منتديات حصن عمان - &المفصل في & تاريخ العرب قبل الإسلام &&
منتديات حصن عمان

منتديات حصن عمان (http://www.hesnoman.com/vb/index.php)
-   الدراسات الاجتماعية (http://www.hesnoman.com/vb/forumdisplay.php?f=73)
-   -   &المفصل في & تاريخ العرب قبل الإسلام && (http://www.hesnoman.com/vb/showthread.php?t=31802)

ملاك الشرق 17-04-2010 03:44 PM

وهجرات على هذا النحو، لا بد أن تكون لها أسباب ومسببات، اذ لا يعقل ترك إنسان لوطنه من غير سبب. وقد بحث القائلون بهذا الرأي عن الأسباب التي أدت إلى وقوع تلك الهجرات، فوضعوا لهم جملة فرضيات.
ظهر الساميون على مسرح الوجود في الألف الثالثة قبل الميلاد، واستقروا في هذه الأرضين التي اصطبغت بالصبغة السامية، وهي الهلال الخصيب وشبه جزيرة سيناء وجزيرة العرب، حيث تعد اليوم المواطن الرئيسية للساميين.
وقد توسط بعض الباحثين بين الآراء المتباينة، عن الوطن الأول للجنس السامي، فذهب إلى أن الهلال الخصيب وأطراف جزيرة العرب هي الموطن الأول للساميين والميدان الذي وجسوا فيه منذ أقسم أيامهم، وقد كان هذا الميدان موضع صراع بين البداوة والحضارة، فقد كان البدو يهاجمون الحضر سكان القرى والمدن، والبدو هم من الساميين، وكثير من الحضر كانوا من الساميين أيضا، ومن هذا التنازع على الحياة تكوّن تاريخ الساميين في هذه المنطقة الواسعة من الهلال الخصيب التي تهدها من الشرق والشمال والغرب الجبال والتي تمتد فتشمل كل جزيرة العرب.
الهجرات السامية
تقول كل النظريات التي رأيناها عن أصل الوطن السامي، بهجرات الساميين من ذلك الوطن الأم إلى أوطان أخرى في أزمان مختلفة متباينة، وذلك لأسباب عديدة منها: ضيق أرض الوطن من تحمل عدد كبير من الناس، وتزاحم الناس كل الرزق، مما دعاهم إلى التحاسد والتباغض والتفتيش عن وطن جديد، وظهور تغيرات في طبيعة ذلك الإقليم، إلى عوامل أخرى.


وقد تصور القائلون ان جزيرة العرب هي مهد الجنس السامي، بلاد العرب كخزان هائل يفيض في حقب متعاقبة، تبلغ الحقبة منها زهاء ألف عام، بما يزيد على طاقته من البشر إلى الخارج، يقذف بهم موجات أطلقوا عليها "الموجات السامية".
وقد علل القائلون بنظرية أن جزيرة العرب هي مهد الجنس السامي، سبب هذه الهجرات بعدم استطاعة جزيرة العرب تبول عدد كبير من السكان يزيد على طاقتها، فلا يبقى أمامهم غير سلوك طريق الهجرات إلى الأماكن الخصبة في الشمال. وقد كانت الطرق الساحلية من أهم المسالك التي أوصلت المهاجرين إلى أهدافهم.
وفي جملة أسباب ضيق جزيرة العرب عن استيعاب العدد الكبير من السكان تغير مستمر طرأ عليها، أدى إلى انحباس الأمطار عنها وشيوع الجفاف فيها مما أثر على قشرنها وعلى أحيائها، فهلك من هلك وهاجر من هاجر من جزيرة العرب، وقد استمر هذا التغير آلافاً من السنين حتى حوّل بلاد العرب أرضين غلبت عليها الطبيعة الصحراوية، وقلّت فيها الرطوبة، وغلب على أكر بقاعها الجفاف.
وقد رأى بعض العلماء أن جزيرة العرب كانت في عصر "البلايستوسين" "Pleistocene" حصبة جداً كثيرة المياه، تتساقط عليها الأمطار بغزارة في جميع فصول السنة، وذات غابات كبيرة وأشجار ضخمة، كالأشجار التي نجدها في الزمان الحاضر في الهند وإفريقية، وأن جوها كان خيراً من جو أوروبة في العصور الجليدية التي كانت تغطي الثلوج معظم تلك القارة، ثم أخذ الجو يتغير في العالم، فذابت الثلوج بالتدريج، وتغير جو بلاد العرب بالطبع، حدث هذا التغير في عصر ال "نيوليتتك Neolithic" أو في عصر ال "كالكوليتك" "Chalcolithic"، ولم يكن هذا التغير في مصلحة جزيرة العرب، لأنه صار يقلل من الرطوبة ويزيد في الجفاف، ويحول رطوبة التربة إلى يبوسة فيميت الزرع بالتدريج، ويهيج سطح القشرة فيحولها رمالاّ وتراباً ثم صحارى لا تصلح للإنبات ولا لحياة ا لأحياء.



فاضطر سكان الجزيرة الذين كانوا من الصيادين إلى أن يكيفوا أنفسهم بحسب الوضع الجديد، فأخذ ناس منهم يهاجرون إلى مناطق أخرى ملائمة توائم حياتهم ومزاجهم، وأخذ ناس آخرون يعتمدون على الزرع وتدجين الحيوانات، وعلى الاكتفاء بصيد ما يرونه من حيوانات تحملت الجو الجديد متنقلين من مكان إلى مكان حيث الكلأ والماء. وهكذا تعرضت حياة الأجسام الحية من نبات وحيوان لتغيرات تدريجية مستمرة، فرضها عليها تغير الجو.
وقد أسى انحباس المطر وازدياد الجفاف ويبوسة الجو إلى انخفاض الرطوبة من سطح الأرض، وهبوط مستوى الماء بالتدريج عن قشرة الأرض، وظهور الأملاح في الآبار، وجفاف بعض الآبار، فأدى ذلك إلى ترك الناس هذه الأماكن، إذ صعب عليهم استغلالها بالزراعة، وإصلاحها بحفر آبار لا تساعد مياهها الملحة على نمو النبات، ومعيشة الحيوان. حدث ذلك حتى في العصور الإسلامية حيث نسمع شكاوى مريرة من هذه العوارض الطبيعية.
وقد تحدث "فلي" عن هبوط مستوى مياه بعض الآبار التي زارها عام 1917 م في الخرج، كما تحدث غيره من السياح عن حوادث مشابهة حدثت في تهامة والحجاز وأماكن أخرى.
ويعزو علماء طبقات الأرض انخفاض مستوى سطح الماء في جزيرة العرب إلى عوامل أخرى، إضافة إلى الجفاف مثل هبوط درجات الضغط على قشرة الأرض. وقد رأى الخبر الأمريكي "تويجل" "Twitchell"، أن الماء قد انخفض زهاء سبع وعشرين قدماً عن مستواه الذي كان عليه قبل ألفي عام. ومن العلماء من يرى أن مستوى سطح الماء في البحر الأحمر وفي الخليج العربي قد انخفض كذلك، فذهب بعض علماء دراسة التوراة إلى أن مستوى سطح الماء في خليج السويس قد انخفض "25" قدماَ عما كان عليه في "أيام الخروج - Exodus".

ملاك الشرق 17-04-2010 03:46 PM

وذهبت جماعة منهم إلى أن هذا الهبوط لم يكن كبراَ، وإنما بلغ زهاء ست أقدام أو أقل من ذلك في خلال ثلاثة آلاف سنة. اما مستوى سطح الخليج العربي، فقد هبط على راي بعضهم زهاء عشر أقدام أو خمس أقدام خلال ألفي عام، وان ماء البحر قد تراجع في هذه المدة، ويستدلون على ذلك بوجود السباخ في الأحساء والقطيف، وهي، في رأيهم، من بقايا تأثر البحر في الأرض وبما ذهب اليه بعضهم من أن الربع الخالي، وقد عثر فيه على بقايا بحر واسع في السهل المنخفض الذي يقال له أبو بحر، كان متصلاً بالبحر العربي. ومهما يكن من شيء، فإن هبوط. مستوى سطح الماء مهما كان مقداره قد أثر في سطع الأرض.
وقد وجد السياح محاراً من النوع الذي يكون في المياه العذبة، وأدوات من للصوان ترجع إلى ما قبل التاًريخ والعصور الحجرية، وبقايا عظام ترجع إلى هذه العصور في مناطق صحراوية، ويدل وجودها فيها على أنها كانت مأهولة، وأنها لم نهمل إلا لعوارض طبيعية قاهرة لم يكن من الممكن التغلب عليها، حولت تلك المناطق الخصبة في ألوف من السنين إلى مناطق لا تتوفر فيها شروط الحياة، فهجرت.
كما أننا نجد في الكتب العربية ذكر أشجار ضخمة كانت تنمو في مناطق لا تنبت شيئا ما في الزمان الحاضر، وذكر مناطق كانت تحمي، يقال لها "الحمى" وقد جفّ معظمها، وعاد أرضين قفرة جردء، فهلاك هذه النباتات وجفاف هذه الأرضين، لا يمكن أن يعزى إلى سوء الأوضاع السياسية وهجرة القبائل والمزارعين إلى أماكن أخرى لفساد الإدارة في الأماكن البعيدة حسب، بل لا بد ان يكون للطبيعة يد في هذا التحول ونصيب. إن هذا التغير الذي حدث في جو جزيرة العرب، فساعد على ازدياد الجفاف وانحباس الأمطار، قد أباد النباتات، وقاوم نمو المزروعات، وعفى على الأشجار الضخمة التي كانت تعيش من امتصاص جذورها العميقة للرطوبة من أعماق الأرض، كما أثر في حياة الحيوان كالأسد الذي قلّ وجوده، وقد كان كثير الوجود، ويدل على كثرة وجوده هذه الأسماع الكثيرة التي وضعت له وحفظت في كتب اللغة. وحمار الوحش وقد كان من الحيوانات التي يخرج الناس لصيدها في الحجاز وفي نجد، والنعامة. والرئم أو بقر الوحش، والفهد، والنسر.



ومن العلماء الذين نسبوا هجرة الساميين من جزيرة العرب إلى خارجها، إلى عامل الجفاف والتغير الذي وقع في جو جزيرة العرب، العالم الايطالي "كيتاني" "L.Caetani". لقد تصور "كيتاني" بلاد العرب في الدورة الجليدية جنة، بقيت محافظة على بهجتها ونضارنها مدة طويلة وكانت سبباً في رسم تلك الصورة البديعة في مخيلة كتاب التوراة عن "جنة عدن". وجنة عدن المذكورة في العهد القديم هي هذه الجنة التي كانت في نظر "كيتاني" في جزيرة العرب، غير أن الطبيعة قست عليها، فأبدلتها صحارى ورمالأ، حتى اضطر أصحابها إلى الارتحال عنها إلى أماكن تتوافر فيها ضروريات الحياة على الأقل فكانت الهجرات إلى العراق وبلاد الشام ومصر والمواطن السامية الأخرى. وكانت هذه الهجرات كما يقول قوية وعنيفة بين سنة 2500 وسنة 1500 قبل الميلاد، فدخل الهكسوس أرض مصر، وهاجر العبرانيون إلى فلسطين، ثم ولي ذلك عدد من الهجرات.
ويرى "كيتاني" أن هذا التغير الذي طرأ على جو جزيرة العرب، إنما ظهر قبل ميلاد المسيح بنحو عشرة آلاف سنة، غير أن أثره لم يبرز ولم يؤثر تأثيراً محسوساً ملموساً إلا قبل ميلاد المسيح بنحو خمسة آلاف سنة. وعندئذ صار سكان بلاد العرب، وهم الساميون، ينزحون عنها أمواجاً، للبحث عن مواطن أخرى يتوفر فيها الخصب والخير، وحياة أفضل من هذه الحياة التي أخنف تضيق منذ هذا الزمن.
وقد تصور "كيتاني" أودية جزيرة العرب، مثل وادي الحمض ووادي السرحان ووادي الرمة ووادي الدواسر، أنهاراً كانت ذات مياه غزيرة تنساب أليها من المرتفعات والجبال في الدهور الغابرة، أثرت فيها التغيرات الطبيعية المذكورة، فقلت من مياهها حتى جفت، فصارت أودية، لا تجري فيها المياه إلا أحياناً، إذ تسيل فيها السيول بعد هطول الأمطار.

