشكيل ' الروح اليونانية ' ولم تكتب لهذا الاتجاهة سيادة في ميدان البحوث إلا منذ عقود قريبة . ساعد على تقوية هذا الاتجاه ظهور نظرة جديدة في ' علم الإنسان ' ( الانثروبولوجيا ' أخذات تتجرأ شيئا فشيئا وتقارن بعض مظاهر الديانة اليونانية على الخصوص بمظاهر دينية عند القبائل التي أسماها الغرب المسيطر ' بالبدائية ' والنتيجة الآن هي أنه أصبح ينظر إلي الحضارة اليونانية على أنها حضارة من بين حضارات ، وأن بداياتها كانت ككل بدايات الحضارات القديمة، مشوية بألوان من الفكر والسلوك ' اللاعقلي ' التي استمرت تعيش في أغوار النفس اليونانية ، وإن كانت تكبحها دائما ' أوامر ' الروح الأبولونية .
والذي نؤكد عليه نحن فيما يخص مميزات الفكر اليوناني ، الخاضع بالتالي للعقل ، هو المميزات التالية : الوضوح ، النظام الاعتدال ، إلي جانب فكرتي : المتناهي والسكون .
السفسطائيون
فلنبدأ من أسم ' السفسطائي ' نفسه . كان هذا الاسم معروفا قبل عصرهم بوقت طويل وكان يعني الرجل الحكيم الذي أثبت أمام الجمهور قوة بارعة في الأمور العقلية أو أظره مهارته في جانب من جوانب النشاط. وهكذا كان سولون وفيثاغورس يلقبان بهذا الاسم ، وكذلك بيريكليز ، بل أن سقراط نفسه يأخذ هذا الاسم عند ارستوفانيز وعند إيزوقراط كاتب الخطب كذلك . هذا هو المعنى الأصلى . ولكن بدأ يظهر معه شيئا فشيئا إتجاه نحو الغيرة من هؤلاء ' الحكماء' المتفوقين إلى جانب المعني الأصلى والعام بدأ هاذ اللفظ في النصف الثاني من القرن الخامس يشير إلى المجموعة الي ستحتفظ بهذا الاسم لنفسها ، وهي مجموعة ' السفسطائيين ' .
أما الوصف الأدق فهو أنهم معلمون بالأجر ، فهم فعلا أول من حدد أجرا لدروسهم . وقد كان عظماء السفسطائيين لا يدرسون في العادة إلا للأثرياء ، القادرين ولكن الجيل التالي عليهم بدأ يوسع من جمهوره أكثر راضين بمبالغ أقل وصاحب هذا نفور عام من ربط العلم بطلب الرزق . والفكرة الرئيسية وراء هذا النفور هو أن العلاقة بين المعلم والتلميذ أما سقراط فكان يوفر لننفسه حريته بازاء تابعيه بعدم إرتباطه بهم مالياً . ويقول اكسينوفون إن أهم نفع يمكن أن يجنيه المعلم هو كسب صديق فاضل إذا نجح تعليمه . وقد شارك أفلاطون أستاذه في هذا الموقف وأكد على هذا الجانب عند السفسطائيين ، ليسهل عليه التشهير بهم . وهكذا أصبح لإسم ' السفسطائي' هذه الرائحة الخاصة المنفردة إلي مصدرها أفلاطون . ثم أرسطو ، والتي لم تكن هي السائدة في عصر السفسطائيين ، حتى أن أحد المؤرخين يشير إلى أنه لو أن زائرا لأثينا في الثلاثين عاما الأخيرة من القرن الخامس قبل الميلاد سأل أثينيا : من السفسطائي الأول عندكم ؟ لكانت الأجابة من غير شك : ' سقراط ' إذن فما فعله الإفلاطون شيئان : أنه أولا أخذ الأسم العام ليطلقه على مجموعة خاصة ، ثانيا أنه ألصق بها قصدا صفات غير مقبولة من عامة اليونانيين ، ولم يكن يحتويها مدلوله الأصلى .