وقد ذهب إلى هذا الرأي المستشرق الألماني "فرتز هومل" أيضا، فرأى أن الأنهر المذكورة في التوراة على أنها أنهر جنة "عدن"، هي أنهر تقع في بلاد العرب، وأن الأنهر المشار أليها، هي وادي الدواسر، و وادي الرمة، ووادي السَّرحان، ووادي حَوْران. وأما "كلاسر"، فذهب إلى أن نهري "جيحون" و "فيشون"، وهما من أنهر "جنة عدن" الأربعة في رواية التوراة، هما في جزيرة العرب.
ويعتقد "كيتاني" أن الفيلة والحيوانات الضخمة التي يندر وجودها اليوم في بلاد العرب، كانت موجودة فيها بكثرة، ولا سيما في أرض "مدين". وكان الصيادون يخرجون لاصطيادها لأكل لحومها. وقد جاء بأمثلة لتأييد رأيه من كتب "الكلاسيكيين".
وقد قسّم "كيتاني" جزيرة العرب إلى قسمين: غربي وشرقي. أما القسم الغربي، فهو الذي على ساحل البحر الأحمر الشرقي، وفيه سلاسل جبلية ومرتفعات. و أما القسم الشرقي، فالأرضون التي تأخذ في الانحدار والميل. وهي عند السفوح الشرقية للجبال، وتمتد نحو الخليج. وقد كان سكان المناطق الغربية -في رأيه - في مستوى راق من المدنية، وكان لهم سلطان كبير على المناطق الشرقية، وعلى سكانها الذين كان يغلب عليهم الفقر. وقد كان فعل الجفاف أشد وأسرع في الأرضين الشرقية منه في الأقسام الغربية، لذلك بدأت الهجرات من هذه المناطق قبل المناطق الغربية، وظهرت فيها البداوة بصورة أوضح من ظهورها في الأرضين التي على ساحل البحر الأحمر والمتصلة باليمن وبلاد الشام. ولما توسعت منطقة الجفاف وأخذت الرطوبة تقلّ في جو بلاد العرب الغربي، ظهرت أعراض الصحراوية في تلك الأرضين كنللك، واضطر السكان إلى الهجرة منها إلى مناطق أخر ى.

ملاك الشرق 17-04-2010 03:47 PM

وقد لاقت نظرية "كيتاني" هذه رواجاً بين عدد كبير من المستشرقين، واعتدها "السير توماس أرنولد" من أهم النظريات التي اكتشفها المؤرخون الحديثون بالنسبة إلى التاريخ العربي. غير أن المستشرق "الويس موسل"، يرى أنها لا تستند إلى أسس تاريخية، ولا إلى أدلة علمية، وأن القائلين بها قد بالغوا فيها مبالغة كبيرة، ويرى أنه ما دامت البحوث "الجيولوجية التي قام بها العلماء في مراحلها الأولى، قد جرت في مناطق محدودة فلم تفحص أكثر مناطق جزيرة العرب فحصاً علمياً فنياً، حتى الآن، فلا يصح الاعتماد على فرضيات، تبنى عليها آراء ثابتة. ولهذا فهو يرى أن الأدلة "الجيولوجية" التي استشهد بها "كيتاني" ضعيفة وغير كافية، فهي لا تستحق مناقشة، واكتفى بمناقشة الأدلة التأريخية.
يرجع "موسل" سبب الهجرات، وتحول الأرضين الخصبة صحارى، إلى عاملين هما: ضعف الحكومات، وتحول الطرق التجارية. فضعف الحكومات ينشأ عنه تزعم سادات القبائل و الرؤساء، و انشقاقهم على الحكومات المركزية، ونشوب الفتن والاضطرابات واشتعال نيران الحروب، وانصراف الحكومة والشعب عن الأعمال العمرانية، وتلف المزارع والمدن، وتوقف الأعمال التجارية وحصول الكساد، وانتشار الأمراض والمجاعة، والهجرة إلى مواطن أخرى يأمن فيها الإنسان على نفسه و أهله وماله. فخراب سدّ "مأرب" مثلاً لا يعود إلى فعل الجفاف الذي أثر على السدّ كما تصور ذلك "كيتاني"، بل بعود إلى عامل آخر لا صلة له بالجفاف، هو ضعف الحكومة في اليمن، وتزعم "الأقيال" و "الأذواء" فيها، وتدخل الحكومات الأخرى في شؤون العربية الجنوبية كالحبشة والفرس، مما أدى إلى اضطراب الأمن في اليمن، وظهور ثورات داخلية وحروب، كالذي يظهر من الكتابات التي تعود إلى النصف الثاني من القرن للسادس للميلاد، فألهى ذلك الحكومة عن القيام بإصلاح السد، فتصدعت جوانبه، فحدث الانفجار، فخسرت منطقة واسعة من أرض اليمن مورد عيشها الأول، وهو الماء، ويبست المزارع التي كانت ترتوي منه، واضطرت القبائل وأهل القرى والمدن الواقعة فيها إلى الهجرة إلى مواطن جديدة. وتصدع السد بسبب ضغط الماء على جوانبه،هو في حد ذاته دليل على فساد نظرية الجفاف.

ويرى "موسل" أن التقدم الذي حدث في البلاد العربية بعد القرن التاسع عشر دليل آخر على فساد نظرية "كيتاني"، فقد ظهرت مدن حديثة، وعمرت قرى، وشقت ترع، وحفرت آبار، وعاش الإنسان والحيوان والنبات في مناطق من العراق وسورية ولبنان وفلسطين والأردن كانت تعد من الأرضين الصحراوية. فليس الجفاف هو المانع من عمارة هذه المناطق، والسبب في تكون هذه الصحارى، بل السبب شيء آخر، هو ضعف الحكومات وانصرافها عن العمارة وعن المحافظة على الثروة الطبيعية وضبط الأمن، ووقوفها موقف المتفرج تجاه قطع الناس للأشجار واستئصالها لاستخراج الفحم منها، أو لاستعمال خشبها في أغراض أخرى، وقتال القبائل بعضها ببعض، هذا وان من الممكن إعادة قسم من الأرضن الجرد إلى ما كانت عليه، إذا ما تهيأت لها حكومة قوية رشيدة تنصرف إلى حفر الآبار، و إقامة السدود، وغرس الجبال، وإنشاء الغابات، والاستفادة من مياه العيون.
وبرى "موسل" أيضا أن ما ذكره "كيتاني" عن الأنهار في جزيرة العرب مسالة لا يمكن البت فيه ألان، لقلة الدراسات العلمية، كما ان ما ذكره عن انعدام أجناس من الحيوانات، ليس مرده إلى الجفاف وعدم احتمال تلك الحيوانات الجو الجديد، فهلكت، أو هاجرت إلى مواطن جديدة، بل مرده في نظره إلى اعتداء الإنسان عليها، وقتله اياها. ودليله على ذلك أن الحيوانات التي ورد ذكرها في كتب "الكلاسيكيين" لا تزال تعيش في المناطق التي عيّنها أولئك الكتاب، ولكنها بقلة. كذلك نجد الهمداني وغيره ينكر وجود الأسد و حيوانات أخرى في مواضع قل فيها وجودها الأن، وهذا مما يشير إلى أن هذه الحيوانات لم تنقرض أو تقل بفعل تبدل الجو، بل بفعل اعتداء البشر عليها، وان اعتداء البشر على الحيوان شر من اعتداء الطبيعة عليه.


ولا يوافق "موسل" على نطرية "كيتاني" في هجرة القبائل العربية من الجنوب إلى الشمال، أو من الشرق إلى الشمال. وقد رأى "كيتاني" كما سبق أن ذكرنا تقسيم جزيرة العرب إلى قسمين: قسم غربي وهو الممتد من فلسطين إلى اليمن، وينتهي بالبحر العربي، وتكون حدوده الشرقية "السراة" والغربية البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وقسم شرقي، وهو ما وقع شرقي "السراة" إلى الخليج والبحر العربي.
وقد ظهر الجفاف في رأي "كيتاني" في القسم الشرقي قبل الغربي، وهذا صار سكانه يهاجرون منه بالتدريج إلى مواطن جديدة صالحة للاستيطان مثل العراق والشام، كما صار سبباً لظهور الصحارى الشاسعة في هذا القسم بصورة لا نعهدها في القسم الغربي. و يرى "موسل" أن هذا التقسيم لا يستند إلى أسس طبيعية و جغرافية، ولا إلى أراء "الكلاسيكين"، أو علماء الجغرافية العرب، أو غيرهم و انه مجرد رأي لا يكون حجة لإثبات هذا الرأي.
و لموسل رأي في الهجرات، يرى أن ما قاله "كيتاني" و غيره عن الهجرات من جزيرة العرب، من اليمن أو من نجد إلى الشمال، قول لا يستند إلى دليل تاريخي قوي. فليست لدينا حتى ألان براهين كافية تثبت - على حد قول موسل- أن أصل "الهكسوس" أو "العبرانيي" مثلا من جزيرة العرب. كما إن ما ادعاه "كيتاني" عن استمرار الهجرات من الألف الثالث أو قبل ذلك قبل الميلاد إلى القرن السابع بعد الميلاد قول لا ينطبق مع المنطق. فَلِمَ ضلت هذه الهجرات مستمرة إلى أن توقفت بعد القرن السابع للميلاد? أزدادت الرطوبة و تحسن الجو? أم أن القبائل الكبيرة قد تجزأت إلى قبائل صغيرة و عشائر و أفخاذ، فأصبح في إمكانها العيش بعض الشيء في محال صغيرة، لا تحتاج إلى مراعي شاسعة ، و لا إلى مياه غزيرة? فلم تدفعها الحاجة منذ هذا العهد إلى الهجرة في شكل موجات كبيرة و هل كان الجفاف هو المانع من مهاجمة حدود الإمبراطورتين البيزنطية و الساسانية كانتا قد سدتا أبواب جزيرة العرب على اهلها، فلم تسمحا بتخطي هذه الحدود? و يرى إن ما ادعاه "كيتاني" من أن الجفاف والجوع حملا قبائل اليمن على الهجرة إلى الهلال الخصيب حيث نزلت في أرضين كانت خالية مهجورة على أطراف الفرات والشام، فألفت حكومتي "المناذرة" و "الغساسنة"، قول لا يؤيده ما جاء في الكتب "الكلاسيكية" وفي المصادر "السريانية" من أن تلك الأرضين كانت عامرة، آهلة بالسكان، تمر بها الطرق التجارية العالمية. ويرى "موسل" أن الحكومتين "اللخمية" و "الغسانية" إنما ظهرتا بعد سقوط "تدمر" وقد أسس الدولتين "مشايخ من أهل الهلال الخصيب،ولم يكونوا مهاجرين وردوا من الجنوب، أو من العروض على نحو ما تزعمه بعض الروايات.

ملاك الشرق 17-04-2010 03:49 PM

و يأخذ "موسل" على "كيتاني" تصديقه الرواية العربية عن هجرة القبائل ونظريتها في الأنساب، واعتدادها من جملة الأدلة التي تثبت نظرية الجفاف. ويرى أنها - مع التسليم بصحتها - تنطبق على الوضع الذي كان في القرن السابع للميلاد وفي الجاهلية القريبة من الإسلام، وأنها رواية تستند إلى خبر مسوغ لا يصح أن يكون سنداً في إثبات الهجرات لما قبل الميلاد.
ويمكن تفسير انتساب القبائل - على حد قول موسل - بصورة أخرى، هو ان العرب الجنوبيين كانوا قد هيمنوا في الجاهلية وقبل الإسلام بقرون على الطريق التجارية التي تصل الشام باليمن وعلى الطرق التجارية الأخرى، وكانت لهم حاميات فيها لحماية القوافل من غارات الأعراب، فلما ضعف أمر حكومات اليمن، استقلت هذه الحاميات، وكان كثيراً من أفرادها قد تزاوجوا مع من كان يجاورهم من القبائل، واتصلوا بهم. ولما كان لليمن مقام عظيم وشر ف بين القبائل، انتسب هؤلاء إلى اليمن، وصاروا يعدون أنفسهم مهاجرين، يتصل نسبهم بنسب اليمن. ومن هنا نشأت، في رأي "موسل" أسطورة الأنساب ثم جاء علماء الأنساب في "المدينة" و "الكوفة" فسجلوها على أنها حقيقة واقعة، ومنهم انتقلت إلى كتب التأريخ، فتوسعت وتضخمت في الإسلام.
ويدّعي "موسل" أنه لو كانت هنالك هجرات حقاً، لرأينا أثرها في لغة القبائل النازحة إلى الشمال وفي عقيدتها الدينية وفي ثقافتها وفي أساطيرها وفي قصصها الشعبي، ولوجدنا في أقل الأحوال إشارة في الكتابات العربية الجنوبية التي تعود إلى ما قبل الإسلام. ولكننا لا نجد في شيئاً من ذلك، وهذا مما يفند رأي القائلين بالهجرات، وباًن أصل كثير من القبائل التي كانت تقيم في شمال جزيرة العرب، ومن هؤلاء الغساسنة والمناذرة، هم من اليمن.