الخاصية الثالثة للسفسطائيين هي أنهم كانوا معلمين متجولين ، ينتقلون من مدينة إلى أخري ، ويصطحبهم تلاميذهم أحيانا حتى ليكادون يشكلون حاضية لهم تنظر إليهم باحترام وهي على إنتباه دائم لكل ما ينطقون به . وقد كان السفسطائيون على حس اعلاني مرهف . فهم يعرفون كيف يعرفون وكيف يجتذبون تلاميذ جددا. وكانوا ينوعون من محاضراتهم . فبعضها كان من نوع ' العينة ' التي هدفها إبهار المستمع بمعارفهم وبلاغتهم حتى يرغب في الاستماع إليهم مرة أخرى ومنها محاضرات مقفولة على من يدفع .وقد كان وصول سفسطائي شهير إلى إحدي المدن حدثا ثقافيا هاما وكان أكبر المتحمسين للاتصال بهم الشباب الأثيني الراغب في التعليم على أيديهم ، ليشارك في السياسة وليصل إلى السلطة .
وتحتل الخطابة مكانا رئيسيا في نشاط السفسطائيين ، حتى أنهم في نظر البعض معلمو خطابة ولا شكل أنهم إنتقلوا من الاهتمام بالتعليم على وجه العموم إلي تعليم الخطابة على وجه الخصوص : من جهة لإهتمام تلامذتهم بأن يتهيئوا للعمل السياسي ، وأداته الأولي ربما كانت التأثير في الجماهير عن طريق الخطابة ، ومن جهة أخرى فإن الخطابة ترتبط بمفهوم ' الإقناع ' الذي إهتم به السفسطائيون
وإبتداء من الخطابة إهتم السفسطائيون باللغة أكبر الاهتمام . والمعروف مثلا عن بروديقوس تمييزه بين معاني الكلمات ، ويري بعض المؤرخين أن السفسطائيين هم مؤسسو علم النحو اليوناني .
ورغم أهمية الخطابة في نشاط السفسطائيين إلا أن القسم الأكبر من هذا النشاط كان موجها نحو ' تعليم الفضلية ' وهي سمة عامة لأغلب السفسطائيين ففي محاورة بروتاجوراس ' لأفلاطون نجد هذا السفسطائي بعرف نفسه بأنه يعلم التلميذ الذي سيأتي إليه ' علم النصيحة الصائبة ( الحكمة ) الذي سيعلمه أفضل وسيلة لإدارة منزله ، وسيجعله فيما يخص شئون المدنية في أفضل مركز ليعمل وليتكلم من أجلها ' ( 318 – 319 هـ) وهذه الوظيفة سنجدها كذلك عند سفسطائيين من الجيل الثاني التالي على جيل بروتاجوراس ، هما أوثيديموس وشقيقة اللذان يسألها سقراط في المحاورة المعروفة بأسم الأول منهما عن مهنتهاما الحالية الأن سقراط كان يعرف أنهما كانا يعلمان فن الحرب ) فيقولان له : ' هي تعليم الفضيلة' .
أفلاطون
يمتاز هذا الفكر العبقري عن روحه اليونانية الخالصة ومنهجه الفلسفي المنطقي المتكامل ، المسربل بالأسرار والتقاليد السحرية القادمة من الشرق بأن نظرياته وآراءه العميقة والمتخلفة بأخلاق الكمال والمثالية قد شملت الفلسفة العربية فأثرت فيها تأثيرا فعالا، وخاصة ما يتعلق بعلم التوحيد ، أو علم الأصول والأحكام ، وخلود النفس وسر مديتها وحدوث العالم .
يَقُول حكِيم يُونَانيّ:
كُنتُ أبكِي لأنّني أمشِي بِدون حِذاء
ولكِنّنِي تَوقّفت عَن البُكَاء!
عِندَمَا رأيتُ رَجُلاً بِلا قدَمين / [الرياح لا تحرك الجبال ولكنها تلعب بالرمال وتشكلها كما تشاء ]
|
|