ويعترض "موسل" أيضا على دعوى "كيتاني" وغيره من المستشرقين ممن زعموا أن الفتح الإسلامي هو آخر هجرة سامية قذفت بها جزيرة العرب إلى الخارج، وأنها كانت بسبب الجفاف والجوع، ويرى أن ما جاء في هذه الدعوى لا يتفق مع الحقيقة، وأن ما ذكوه "كيتاني" عن عدد نفوس الحجاز مبالغ فيه، وأن الجيوش التي اشتركت في فتح العراق والشام وفلسطين لم تكن حجازية أو نجدية حسب، بل كانت فيها قبائل عراقية وشامية نصرانية، ساعدت أبناء جنسها العرب مع اختلافها مع المسلمين في الدين، وحاربت الروم والفرس، ولذلك فليست الفتوحات الإسلامية هجرة من جزيرة العرب إلى الخارج على نحو ما تصوره "كيتاني" بدافع الفقر والجوع.
والرأي عندي أن ما يسمى بموضوع تغير الجو في جزيرة العرب وبالهجرات للسامية والاستشهاد بآثار السكنى عند حافات الأودية وفي أماكن مهجورة نائية، لأتخاذ ذلك دليلا على الوطن السامي وعلى هجرة الساميين، هو موضوع لم ينضج بعد، وهو لا يزال بعد يحتاج إلى دراسات علمية وإلى نتائج أبحاث علماء "الجيولوجيا" والعلوم الأخرى، ليقولوا كلمتهم في هذا الموضوع. فعلى بحث هؤلاء يتوقف الحكم في موضوع تطور الجو وتغير الإقليم. أما الحدس والتخمين، وأما الاعتماد على حوادث وعلى بحوث لغوية ومقابلات ومطابقات في أمور دينية ثقافية أخرى، فأنها لا تكفي في نظري للبت في قضايا يجب أن يكون فيها الحكم والكلمة لمعلوم لا للحدس والتصور والتخمين. هذا هو رأيي الآن في هذا الموضوع،



وفي كل الآراء الواردة عن مواطن الساميين.
فقد رأينا أن بعض تلك الآراء إنما قيلت لاعتقاد أصحابها بما ورد في التوراة، فجاءت بكل ما عندها من حجج وأدلة لإثبات رأيها هذا، ورأينا لن في بعض الأدلة متناقضات و استشهادات ضعيفة، ورأينا أن الاستشهاد باشتراك اللغات في الألفاظ لا يمكن أن يكون دليلاَ قاطعاً على الأصل المشترك، ثم إننا لا نملك سجلاَ تاريخياً للنبات والحيوان ولظهور الألفاظ حتى نستشهد به في إثبات نظرية من النظريات، كل ما لدينا من هذا النوع إنما هو مجرد رأي وحدس. والرأي لا يكون رأياً علمياً إلا بحجة قاطعة وبدليل علمي دامغ وبحوث مختبرية وآثار تثبت ذلك للعيان، فمن حقي إذن أن ألتزم التريث والانتظار وأستعجل العلماء المتخصصين في دراسة طبقات الأرض، لنرى نتائج بحوثهم لنستنير بها في إعطاء أحكام في هذه الآراء.
أما بعض الأمثلة التي استُشهد بها لإثبات تغير جو جزيرة العرب، فهي أمثلة لا يمكن أن تكون دليلاّ للتغير، وإنما ترجع إلى عوامل أخرى مثل تغير طريق القوافل، وتغير اتجاهات السفن البحرية، وإلى الفتن والحروب وغارات القبائل المتوالية التي هي من شر الأوبئة التي فتكت بالمجتمع العربي، فسببت هرب الحضر من أماكن إقامتهم إلى أماكن أخرى، لعدم وجود قوات نظامية وحكومة ترد اعتداءات الأعراب عليهم،


ثم الحروب الأهلية التي وقعت في اليمن بين الحبش وأهل اليمن وأمثال ذلك مما وقع بين الفرس والعرب. أما في الإسلام، فقد كان للفتوحات دخل كبير في هجرة القبائل لنشر الإسلام وللاستمتاع بخيرات بقاع جديدة في العراق وفي بلاد الشام وفي أمكنة أخرى لا يوجد لها مثيل في جزيرة العرب، فتخربت لذلك بعض القرى والسدود القديمة التي كانت في الإسلام، وهي اليوم خراب. أضف إلى ذلك الحروب والفتن التي وقعت في اليمن وفي باقي العربية الجنوبية والعروض في أيام الأمويين والعباسين وفي الأيام التي تلتهم، فنشرت في تلك الديار الخراب، ثم إهمال الأمويين ومن جاء بعدهم من خلفاء وملوك وحكام شأن جزيرة العرب، لفقرها وعدم وجود موارد غنية فيها، وانتقال أصحابها أصحاب الجاه والنفوذ إلى البلاد الغنية، ولم يبق من يدافع عنها ويتحدث بلسانها باعتبارها مهد العرب الأول ومهد الإسلام، فتقوى الخراب بذلك على العمار، وأخذ يبتلع ما يجده أمامه من مستوطنات حتى وصلت إلى ما وصلت أليه اليوم.
والدليل على ذلك، ورود أسماء مواضع عديدة في اليمامة وفي الحجاز وفي نجد واليمن وفي كل أنحاء جزيرة العرب الأخرى في الموارد العربية الإسلامية، كانت مأهولة مزروعة في صدر الإسلام، خربت وهجرت وصارت أثراً، وقد ذهب عن أكثرها حتى الاسم. فلما كتب عنها الجغرافيون لم يجدوا من عمرانها شيئا. بل نجد في كتب الجغرافيين أسماء مواضع نزلوا بها وأقاموا فيها، وكانت معمورة مسكونة. أما اليوم فلم يبق من أكثرها شيئاً، فهل نرجع فعل هلاكها إلى الجفاف وتغير الجو وإلى اندثار الو*********ت والبحيرات والأنهار? إن الجغرافيين المذكورين لم يشيروا إلى وجود و*********ت وبحيرات وأنهار حتى نقول بفعل الجو فيها، بل هنالك عوامل أخرى عديدة اضطرت الناس إلى ترك مواطنهم تلك التي ذكرتها، وفي مقدمتها الفتن والغزو وتغير الطريق وعدم قيام حكومة قوية تحمي الأمن.

ملاك الشرق 17-04-2010 03:49 PM

وأما موضوع الاستشهاد بالهجرات، فإنه موضوع غامض محتاج إلى دراسة علمية عميقة، فالذين يرون أن جزيرة العرب كانت مهد الجنس السامي،وضعوا نظريتهم هذه قياساً على روايات أهل الأخبار من أمر هجرة العرب إلى تلك الأرضين، ومن الفتح الإسلامي الذي جرف قبائل عدنانية وقحطانية فساقها إلى بلاد العراق وبلاد الشام وإلى ما وراء هذه الأرضين، ومن هجرة قبائل من جزيرة العرب إلى تلك البلاد حتى الزمن القريب،ومن أخبار عن هجرة الفينيقيين من البحرين إلى بلاد الشام. ولكننا تجد من ناحية أخرى ان التوراة تذكر آن الاسماعيليين هم سكان أرضين تقع في الأقسام الشمالية الغربية من جزيرة العرب وفي شرق فلسطين في البادية وفي طور سيناء، والأخباريون يذكرون أن العدنانيين هم من سلالة اسماعيل أي أنهم اسماعيليون، ويذكرون أنهم جاؤوا من الشمال فسكنوا الحجاز، وأن جدهم رفع قواعد البيت الحرام، ونرى أن اليهود زحفوا من فلسطين نحو الحجاز، وأن أقواماً من سكان العراق زحفوا نحو الجنوب فسكنوها في العروض. وان قبائل عراقية كالقبائل العبرانية هاجرت من العراق إلى بلاد الشام ثم إلى مصر ثم عادت إلى بلاد الشمام، فمثل هذه الهجرات تلفت النظر وتجعل الباحث يبحث عن أمثلة أخرى من هذا القبيل، لعله يجد غيرها أيضا. وهي تجعله يشعر أن الهجرات لم تكن دائماً في اتجاه واحد، بل كانت حركة دائمة نتجه مختلف الاتجاهات، لعوامل سياسية واقتصادية وحربية ساحتها من شمال بلدية الشام إلى سواحل البحر العربي في الجنوب، ومن سواحل البحر الأحمر إلى سواحل الخليج العربي، فهي ليست هجرات بالمعنى الذي نفهمه من الهجرات في لغة علماء الساميات، ذات أزمان معينة لها أمد محدود كألف عام أو أكثر من ذلك أو أقل، و بمقياس ضخم كبير، بل هي حركة دائمة لقبائل أو لجماعات تتنقل من مكان إلى مكان طلباً للمعاش أو لأحوال سياسية وحربية، فهي هجرة بهذا المعنى إذن ليس غير. فهذه الأرضون التي تشمل كل جزيرة العرب والعراق إلى حدود الجبال وكل البادية الواسعة حتى سواحل البحر الأبيض فطور سيناء إلى نهر النيل،



هي مواطن الساميين، ومسارحهم التي كانوا وما زالوا يدرجون عليها. وقد درجت عليها أقوام أخرى أيضا ليست بأقوام سامية، قبل الميلاد وبعده، بل حتى في زمن الاسلام، ولكنها غلبت على أمرها، وصهرت في بوتقة الساميين، أمثال الفرس واليونان والرومان والصليبيين. فقد بقي من هؤلاء خلق اندمجوا بهم وتخلقوا بأخلاقهم وتكلموا بألسنتهم بمرّ السنين، حتى صاروا مثلهم ومنهم، وبذلك امتزجت دماء الساميين بدماء غريبة عنهم فدمهم من هنا ليس بدم صاف نقي، وليس في الأجناس البشرية جنس يستطيع أن يفخر فخراً مطلقاً بكونه الجنس النقي الخالص الذي لم يختلط قط بأي دم غريب.
أضف إلى ما تقدم أن العلماء القائلين بتبدل الجو وبتغيره، هم على خلاف بينهم في الأزمنة وفي الأسباب. فمنهم من بالغ، ومنهم من أفرط حتى قال إن الجو في جزيرة العرب كان يختلف في أيام اليونان والرومان عنه في الأيام الحديثة. ومنهم من قال إن الجو لم يتبدل تبدلا محسوسا مؤثرا فيها منذ حوالي ألفي عام، و منهم من عزا أسباب انخفاض مستوى الماء الارضي في جزيرة العرب إلى عوامل ليست لها صلة بتبدل الجو، وعزا خراب القرى و المدن و اندثار السدود إلى عوامل أخرى لا علاقة لها بتبدل الجو. ومع كل ذلك، فأن هذه الدراسات لم تنضج بعد، ودراسة جزيرة العرب و جوها لم تتم بصورة علمية مختبرية بعد، و أكثر ما ذكرته هو ملاحظات مؤرخين أو باحثين علميين، على نحو من الحدس و التخمين، و لا يمكن بناء نظريات معقولة على مثل هذه الآراء.
إن هذه الملاحظات تدفعني إلى التريث في البت في وطن الجنس السامي،حتى تتهيأ دراسات أخرى علمية دقيقة عنه، لأن الأخذ بالقياس، و بمجرد الملاحظات والمشاهدات، لا يمكن أن يكون دليلاً علمياً مقنعاً في تثبيت الوطن الأول الذي ظهر فيه هدْا النسل الذي نسميه بالنسل السامي. وان كنت أجد أن جزيرة العرب قد أمدّت الأقسام العليا منها، وهي بلاد العراق والبادية وبلاد الشام بفيض من الناس، بصورة دائمة مستمرة، وذلك لأسباب عديدة عسكرية واقتصادية، و إنها لم تأخذ من تلك الأرضين مثل هذا الفيض.

ملاك الشرق 17-04-2010 03:51 PM

إن نظرية موطن الجنس السامي، هي في نظري جزء من مساًلة كبرى معقدة، هي مساًلة موطن الجنس البشري بكامله، هل هو موطن واحد في الأصل، أو جملة مواطن، وإذا كان ذلك الموطن موطناً واحداً، فأين كان? وكيف ظهرت هذه الأجناس البشرية بألوانها المتعددة وبسحنها المختلفة? إن هذه بحوث، على البشرية أن تضني نفسها في البحث عنها! وكل بحوثنا الآن حدس وتخمين، حتى يترقى العلم البشري إلى درجات فدرجات.
اللغة للسامية لأم
تدفعنا هذه النظريات التي قالها العلماء عن السامية وعن القرابة اللغوية التي نراها في مجموعة اللغات السابة، وعن اشتراكها في كثير من أسس النحو والصرف، لد التفكر في أن جميع هذه اللغات تفرعت من لغة واحدة هي أم اللغات للسامية، "Uresmitisch" كما يعير عنها بالألمانية. ويدفعنا ذلك إلى البحث عن أقدم النصوص المدونة في اللغات السامية، وعن الخصائص الأساسية المشتركة بين كل هذه اللغات، للوقوف على اللغة السامية الأولى التي انقرضت، وبقيت آثارها في هذه الجذور التي غذت اللغات السامية القديمة منها والحديثة بالخصائص السامية، وعن اقرب الفروع التي انفصلت من الأم.
لقد بحث المستشرقون في هذا الموضوع ولا يزالون يبحثون فيه، فمنهم من وجد أن العبرانية أقدم اللغات السامية، وأقربها عهدا بالأم، ومنهم من رأى إن العربية على حداثة عهدها جديرة بالدراسة والعناية، لأنها نحمل جرثومة السامية، ومنهم من رأى القدم للآشورية أو البابلية، وهناك من رأى غير ذلك. وبالجملة، بر يدع أحد من العلماء أنه توصل إلى تشخيص لغة "سام"، وتمكن من معرفة اللغة التي تحدث بها مع أبيه "نوح" أو مع أبنائه الذين نسلوا هذه السلالات السامية.



وكان من جملة العوامل التي ألهبت نار الحماسة في نفوس علماء التوراة والساميات للبحث عن اللغة السامية الأولى أو أقرب لغة سامية أليها، القصص الوارد في التوراة عن سام وعن لغات البشر، وبابل ولغاتها والطوفان وما شاكل ذلك، ثم وجد المستشرقون المعاصرون أن البحث في هذا الموضوع ضرب من العبث، لأن هذه اللغات السامية الباقية حتى الآن هي محصول سلسلة من التطورات وللتقلبات لا تحصى، مرت بها حتى وصلت إلى مرحلتها الحاضرة، كما أنها حاصل لغات ولهجات منقرضة. واللغة السامية القديمة لم تكن إلا لغة محكية زالت من الوجود، دون أن تترك أثراً. ومن الجائز أن يهتدي العلماء في المستقبل إلى لغات أخرى، كانت عقداً بين اللغات السامية القديمة التي لا نعرف من أمرها شيئاً وبين اللغات السامية المعروفة. والأفضل أن ننصرف ألان إلى دراسة اللغات السامية والموازنة بينها، لنستخلص المشتركات والأصول. ومتى تتكون هذه الثروة اللغوية، يسهل ابحث في اللغة السامية الأم، كما تستحسن الموازنة بين هذه اللغات واللغات التي ظهرت في القارة الإفريقية، مثل المصرية القديمة والبربرية والهررية وبقية اللهجات الحبشية، لتكوين فكرة علمية عن الصلات التي تربط بن الحاميين والساميين وكانت من جملة العوامل التي دفعت بعض العلماء إلى القول بأن أصل الجنسين واحد، كان يقيم في قارة إفريقية.
وبالجملة إن هناك جماعة من المستشرقين ترى ان اللغة العربية على حداثة عهدها بالنسبة إلى اللغات السامية الأخرى، هي أنسب اللغات السامية الباقية للدراسة وأكثرها ملاءمة للبحث، لأنها لغة لم تختلط كثيراً باللغات الأخرى،



ولم تتصل باللغات الأعجمية قبل الإسلام، فبقيت في مواطنها المعزولة صافية، أو أصفى من غيرها في أقل الأحوال، ثم أنها حافظت على خواص السامية القديمة مثل المحافظة على الإعراب على حين فقدت هذه الخاصة المهمة أكثر تلك اللغات، ولهذه الأسباب وغيرها رأوا أن دراستها تفيد كثيراً في الوقوف على خصائص السامية القديمة ومزاياها.
وقد شغل علماء العرب أنفسهم بموضوع اللغة السامية أو لغة سام بن نوح بتعبير أصج، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، ذهبوا إلى البحث في لغة آدم أبي البشر وفي لغة أهل الجنة. وقد سبق لليهود والنصارى أن بحثوا في هذا الموضوع أيضا، في موضوع لغة آدم أي لغة البشر الأولى، التي تفرعت منها كل لغات البشر حتى اليوم. وقد ذهب بعض علماء العربية إلى أن العربية هي اللسان الأول، هي لسان آدم، إلا أنها حرفت ومسخت بتطاول الزمن عليها، فظهرت منها السريانية، و سائر اللغات. قالوا: "كان اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة عربياً، إلى أن بعد العهد. وطال، فحرِّف وصار سريانياً. وهو يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرف". وقد أدركوا ما أدركه غيرهم من وجود قرابة وصلة بين العربية وبين السريانية، فقال المسعودي: "وإنما تختلف لغات هذه الشعوب "أي شعوب جزيرة العرب" من السريانيين اختلافاً يسيراً". وقد أخذ علماء العربية نظريتهم هذه من أهل الكتاب. ولما كانت السريانية هي لغة الثقافة والمثقفين، ولغة يهود العراق وأكثر أهل الكتاب في جزيرة العرب في ذلك العهد، فلا يستغرب إذن قول من قال إن السريانية هي أصل اللغات وإنها لسان أدم ولسان سام بن نوح.

ملاك الشرق 17-04-2010 03:53 PM

العقلية السامية
وتحدث المشتغلون بالتاريخ الثقافي و "علم الأجناس" عن عقلية خاصة بالشعوب السامية، دعوها "العقلية السامية"، كما تحدثوا عن عقلية "آرية" وعن عقليات أخرى، وحاولوا وضع حدود لأوصاف العقلية السامية، ورسم صورة خاصة بها تميزها عن صور العقليات البشرية الأخرى.
وقد شاعت هذه النظرية نظرية خصائص العقلية السامية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ووجدت لها رواجاً كبيرا، لظهور بعض الآراء والمذاهب التي مجدت العقلية الأوروبة، وسبّحت محمدها، وقالت بتفوق العقل الغربي الخلاق المبدع على العقل الشرقي الساذج البسيط! ورمز العقل الشرقي هو العقل السامي، فهو لذلك عقل ساذج بسيط. ومن أشهر مروّجي هذه النظرية الفيلسوف الفر نسي "رينان" "Ernest Renan" "1823 - 1892 م"، و "كراف كوبينو" "Graf Arthur Gobineau" "1816 - 1882 م"، وهو من القائلين بتمايز العنصريات البشرية وبتفوق بعضها على بعض وبسيادة العقلية الآرية على سائر العقليات، و "هوستن ستيوارت شامبر لن Housten Stewart Chamberlain" "1855-1927 م" صاحب كتاب "أسس القرن التاسع عشر".
ومن هذه الموارد أخذت "النازية" نظريتها في تفوق العرق الآري على سائر أعراق البشر، وتفوق الجنس "الجرماني" خاصة من العرق الآري على سائر الأجناس والأعراق البشرية. ومن هنا وضع "هتلر" "قوانين نورنبرك" لحماية الدم الآري من الاختلاط بالدماء الأخرى، ولصيانته ولبقائه دماً نقماً صافياً. ولترسيخ هذه النظرية في نفوس الناس ولترويجها بين الألمان والأوروبيين، شجع البحث في موضوع "الأجناس البشرية"، وحشد عدداً كبيرا من الأساتذة لإجراء بحوث ودراسات فيه، وأوحى إلى أساتذة التأريخ كتابة التأريخ بطريقة تظهر دائماً أن الحضارة البشرية هي حاصل عمل الشعوب الآرية وحدها، وناتج من نتاجها، بتلك الشعوب بدأت وبها تستمر. وقرر أن ما يقال عن حضارات الشرق الأدنى القديمة هو لغو وهراء، وهذا أوجب كتابة تأريخ هذه الشعوب على نحو جديد، وعلى أساس هذه الفلسفة.

وبحوث مثل هذه تقوم في ظروف كهذه أو في ظروف مشابهة لها، لا يمكن أن تكون إلا دراسات فجة مغرضة، مبعثها عاطفة وقصد مبيت، لذلك لا يمكن الاطمئنان أليها ولا الاعتماد عليها. والبحث في خصائص جنس من الأجناس وفي مميزاته وسماته الطاهرة والباطنة، يضفي تقصي ملامح الجنس في الحاضر والماضي، وذلك بدراسة ملامح الباقين وبفحص أجسامهم وخصائصهم بطرق علمية حديثة، وبدراسة عظام الماضين وما تخلف من أجسامهم في باطن الأرض بالأساليب العلمية الحديثة أيضا، ليكون بحثنا شاملاّ للماضي والحاضر، ومثل هذه البحوث لم تجرِ حتى الآن، لا على العرب، ولا على غير العرب من هذه الشعوب التي نسميها "الشعوب السامية".
ثم إن البحوث العلمية على قلتها وضآلتها تدل على وجود فروق بارزة بين الساميين في الملامح الجسمية، في مثل شكل الجمجمة والأنف. ووجود مثل هذه الفروق، لا يمكن أن يكون علاقة على وجود "جنس" بالمعنى العلمي المفهوم من "الجنس" يضم شمل الساميين. وعلى وجود علاقة خاصة بالساميين ذات حدود ورسوم تختلف عن عقليات الأجناس البشرية الأخرى.
والصفة العامة التي يراها علماء الساميات في الساميين، أن الساميين يحبون الحركة والتنقل والهجرة من مكان إلى مكان على طريقته الأعراب، وأنهم ميالون إلى الغزو والأخذ بالثأر، وعاطفيون تتحكم العواطف في حياتهم، ويغضبون لتافه الأمور ويرضون بسرعة، يحبون فيسرفون في حبّهم، ويظهرون الوجد فيه، ويبغضون فيبالغون في بغضهم حتى ليصلوا إلى حد القساوة والعنف لأسباب تافهة لا تستوجب كراهية و لا بغضا، فرديون في طباعهم تتغلب علهم الفردية،


لذلك تراهم في الأصل قبائل، إذا اتحدت و كوّنت حكومة قوي ة كبيرة، لا تلبث أن تتعرض للانفصال و التفتت، الحياة عندهم على وتيرة واحدة. موسيقاهم و شعورهم العام بما في ذلك الشعر و الغناء و كل سائر التعبير عنه، حزن و نغم معدود مكرر. قضاؤهم قضاء قبلي، يقوم على القصاص بالمثل، و على أساس السن بالسن و العين بالعين و القتل بالقتل، و نظام الحكم عندهم نظام أسسه الفكرة القبلية، و ديانتهم متشابهة، تتجلى عندهم الغريزة الدينية و أتقاد المخيلة و قوة الشعور الفردي و القسوة, و تتغلب عليهم السطحية في التفكير، فلا يميلون إلى التعمق في درس الأشياء للوصول إلى كنهها و جوهرها، كما فعل اليونان.
وليست لهم قابلية في فهم الأمور المعقدة، ولهذا صارت أحكامهم عامة شاملة ساذجة لا تعقيد فيها، لأن تفكيرهم تفكير ساذج غير معقد. وتفكيرهم هذا هو الذي جعلهم يبشرون بالتوحيد على حين كانت الأديان الآرية -على حد قولهم- أدياناً معقدة تعتقد بوجود أكثر من إلَه ! ! ويرى هؤلاء العلماء أن البدوي هو خير ممثل للعقلية السامية، فقد عاش الساميون بدواً أمداً طويلاً، ومرّوا في حياتهم بحياة البداوة ولهذا صارت عقليتهم عقلية بداوة، تجمع بينهم صفات مشتركة نتجت من اشتراكهم في تلك الحياة.

ملاك الشرق 17-04-2010 03:54 PM

وقد وضع المتعصبون للنظرية العنصرية كتباً في موضوعات متعددة، تعالج الجسم والروح ضد الساميين والآريين، وعنوا عناية خاصة بدراسة الحياة الروحية ومظاهرها عند الجنسين، فبحثوا في الناحية القانونية والتشريعات المختلفة عند الساميين والآريين، وقارنوا بين التشريع عند الجماعتين. كذلك عالجوا مختلف النواحي الأخرى من الحياة، حتى إن بعضهم ألف كتاباً في موضوع حرمة أكل لحم الخنزير عند الساميين. مع انه من اللحوم الشهية عند الآريين، وعدّ ذلك من مميزات الجنس.
وهناك جماعة من العلماء، رَدت على هذه النظرية التي تحدد العقليات، وترسم لها حدوداً وتضع لها معالم، رأت أن ما يذهب إليه أصحابها من وجود عقليات صافية خالصة للأجناس البشرية المذكورة، يستوجب وجود أجناس بشرية صافية خالصة ذات دماء نقية، لم تمتزج بها دماء غريبة، ويقتضي ذلك افتراضنا اعتزال الأجناس بعضها عن بعض عزلة تامة، وهو افتراض محال، لأن البشرية لم تعرف العزلة منذ القدم، ولم تبن حولها أسواراً مرتفعة تحول بينها وبين الاختلاط ببقية الأجناس، والشواهد التاريخية والبحوث العلمية المختبرية تشير إلى العكس، تشير إلى الاختلاط والامتزاج، كما ذكرنا آنفاً، فما يقال عن اختلاف العقليات، هو حديث، أوحته العواطف والنزوات. أما ما نشاهده من اختلاف في أساليب الفكر وفي فهم الأمور،فليس مرجعه ومردّه إلى الدم، بل إلى البيئات الطبيعة والاجتماعية والثقافية، فهي التي أثرّت و كونت هذه الفروق. وعلى الباحث دراسة كل ما يؤثر على الإنسان من محيط ومن مؤثرات طبيعية مثل الضغوط الجوية والحرارة والبرودة والرطوبة، ومن تركيب الأجسام وأشكالها. وألوان الشعر والبشرة والعين وبنية الجسم بصورة عامة، ومن أنواع الأغذية التي يتناولها والمحيطات الثقافية التي يعيش فيها إلى غير ذلك من مؤثرات يدرسها علماء الأجناس اليوم، وذلك لإصدار أحكام معقولة عن أجناس البشر.

ملاك الشرق 17-04-2010 03:55 PM

الفصل السابع
طبيعة العقلية العربية


لكل أمة عقلية خاصة بها، تظهر في تعامل أفرادها بعضهم مع بعض وفي تعامل تلك الأمة مع الأمم الأخرى، كما أن لكل أمة نفسية تميزها عن نفسيات الأمم الأخرى، وشخصية تمثل تلك الأمة،وملامح تكون غالبة على أكثر أفرادها، تجلها سمة لتلك الأمة تجزها عن سمات الأمم الأخرى.
والعرب مثل غيرهم من الناس لهم ملامح امتازوا بها عن غيرهم، وعقلية خاصة بهم. ولهم شمائل عرفوا واشتهروا بها بين أمم العالم، ونحن هنا نحاول التعرف على عقلية العربي وعلى ملامحه قبل الإسلام، أي قبل اندماجه واختلاطه اختلاطاً شديداً بالأمم الأخرى، وهو ما وقع وحدث في الإسلام.
وقد بحث بعض للعلماء والكتاب المحدثين في العقلية العربية، فتكلموا عليها بصورة عامة، بدوية وحضرية، جاهلية وإسلامية. فجاء تعميمهم هذا مغلوطاً وجاءت أحكامهم في الغالب خاطئة. وقد كان عليهم التمييز بين العرب الجاهلين والعرب الإسلاميين، وبين الأعراب والعرب، والتفريق بين سكان البواطن آي بواطن البوادي وسكان الأرياف وسكان أسياف بلاد الحضارة. ثم كان عليهم البحث عن العوامل والأسباب التي جعلت العرب من النوعين: أهل الوبر وأهل الحضر، تلك الجبلة، من عوامل إقليمية وعوامل طبيعية أثرت فيهم، فطبعتهم بطابع خاص، ميزهم عن غيرهم من الناس.


بل إن الحديث عن العقلية العربية، حديث قديم، ففي التوراة شيء عن صفاتهم و أوصافهم، كوّن من علاقات الإسرائيليين بهم، ومن تعاملهم واختلاطهم بالعرب النازلين في فلسطين وطور سيناء أو في البوادي المتصلة بفلسطين. ومن أوصافهم فيها: أنهم متنابذون يغزون بعضهم بعضاً، مقاتلون يقاتلون غيرهم كما يقاتلون بعضهم بعضاً "يده على الكل، ويد الكل عليه". يغيرون على القوافل فيسلبونها ويأخذون أصحابها اسرى، يبيعونهم في أسواق النخاسة، أو يسترقونهم فيتخذونهم خدماً ورقيقاً يقومون بما يؤمرون به من أعمال، إلى غير ذلك من نعوت وصفات.
والعرب فيَ التوراة، هم الأعراب، أي سكان البوادي، لذلك فإنّ النعوت الواردة فيها عنهم، هي نعوت لعرب البادية، أي للاعراب، ولم تكن صلاتهم حسنة بالعبرانيين.
وفي كتب اليونان والرومان والأناجيل، نعوت أيضا نعت بها العرب وأوصاف وصفوا بها، ولكننا إذا درسناها وقرأنا المواضع التي وردت فيها، نرى أنها مثل التوراة، قصدت بها الأعراب، وقد كانوا يغيرون على حدود إمبراطوريتي. الرومان واليونان، ويسلبون القوافل، ويأخذون الإتاوات من التجار والمسافرين وأصحاب القوافل للسماح لهم بالمرور.


وقد وصف "ديودورس الصقلي" العرب بأنهم يعشقون الحرية، فيلتحفون السماء. وقد اختاروا الإقامة في أرضين لا أنهار فيها ولا عيون ماء، فلا يستطيع العدو المغامر الذي يريد الإيقاع بهم أن يجد له فيها مأوى. انهم لا يزرعون حباً، ولا يغرسون شجراً، ولا يشربون خمراً، ولا يبنون بيوتاً. ومن يخالف العرف يقتل. وهم يعتقدون بالإرادة الحرة، وبالحرية. وهو يشارك في ذلك رأي "هيرودوتس" الذي أشاد بحب العرب للحرية وحفاظهم عليها ومقاومتهم لأية قوة تحاول استرقاقهم واستذلاهم. فالحرية عند العرب هي من أهم الصفات التي يتصف بها العرب في نظر الكتبة اليونان واللاتين.
وفي كتب الأدب وصف مناظرة، قيل إنها وقعت بين "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة وبين "كسرى" ملك الفرس في شأن العرب: صفاتهم وأخلاقهم وعقولهم، ثم وصف مناظرة أخرى جرت بين "كسرى" هذا وبين وفد أرسله "النعمان" لمناظرته ومحاجته فيما جرى الحديث عليه سابقاً بين الملكين. وفي هذه الكتب أيضا رأي "الشعوبين" في العرب، وحججهم في تصغير شأن العرب وازدرائهم لهم، ورد الكتاب عليهم. وهي حجج لا تزال تقرن بالعرب في بعض الكتب.
ومجل ما نسب إلى "كسرى" من مآخذ زُعم انه أخذها على العرب، هو أنه نظر فوجد أن لكل أمة من الأمم ميزة وصفة، فوجد للروم حظاً في اجتماع الألفة وعظم السلطان وكثرة المدائن ووثيق البنيان، وأن لهم ديناً يبين حلالهم وحرامهم ويرد سفيههم ويقيم جاهلهم، ورأى للهند، نحواً من ذلك في حكمتها وطبّها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعاتها ودقيق حسابها وكثرة عددها

ووجد للصين كثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصناعة الحديد، وان لها ملكاً يجمعها، وأن للترك والخزر، على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة الريف والثمار والحصون ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم. ولم يرَ للعرب دينا ولا حزماً ولا قوة. همتهم ضعيفة بدليل سكنهم في بوادي قفراء، ورضائهم بالعيش البسيط، والقوت الشحيح، يقتلون أولادهم من الفاقة ويأكل بعضهم بعضاً من الحاجة. أفصل طعامهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها. "وإن قرَى أحدهم ضيفاً عدّها مكرمة. وإن أطعم أكلة عدها غنيمة تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم". ثم إنهم مع قلتهم وفاقتهم وبؤس حالهم، يفتخرون بأنفسهم، ويتطاولون على غيرهم وينزلون أنفسهم فوق مراتب الناس. "حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكاّ أجمعين"، وأبوا الإنقياد لرجل واحد منهم يسوسهم ويجمعهم.
إذا عاهدوا فغير وافين. سلاحهم كلامهم، به يتفننون، وبكلامهم يتلاعبون. ليس لهم ميل إلى صنعة أو عمل ولا فن، لا صبر لهم، إذا حاربوا ووجدوا قوة أمامهم، حاولوا جهدهم التغلب عليها، أما إذا وجسوها قوة منظمة هربوا مشتتين متبعثرين شراذم، يخضعون الغريب ويهابونه ويأخذون برأيه فيهم، ما دام قوياً، ويقبلون بمن ينصبه عليهم، ولا يقبلون بحكم واحد منهم، إذا أراد أن يفرض سلطانه عليهم.

ملاك الشرق 17-04-2010 03:56 PM

وقد ذُكر أن أحد ملوك الهند كتب كتاباً إلى "عمر ين عبد العزيز"، جاء فيه "لم تزل الأمم كلها من الأعاجم في كلّ شق من الأرض لها ملوك تجمعها ومدائن تضمها وأحكام تدين بها وفلسفة تنتجها وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات، مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة، ولعب الشطرنج وهي أشرف لعبة، ورمّانة القباّن التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل، ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون والاصطرلاب الذي يعدل به النجوم ويدرك به الأبعاد ودوران الأفلاك وعلم الكسوف وغير ذلك من الآثار المتقنة، ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها ويضم قواصيها، ويقمع ظلمها وينهى سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة و لا أثر في فلسفة إلا ما كان من الشعر. و قد شاركتها في العجم، وذلك إن للروم أشعارا عجيبة قائمة الوزن و العروض فما الذي تفتخر به العرب على العجم فإنما هي كالذئاب العادية، و الوحوش النافرة، يأكل بعضها يعضا و يغير بعضها على بعض. فرجالها موثوقون في حَلَق الأسر. و نساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل، فإذا أدركهن الصريخ أتستنقذن بالعشي، و قد وطئن كما توطأ الطريق المهيع". إلى آخر ذلك من كلام.
وقد تعرض "السيد محمود شكري الألوسي" في كتابه "بلوغ الأرب"، لهذا الموضوع، فجاء بما اقتبسه منه، ثم جاء برأي "أبن قتيبة" على الشعوبية، في كتابه: "كتاب تفضيل العرب"، ُم أنهاه ببيان رأيه في هذه الآراء و في رد "أبن قتيبة" عليها.


ولابن خلدون رأي معروف في العرب، خلاصته "إن العربي متوحش نهّاب سلاّب إذا أخضع مملكة أسرع أليها الخراب، يصعب انقياده لرئيس، لا يجيد صناعة ولا يحسن علماً ولا عنده استعداد للإجادة فيهما، سليم الطباع، مستعد للخير شجاع". وتجد آراءه هذه مدوّنة في مقدمته الشهيرة لكتابه العام في التاًريخ.
وقد رمى بعض المستشرقين العرب بالمادية وبصفات أخرى، فقال "أوليري": " إن العربي الذي يعد مثلاً أو نموذجاً، ماديّ، ينظر إلى الأشياء نظرة مادية وضيعة، ولا يقومها إلا بحسب ما تنتج من نفع، يتملك الطمع مشاعره، وليس لديه مجال للخيال ولا للعواطف، لا يميل كثيراً إلى دين، ولا يكترث بشيء إلا بقدر ما ينتجه من فائدة عملية، يملؤه الشعور بكرامته الشخصية حتى ليثور على كل شكل من أشكال السلطة، وحتى ليتوقع منه سيد قبيلته و قائده في الحروب الحسد والبغض والخيانة من أول يوم اختير للسيادة عليه ولو كان صديقاً حميم له من قبل، من. أحسن أليه كان موضع نقمته، لأن الإحسان يثير فيه شعوراً بالخضوع وضعف المنزلة وأن عليه واجباً لمن أحسن. يقول لامانس "إن العربي نموذج الديمقراطية"، ولكنها ديمقراطية مبالغ فيها إلى حد بعيد، وإن ثورته على كل سلطة تحاول أن تحدد من حريته ولو كانت في مصلحته هي السر الذي يفسر لنا سلسلة الجرائم والخيانات التي شغلت أكبر جزء في تأريخ العرب، وجهل هذا السر هو الذي قاد الأوروبيين في أيامنا هذه إلى كثير من الأخطاء، وحملهم كثيراً من الضحايا كان يمكنهم الاستغناء عنها، وصعوبة قيادة العرب وعدم خضوعهم للسلطة هي التي تحول بينهم وبين سيرهم في سبيل الحضارة الغربية، ويبلغ حب العربي لحريته مبلغاً كبيراً، حتى إذا حاولت ان تحدها أو تنقص من أطرافها هاج كأنه وحش في قفص، وثار ثورة جنونية لتحطيم أغلاله والعودة إلى حريته. ولكن العربي من ناحية أخرى مخلص، مطيع لتقاليد قبيلته، كريم يؤدي واجبات الضيافة والمحالفة في الحروب كما يؤدي واجبات الصداقة مخلصاً في أدائها بحسب ما رسمه العرف... وعلى العموم، فالذي يظهر لي أن هذه الصفات والخصائص أقرب أن تعد صفات وخصائص لهذا الطور من النشوء الاجتماعي عامة من أن تعد صفات خاصة لشعب معين، حتى إذا قر العرب وعاشوا عيشة زرعية مثلاً، تعدلت هذه العقلية". ويوافق المستشرق "براون أولري" في رمي العرب بالمادية المفرطة. ورماهم "أوليري" أيضا بضعف الخيال وجمود العواطف.

ملاك الشرق 17-04-2010 03:57 PM

أما "دوزي" فقد رأى أن بين العرب اختلافاً في العقلية وفي النفسية، وأن القحطانيين يختلفون في النفسية عن نفسية العدنانيين.
وقد تعرض "أحمد أمين" في الجزء الأول من "فجر الاسلام" للعقلية العربية، وأورد رأي الشعوبيين في العرب، ثم رأي "ابن خلدون" فيهم، وتكلم على وصف المستشرق "أوليري" لتلك العقلية، ثم ناقش تلك الآراء، وأبان رأيه فيها وذلك في الفصل الثالث من هذا الجزء، وتحدث في الفصل الرابع عن "الحياة العقلية للعرب في الجاهلية". وخصص الفصل الخامس ب "مظاهر الحياة العقلية"، وتتجلى عنده في: اللغة والشعر والمثل والقصص. أوجز "أحمد أمن" في بداية الفصل الثالث آراء المذكورين في العرب،وبعد أن انتهى من عرضها وتلخيصها ناقشها بقوله: "لسنا نعتقد تقديس العرب، ولا نعباً بمثل هذا النوع من القول الذي يمجدهم ويصفهم بكل كمال، وينزههم عن كل نقص، لأن هذا النمط من القول ليس نمط البحث العلمي، إنما نعتقد أن العرب شعب ككل الشعوب، له ميزاته وفيه عيوبه، وهو خاضع لكل نقد علمي في عقليته ونفسيته وآدابه وتاريخه ككل أمة أخرى، فالقول الذي يمثله الرأي الخاص لا يستحق مناقشة ولا. جدلاّ،كذلك يخطىء الشعوبية أصحاب القول الأول الذين كانوا يتطلبون من العرب فلسفة كفلسفة اليونان، وقانوناً كقانون للرومان، أو أن يمهروا في الصناعات كصناعة الديباج، أو في المخترعات كالاصطرلاب، فإنه إن كان يقارن هذه الأمم بالعرب في جاهليتها كانت مقارنة خطا، لأن المقارنة إنما تصح بين أمم في طور واحد من الحصارة، لا بين أمة متبدية وأخرى متحضرة، ومثل هذه المقارنة كمقارنة بين عقل في طفولته وعقل في كهولته، كل أمة من هذه الأمم كالفرس والروم مرت بدور بداوة لم يكن لها فيه فلسفة ولا مخترعات. أما إن كان يقارن العرب بعد حضارتها، فقد كان لها قانون وكان لها علم وان كان قليلاً.." ثم استمر يناقش تلك الآراء إلى أن قال: فلنقتصر ألان على وصف العربي الجاهلي،


فوصفه بهذا الوصف: "العربي عصبي المزاج، سريع الغضب، يهيج للشيء التافه، ثم لا يقف في هياجه عند حد، وهو أشد هياجاً إذا جرحت كرامته، أو انتهكت حرمة قبيلته. وإذا اهتاج، أسرع إلى السيف، واحكم أليه، حتى أفنتهم الحروب، وحتى صارت الحرب نظامهم المألوف وحياتهم اليومية المعتادة." "والمزاج العصبي يستتبع عادة ذكاء، وفي الحق أن العربي ذكي، يظهر ذكاؤه في لغته، فكثيراً ما يعتمد على اللمحة الدالة والإشارة البعيدة، كما يظهر في حضور بديهته، فما هو إلا أن يفُجأ بالأمر فيفجؤك بحسن الجواب، ولكن ليس ذكاؤه من النوع الخالق المبتكر، فهو يقلب المعنى الواحد على أشكال متعددة، فيبهرك تفننه في القول أكثر مما يبهرك ابتكاره للمعنى، وان شئت فقل إن لسانه أمهر من عقله.
"خياله محسود وغير متنوع، فقلما يرسم له خياله عيشة خيراً من عيشته، وحياة خيراً من حياته يسعى وراءها، لذلك لم يعرف "المثل الأعلى"، لأنه وليد الخيال، ولم يضع له في لغته لفظة واحدة دالة عليه، ولم يشر أليه فما نعرف من قوله،وقلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يستقي منه معنى جديداً ولكنه في دائرته الضيقة استطاعَ أن يذهب كل مذهب." "أما ناحيتهم الخلقية، فميل إلى حرية قلّ أن يحدّها حدّ، ولكن الذي فهموه من الحرية هي الحرية الشخصية لا الإجتماجمة، فهم لا يدينون بالطاعة لرئيس ولا حاكم، تأريخهم في الجاهلية - حتى وفي الإسلام - سلسلة حروب داخلية" وعهد عمر بن الخطاب كان عصرهم الذهبي، لأنه شغلهم عن حروبهم الداخلية بحروب خارجية، ولأنه، رضي الله عنه، منح فهماً عميقاً ممتازاً لنفسية العرب.
"والعربي سب المساواة، ولكنها مساواة في حدود القبيلة، وهو مع حبه للمساواة كبير الاعتداد بقبيلته ثم بجنسه، يشعر في أعماق نفسه بأنه من دم ممتاز، لم يؤمن بعظمة الفرس والروم مع ما له ولهم من جدب وخصب وفقر وغنى وبداوة وحضارة، حتى إذا فتح بلادهم نظر إليهم نظرة السيد إلى المسود".

ملاك الشرق 17-04-2010 04:06 PM

ثم خلص إلى أن العرب في جاهليتهم كان أكثرهم بدواً، وان طور البداوة طور اجتماعي طبيعي تمر به الأمم في أثناء سيرها إلى الحضارة، وان لهذا الطور مظاهر عقلية طبيعية، تتجلى في ضعف التعليل، وعنى بذلك عدم القدرة على فهم الارتباط بين العلة والمعلول والسبب والمسبب فهماً تاماً، "يمرض أحدهم ويألم من مرضه، فيصفون له علاجاً، فيفهم نوعاً ما من الارتباط بين الدواء والداء، ولكن لا يفهمه فهم العقل الدقيق الذي يتفلسف، يفهم إن عادة القبيلة أن تتناول هذا الدواء عند هذا الداء، وهذا كل شيء في نظره، لهذا لا يرى عقله باًساً من أن يعتقد إن دم الرئيس يشفي من الكَلَب، أو ان سبب المرض روح شرير حل فيه فيداويه بما يطرد هذه الأرواح، أو انه إذا خيف على الرجل الجنون نجسوه بتعليق الأقذار وعظام الموتى إلى كثير من أمثال ذلك، ولا يستنكر شيئاً من ذلك ما دامت القبيلة تفعله، لأن منشأ الإستنكار دقة النظر والقدرة على بحث المرض و أسبابه وعوارضه، وما يزيل هذه العوارض،وهذه درجة لا يصل أليها العقل في طوره الأول".
ثم أورد أمثلة للاستدلال بها على ضعف التعليل، مثل قولهم بخراب سدّ مأرب بسبب جرذان حُمْر، و مثل قصة قتل النعمان لسِنمّار بسبب آجُرّة و ضعها سِنِمار في أساس قصر الخورنق، لو زالت سقط القصر.


ثم تحدث عن مظهر عن آخر من مظاهر العربية، لاحظه بعض المستشرقين و وافقهم هو عليه، هو: إن طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الاشياء نظرة عامة شاملة، وليس في استطاعتها ذلك. فالعربي لم ينظر إلى العلم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني، كان يطوف فيما حوله؛ فإذا رأى منظرا خاصا أعجبه تحرك له، و جاس بالبيت أو الأبيات من الشعر أو الحكمة أو المثل. "فأما نظرة شاملة وتحليل دقيق لأسسه وعوارضه فذلك ما لا يتفق والعقل العربي. وفوق هذا هو إذا نظر إلى الشيء الواحد لا يستغرقه بفكره، بل يقف فيه على مواطن خاصة تستثير عجبه، فهو إذا وقف أمام شجرة، لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها، و إذا كان أمام بستان، لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة، يطير من زهرة إلى زهرة، فيرتشف من كل رشفة". إلى أن قال: "هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف ما ترى في أدب العرب - حتى في العصور الإسلامية - من نقص وما ترى فيه من جمال".
وقد خلص من بحثه، إلى أن هذا النوع من النظر الذي نجده عند العربي، هو طور طبيعي تمر به الأمم جميعاً في أثناء سيرها إلى الكمال، نشاً من البيئات الطبيعية والاجتماعية التي عاش فيها العرب، وهو ليس إلا وراثة لنتائج هذه البيئات، "ولو كانت هنالك أية أمة أخرى في مثل بيئتهم، لكان لها مثل عقليتهم، و أكبر دليل على ذلك ما يقرره الباحثون من الشبه القوي في الأخلاق والعقليات بين الأمم التي تعيش في بيئات متشابهة أو متقاربة، وإذ كان العرب سكان صحارى، كان لهم شبه كبير بسكان الصحارى في البقاع الأخرى من حيث العقل والخلق".

ملاك الشرق 17-04-2010 04:08 PM

أما العوامل التي عملت في تكوين العقلية العربية وفي تكييفها بالشكل الذي ذكره، فهي عاملان قويان. هما: البيئة الطبيعية، وعنى بها ما يحيط بالشعب طبيعيا من جبال وانهار وصحراء وغير ذلك، والبيئة الاجتماعية، وأراد بها ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك. وليس أحد العاملين وحده هو المؤثر في العقلية.
وحصر أحمد امين مظاهر الحياة العقلية في الجاهلية في الأمور التالية: اللغة والشعر والأمثال والقصص. وتكلم على كل مظهر من هذه المظاهر وجاء بأمثلة استدل بها ما ذهب إليه.
والحدود التي وضعها أحمد أمين للعقلية العربية الجاهلية، هي حدود عامة، جعلها تنطبق على عقلية أهل الوبر وعقلية أهل المدر، لم يفرق فيها بين عقلية من عقلية الجماعتين. وقد كونها ورسمها من دراساته لما ورد في المؤلفات الإسلامية من أمور لها صلة بالحياة العقلية ومن مطالعاته لما أورده "أوليري" "وبراون" وأمثالهما عن العقلية العربية، ومن آرائه وملاحظاته لمشكلات العالم العربي ولوضع العرب في الزمن الحاضر. والحدود المذكورة هي صورة متقاربة مع الصورة التي يرسمها العلماء المشتغلون بالسامية عادة عن العقلية السامية، وهي مثلها أيضا مستمدة من آراء وملاحظات وأوصاف عامة شاملة، ولم تستند إلى بحوث علمية ودراسات مختبرية، لذا فأنني لا أستطيع أن أقول أكر مما قلته بالنسبة إلى تحديد العقلية الساميّة، من وجوب التريث والاستمرار في البحث ومن ضرورة تجنب التعميم والاستعجال في إعطاء الأحكام.



وتقوم نظرية أحمد أمين في العقلية العربية على أساس إنها حاصل شيئين وخلاصة عاملين، أثرا مجتمعين في العرب وكوّنا فيهما هذه العقلية التي حددها ورسم معالمها في النعوت المذكورة. والعاملان في رأيه هما: البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية. وعنى بالبيئة الطبيعية ما يحيط بالشعب طبيعياً من جبال وأنهار وصحراء ونحو ذلك، وبالبيئة الاجتماعية ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك. وهما معاً مجتمعين غير منفصلين، أثّرا في تلك العقلية. ولهذا رفض أن تكون تلك العقلية حاصل البيئة الطبيعية وحدها، أو حاصل البيئة الاجتماعية وحدها. وخطاً من أنكر أثر البيئة الطبيعية في تكوين العقلية ومن هنا انتقد "هيكل" "Heagel"، لأنه أنكر ما للبيئة الطبيعية من أثر في تكوين العقلي اليوناني، وحجة "هيكل" أنه لو كان للبيئة الطبيعية أثر في تكوين العقليات، لبان ذلك في عقلية الأتراك الذين احتلوا أرض اليونان وعاشوا في بلادهم، ولكنهم لم يكتسبوا مع ذلك عقلهم ولم تكن لهم قابلياتهم ولا ثقافتهم. وردّ "أحمد أمين" عليه هو أن "ذلك يكون صحيحاً لو كانت البيئة الطبيعية هي المؤثر الوحيد، إذن لكان مثل العقل اليوناني يوجد حيث يوجد إقليمه، و ينعدم حيث ينعدم، أما والعقل اليوناني نتيجة عاملين، فوجود جزء العلة لا يستلزم وجود المعلول".
وأثر البيئة الطبيعية في العرب، أنها جعلت بلادهم بقعة صحراوية تصهرها الشمس، ويقل فيها الماء، ويجف الهواء، وهي أمور لم تسمح للنبات أن يكثر، ولا للمزروعات أن تنمو، آلا كَلأً مبعثراً هنا وهناك، وأنواعاً من الأشجار والنبات مفرقة استطاعت أن تتحمل الصيف القائظ، والجوّ الجاف، فهزلت حيواناتهم، وتحلت أجسامهم، وهي كذلك أضعفت فيها حركة المرور، فلم يستطع السير فيها إلا الجمل، فصعب على المدنيات المجاورة من فرس وروم أن تستعمر الجزيرة، وتفيض عليها من ثقافتها، اللهم إلا ما تسرب منها في مجار ضيقة معوجة عن طرق مختلفة".



وأثر آخر كان لهذه البيئة الطبيعية في العرب، هو أنها أثرت في النفوس فجعلتها تشعر أنها وحدها تجاه طبيعة قاسية، تقابلها وجهاً لوجه، لا حول لها ولا قوة، لا مزوعات واسعة ولا أشجار باسقة، تطلع الشمس فلا ظل لها، ويطلع القمر والنجوم فلا حائل، تبعث الشمس أشعتها المحرقة القاسية فتصيب أعماق نخاعه، ويسطع القمر فيرسل أشعته الفضية الوادعة فتبر لبّه، وتتألق النجوم في السماء فتمتلك عليه نفسه، وتعطف الرياح العاتية فتدمر كل ما أتت عليه. أمام هذه الطبيعة القوية، والطبيعة الجميلة، والطبيعة القاسية، تهرع النفوس الحساسة إلى رحمن رحيم، والى بارئ مصور والى حفيظ مغيث- إلى الله-. ولعل هذا هو السر في الديانات الثلاث التي يدين بها أكثر العالم، وهي اليهوديه والنصرانية والإسلام نبعث من صحراء سيناء وفلسطين وصحراء العرب.
والبيئة الطبيعية أيضاً، هي التي أثرت-على رأيه-في طبع العربي فجعلته كثيباُ صارماً يغلب عليه الوجد، موسيقاه ذات نغمة واحدة متكررة عابسة حزينة، ولغته غنية بالألفاظ، إذا كانت تلك الألفاظ من ضروريات الحياة في المعيشة البدوية، وشعره ذو حدود معينة مرسومة، وقوانيه تقاليد القبيلة وعرف الناس، وهي التي جعلته كريماً على فقره، يبذل نفسه في سبيل الدفاع عن حمى قبيلته. كل هذه وأمثالها من صفات ذكرها وشرحها هي في رأيه من خلق هذه البيئة الطبيعية التي جعلت لجزيرة العرب وضعاً خاصاً ومن أهلها جماعة امتازت عن بقية الناس بالمميزات المذكورة.
وقد استمر "أحمد أمين"، في شرح أثر البيئة الطبيعية في عقلية العرب وفي مظاهر تلك العقلية التي حصرها كما ذكرت في اللغة والشعر والأمثال والقصص، حتى انتهى من الفصول التي خصصها في تلك العقلية، أما أثر البيئة الاجتماعية التي هي في نظره شريكة للبيئة الطبيعية في عملها وفعلها في العقلية الجاهلية وفي كل عقلية من العقليات،

فلم يتحدث عنه ولم يشر إلى فعله، ولم يتكلم على أنواع تلك البيئة ومقوماتها التي ذكرها في أثناء تعريفه لها، وهي: "ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك"، ثم خلص من بحثه عن العقلية العربية وعن مظاهرها وكأنه نسي ما نسبه إلى العامل الثاني من فعل، بل الذي رأيته وفهمته من خلال ما كتبه انه أرجع ما يجب إرجاعه إلى عامل البيئة الاجتماعية - على حد قوله - إلى فعل عامل البيئة الطبيعية وأثرها في عقلية العرب الجاهليين. وهكذا صارت البيئة الطبيعية هي العامل الأول الفعال في تكوين تلك العقلية، وحرمنا بذلك من الوقوف على أمثلته لتأثر عامل البيئة الاجتماعية في تكوين عقلية الجاهليين.
وأعتقد إن "أحمد أمين" لو كان قد وقف على ما كتب في الألمانية أو الفرنسية أو الإنكليزية عن تأريخ اليمن القديم المستمد من المسند، ولو كان قد وقف على ترجمات كتابات المسند أو الكتابات الثمودية والصفوية واللحيانية، لما كان قد أهمل الإشارة إلى أصحاب تلك الكتابات، ولعدٌل حتماً في حدود تعريفه للعقلية العربية، ولأفرز صفحة أو أكثر إلى أثر طبيعة أرض اليمن وحضرموت في عقلية أهل اليمن وفي تكوين حضارتهم وثقافتهم، فإن فيما ذكره في فصوله عن العقلية العربية الجاهلية ما بحب رفعه وحذفه بالنسبة إلى أهل اليمن وأعالي الحجاز.
ونجد في كتاب "جزيرة العرب في القرن العشرين" لحافظ وهبة" فصلا بعنوان "السكان"، وردت فيه ملاحظات كيسة عن عقلية الحضر وعقلية البدو في المملكة العربية السعودية وفي بعض المناطق المجاورة لها في الزمان الحاضر. وهذه الملاحظات وان كانت تتعلق بعرب هذا اليوم، إلا أنها مع ذلك ذات فائدة ومنفعة لفهم العقلية الجاهلية، فالزمان وان تباعد بين عرب الجاهلية وعرب القرن العشرين،إلا

ملاك الشرق 17-04-2010 04:09 PM

إن الخصائص العقلية لأكثر أهل البادية المنعزلين عن عالمهم الخارجي لا تزال هي هي، لم تتغير في كثير من الأمور، بل خذ من نسميهم "الحضر" أو العرب المستقرين في جزيرة العرب، فإن البعيدين منهم عن الأماكن التي لها اتصال بالعالم الخارجي وبالأجانب لا يزالون يحتفظون بكثير من خصائص عقلية حضر اليمن أو الحجاز عند ظهور الإسلام. ومن هنا تفيدنا ملاحظات "حافظ وهبة" هذه وملاحظات غيره من أذكياء العرب والسياح والخبراء الأجانب" فائدة كبيرة في التعرف على أسس تفكير العرب قبل الإسلام.
وفي حديث "حافط وهبة" عن طباع الحضر أشار إلى اختلاف طباعهم باختلاف أماكنهم، فقال: " والحضر تختلف طباعهم باختلاف المناطق التي يعيشون فيها، وظروف الحياة التي تحيط بهم فأهل حايل أقرب مظهراً إلى البداوة. وأهل مكة والمدينة واليمن العالية أبعد مظهراً عن البداوة من البلاد الأخرى العربية، وأهل القصيم ألين عريكة من أهل العارض، لأنهم كثرو الاختلاط والتعامل مع البلاد الأخرى كالشام وفلسطين ومصر، ولذا فترى موظفي ديوان الملك المكلفين بالمقابلات والتشريفات من أهل القصيم أو حايل.
وأهل الرياض أرقى بكثير من أهل الدواسر الذين لم يفارقوا بلادهم، ولم يرفوا شيئا عن أحوال العالم الخارجي.
وأشار إلى تنافس الحضر وإلى تفاخرهم وتفضيل أنفسهم بعضهم على بعض في الشمائل والعادات وحتى في اللهجات.
ومن طباع الحضري، كما يقول "حافظ وهبة" "الخلق التجاري"، وهم يتباينون فىِ ذلك أيضا بتباين أماكنهم، "فأهل القصيم والزلفى وشقرا، أنشط من أهل نجد في التجارة. فقوافلهم تقصد سائر الجهات العربية، وتجارهم كثيراً ما يسافرون إلى الهند ومصر في سبيل التجارة، والتجار النجديون المعروفون في الهند ومصر والعراق من أهل هذه البلاد" 0 "أما أهل الكويت، فنشاطهم في التجارة البحرية... ويغلب على حضر الجزيرة - وعلى الأخص أهل خليج فارس - التعاون التجاري سواء بين الأهالي بعضهم مع بعض أو بين الأمراء والأهالي".


أما طباع البداوة،وهي طباع تختلف عن طباع أهل المدن فقد وصفها بقوله: "أما البدو، فهم القبائل الرحل المتنقلون من جهة إلى أخرى طلباً للمرعى أو للماء، والطبيعة هي التي تجبر البدوي على المحافظة على هذه الحياة، وحياة البدوي حياة شاقة مضنية، ولكنه وهو متمتع بأكبر قسط من الحرية يفضلها على أيَ حياة مدنية أخرى. هذه الحياة الخشنة هي التي جعلت القبائل يتقاتلون في سبيل المرعى والماء، وهي التي جعلت سوء الظن يغلب على طباعهم، فالبدوي ينظر إلى غيره نظرة العدو الذي يحاول أخذ ما بيده أو حرمانه من المرعى." "إن البدوي في الصحراء لا يهمه إلا المطر والمرعى، فأزمته الحقيقية انحباس المطر وقلة المرعى ولا يبالي بما يصيب العالم في الخارج ما دامت أرضه مخضرة، وبعيره سمينا وغنمه قد اكتنزت لحماً وقد طبقت شحماً." "أما إذا نما السكان وضاقت بهم الأرض أو لم تجد أراضيهم بالمرعى، فليس هناك سبيل إلا الزحف والقتال، أو الهجرة إن كان هناك سبيل أليها، وكذلك القبيلة التي غلبت على أمرها وحرمت من مراعيها وأراضيها ليس أمامها سبيل آخر سوى الهجرة.
"لقد كان البدو قبل ثلاثين سنة في غارات وحروب مستمرة، كل قبيلة تنتهز الفرص للإغارة على جارتها لنهب مالها، وتعدد ألامارات وتشاحن الأمراء وتخاصمهم مما يشجع البدوي.


ولهذا كان للقبيلة في قيمتها في بلاد العرب، فالإنسان يقوى بأبنائه وأبناء عمومته الأقربين والأبعدين، وإذا كانت العصبية ضعيفة أمكن تقوية القبيلة بالتحالف مع سواها حتى يقوى الفريقان ويأمنا شر غيرهما من القبائل القوية." "وقد جرى العرف أن القبائل تعتبر الأرض التي اعتادت رعيها، و المياه التي اعتادت أن تردها ملكاً لها، لا تسمح لغيرها من القبائل الأخرى بالدنوّ منها إلا بإذنها ورضاها، وكثيرا ما تأنس إحدى القبائل من نفسها القوة فتهجم بلا سابق إنذار على قبيلة أخرى و تنتزع منها مراعيها و مياهها." "إن قبائل العرب ليسوا كلهم سواء في الشر و التعدي على السابلة و القوافل، فبعضها قد اشتهر أمره بالكرم و السماحة و الترفع عن الدنايا، كما اشتهر بعضها بالتعدي و سفك الدماء بلا سبب سوى الطمع فيما في ايدي الناس." ليس للبدوي قيمة حربية تذكر، و لذا كان اعتماد الامراء على الحضر، فهم الذين يصمدون للقتال و يصبرون على بلائه و بلوائه. و كثيرا ما كان البدو شرا على الأمير المصاحبين له، فإن ذلك الأمير إذا ما بدت الهزيمة كانوا هم البادئين بالنهب و السلب و يحتجون بأنهم هم أولى من الأعداء المحاربين" "البدوي إذا لم يجد سلطة تردعه أو تضرب على يده يرى من حقه نهب الغادي و الرائح، فالحق عنده القوة التي يخضع لها، و يخضع غيره بها. على أن بهؤلاء قواعد للبادية معتبرة عندهم كقوانين يجب احترامها، فالقوافل التي تمر بأرض قبيلة و ليس معها من يحميها من أفراد هذه القبيلة معرضة للنهب، ولذا فقد اعتادت القوافل قديما إن يصحبها عدد غير قليل من القبائل التي ستمر بأرضها و يسمون هذا رفيقا.

ملاك الشرق 17-04-2010 04:10 PM

و البدوي يحتقر الحضري مهما أكرمه، كما إن الحضري يحتقر البدوي، فإذا و صف البدوي الحضري، فأنه في الغالب يقول حُضيري تصغيرا لشأنه.
و من عادة البدوي الاستفهام عن كل شيء، و انتقاد ما يراه مخالفا لذوقه أو لعادته بكل صراحة، فإذا مررت بالبدوي في الصحراء استوقفك و سألك من أين أنت قادم? و عمن وراءك من المشايخ و الحكام? و عن المياه التي مررت بها? أسعار الأغذية و القهوة? وعمن في البلد من القبائل? و عن العلاقات السياسية بين الحكام بعضهم و بعض.
و مع إن البدوي قد اعتاد النهب و السلب، فإنهم كثيرا ما يعفون عن أهل العلم خوفا من غضب الله عليهم، و بعض البدو لا يحلف كاذبا مهما كانت النتيجة. و البدوي ينكر إذا وجد مجالا للإنكار، و يفلت بمهارة من الإجابة عما يسأل، و لكن إذا وجه له اليمين و كان لا مفر له اعترف بجرمه إذا كان مذنبا، و لا يحلف كذبا" "وليس أعدل من البدوي في تقسيم الغنيمة حتى قد يتلفون الشيء تحريا للعدل، و يقسمون السجادة بينهم كما يقسمون القميص لو السروال، كل هذا إرضاء لضمائرهم دفعا للضلم، إنهم يعرفون الخيام حق المعرفة لأنها بيوتهم التي يعيشون فيها، و مع ذلك فهم يقسمونها مراعاة للعدل، أما الإبل و الغنم فأنهم يقسمونها إذا أمكن القسمة أو يقومونها بثمن إذا لم يكن هناك سبيل للقسمة".


"و البدو لا يفهمون الحياة حق الفهم كما يفهمها الحضري، لا يفهمون البيوت و هندستها، ولا يفهمون فائدة الأبواب والنوافذ الخشبية، حتى إن البدو الذين كانوا في جيش الملك حسين في الثورة العربية كان عملهم بعد الاستيلاء على الطائف نزع خشب النوافذ والأبواب، لا لبيعها والانتفاع بثمنها بل لاستعمالها وقوداَ أما للقهوة أو الطبخ أو التدفئة، وبدو نجد قد فعلوا مثل ذلك تمامأ، فعندما أسكنت الحكومة بعض القبائل في ثكنة جَرْوَلْ، اكتشفت الحكومة إن النوافذ الخشبية والأبواب تنقص بالتدريج، وأنها استعملت للطبخ وتحضير القهوة، فأخرجهم جلالة الملك تواً من الثكنة، وأسكن الحضر فيها، والحضر بطبيعتهم يصفمون ما لا يفهمه جهلة البدو عن النوافذ والأبواب.
"وللبدو مهارة فائقة في اقتفاء الأثر، وكثيراً ما كانت هذه المعرفة سببا في اكتشاف كثير من الجرائم ولا تكاد تخلو قبيلة من طائفة منهم.
"والقبائل العريقة المشهورة من حضر وبادية تحافط على أنسابها تمام المحافظة وتحرص عليها كل الحرص، فلا تصاهر إلا من يساويها في النسسب، والقبائل المشكوك في نسبها لا يصاهرها أحد من القبائل المعروفة.
"أما حكام العرب، فيترفعون عن سائر الناس حضرهم وبدوهم،لا يزوجون بناتهم إلا لقرباهم. ما هم فيتزوجون من يشاءون، وطبقات الحكام يترفع بعضها على بعض: الأشراف يرون أنفسهم أرفع الخلق بنسبهم، وآل سعود يرون أنفسهم أرفع من الأشراف، وأرفع من سواهم من حكام العرب الآخرين".



وهنا ترى الروح الصحيحة البدوية التي لا تملك شروى نقير ترفض الزواج من غني، لأنه ابن صانع، أو انه من سلالة العبيد، أو لأن نسبه القبلي يحيط به شيء من الشك، فسلطان المال لا قيمة له عند العرب. ومع وجود هذه الروح الأرستقراطية التي تتجلى فقط في الزواج ورياسة القبيلة والحكم،فإنه لا يكاد يوجد فارق في طرق المعيشة الأخرى".
ومن عادة القسم الأكبر من سكان الجزيرة، ولا سيما البدو، مخاطبة رؤسائهم بأسمائهم أو بألقابهم، لأنهم لا يعرفون الألقاب وألفاظ التعظيم والتفخيم، فيقولون يا فلان ويا أبا فلان ويا طويل العمر.
ولا يزال العربي الصريح ينظر إلى الحِرَف والمهَن نظرة ازدراء، وإلى المشتغل بها نظره احتقار وعدم تقدير.
والبدوي، لا ينسى المعروف، ولكنه لا ينسى الإساءة كذلك، فإذا أسيء اليه، ولم يتمكن من رد الإساءة في الحال، كظم حقده في نفسه، وتربص بالمسيء حتى يجد فرصته فينتقم مه. فذاكرة البدوي، ذاكرة قوية حافظة لا تنسى الأشياء.
فترى من هذه الملاحظات إن كثيراً من الطباع التيّ تطبع بها عرب الجاهلية ما زالت باقية، وبينها طباع نهى عنها الإسلام وحرمها، لأنها من خلال الجاهلية، و مع ذلك احتفظ بها البدوي وحافظ عليها حتى اليوم، وسبب ذلك أن من الصعب عليه نبذ مما كان عليه آباؤه وأجداده من عادات وتقاليد. فالتقاليد والعرف وما تعارفت عليه القبيلة هي عنده قانون البداوة. وقانون البداوة دستور لا يمكن تخطيه ولا مخالفته، ومن هنا يخطئ من يظن أن البداوة حرية لا حد لها، وفوضى لا يردعها رادع، وان الأعراب فرديون لا يخضعون لنظام ولا لقانون على نحو ما يتراءى ذلك للحضري أو للغريب. انهم في الواقع خاضعون لعرفهم القبلي خضوعاً صارماً لشديداً، وكل من يحرج على ذلك العرف يطرد من أهله ويتبرأ قومه منه، ويضطر أن يعيش "طريداً" أو "صعلوكا" مع بقية "صعاليك".



العرب والعربي رجل جاد صارم، لا يميل إلى هزل ولا دعابة، فليس من طبع الرجل أن يكون صاحب هزل و دعابة، لأنهما من مظاهر الخفة والحمق، ولا يليق بالرجل أن يكون خفيفاً. ولهذا حذر في كلامه وتشدد في مجلسه، وقل في تجمعه الإسفاف. وإذا كان مجلس عام، أو مجلس سيد قبيلة، روعي فيه الإحتشام، والابتعاد عن قول السخف، والاستهزاء بالآخرين، وإلقاء النكات والمضحكات، حرمة لآداب المجالس ومكانة الرجال.
وإذا وجدوا في رجل دعابة أو ميلاً إلى ضحك أو إضحاك، عابوا ذلك الرجل وانتقصوا من شأنه كائناً من كان، وعبارة مثل "لا عيب فيه غير أن فيه دعابة لا أو "لا عيب فيه إلا أن فيه دعابة "، هي من العبارات التي تعبر عن الانتقاص والهمز واللمز.
والبدوي محافظ متمسك بحياته وبما قدر له، معتز بما كتب له وان كانت حياته خشونة وصعوبة ومشقة. ومن هذه الروح المسيطرة عليه، بقي هو هو، لا يريد تجديداً وتطويراً، إلا إذا أكره على التجديد والتغير والتبديل، فهنا فقط يخضع لقانون "القوة"، وهو لا يسلم له إلا بعد مقاومة،و إلا بعد شعوره بضعفه وبعدم قابليته على المقاومة. فيتقبل الآمر الواق مستسلماً، ومع ذلك يبقى متعلقا بما فيه، يحاول جهد إمكانه التمسك به، ولو بإلباسه ثوباً جديداً. وفي القرآن الكريم آيات بينات فيها تقريع و تعنيف للأعراب، ووصف لحياتهم النفسية. فيها أن الأعرابي محافظ لا يقبل تجديداً، ولا يرضى بأي تغيير كان لا يتفق وسنة الإباء والأجداد. ومنطقه في ذلك: "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا "، "إنا وجدنا إباءنا على أمة، و إنا على آثارهم مقتدون".
ولهذا لا نجد البدو يؤمنون بصفة التقدم والنشوء والأرتقاء. فالبدوي يعيش أبداً كما عاش آباؤه وأجداده، مساكنه بيوت الشعر، وهي لا تحميه ولا تقيه من اثر أشعة الشمس المحرقة ولا من العواصف والأمطار، ومع ذلك لايستبدلها بيتاً آخر، ولا يفكر في تحسين وضعه وتغيير حاله: "إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون ". وليس من الممكن أن تقوم في هذه البادية ثقافة غير هذه الثقافة الصحراوية الساذجة، ما دام البدوي مستسلماً مسلماً نفسه للطبيعة ولحكم القدر، وهو استسلام اضطر إلى الخضوع له والإيمان بحكمه، بحكم عمل الطبيعة القاسية فيه منذ آلاف السنين.

ملاك الشرق 17-04-2010 04:12 PM

وكيف يغير حاله، وليس في البادية ما يساعده على تغيير الحال، ليس فيها ماء كاف ولا شجر نام ولا أمطار وخضرة، فهو يعيش غلى كرم الطبيعة ورحمتها. أما إذا تكاثًر عدده، وزاد عدد خيام القبيلة، اضطرت إلى التنقل إلى مكان آخر، أحسن وأنسب من المكان القديم. وهكذا صار دائما في تنقل من مكان إلى مكان.
وتحمس الأعراب وأشباه الحضر في دفاعهم عن العرف، ليس عن بلادة وغباء وشعور بضعف في الكفايات، كلا فللبدوي ذكاء وقّاد وفطنة وكفاية وموهبة، وهو إذ يقاوم التغير والتبدل والتجدد، لا يقاومه عن غباء وبلادة وعن شعور بضعف تجاه تقبل الحياة الجديدة، وإنما يقاومه لأنه يشعر عن غريزة فيه أن حياته أفضل وأن البداوة حرية وانطلاق وعدم تقيد، وأن التطور إن لم يأت منه، فهو شر و بلاء، وان كيانه مرتبط بتقاليده، وان وجوده من وجودَ آبائه وأجداده، فهو إن انحرف عن عرفه عرض نفسه وأهله وقبيلته وكل وجود قومه للهلاك، فهو لذلك يرفض كل تجديد وتغير وإن بدا لنا أو له أنه لمصلحته، لغريزة طبيعية فيه وفي كل إنسان، هي غريزة المحافظة على البقاء، فخوفه من تعرض تقاليده وكيانه للخطر، هو الذي جعله محافظاً شديد التمسك بالعرف والعادة. أما إذا شعر هو أو أشعر من طريق غير مباشر بفائدة التطور والتغير وبما سيأتيه من نفع وربح، و لا سيما إذا لم يكن في التغيير ما يعارض عرفه ولا يناقض تقاليده، فإنه يتقبله ويأخذه، ويظهر مقدرة ومهارة فيه، حتى في الأمور الحديثة الغريبة عنه. ويروي خبراء شركات البترول كثيراً من القصص عن مقدار براعة البدو وحذقهم في إدارة الآلات والأعمال التي وكلت إليهم. وهناك شهادات أخرى مماثلة وردت من جهات فنية أخرى. ولو تهيا لهؤلاء البدو مرشدون وخبراء عقلاء كيسون لهم علم بنفسياتهم، ولو عرفت الحكومات العربية عقلياتهم و مشكلاتهم، لكان في الإمكان تحويلهم إلى ثروة نافعة لا تقدر بثمن، ولتجنبت بذلك المشكلات التي تواجهها منهم.



حتى الطب، هو في البادية طب بدوي متوارث لا يتغير ولا يتبدل، يقوم على المداواة بتجارب "العارفة" في الطب. ولا يطمئن الأعرابي إلى طب أهل الحضر، مهما فتكت به الأمراض وأنزلت نجه من آلام، ذلك لأن طب أهل الحضر هو طب غريب عليه بعيد عنه، فهو لذلك لا يطمئن إليه. اللهم إلا إذا أقبل عليه رؤساؤه و ساداته، أو أقنع بمنطقه و بطريقة إدراكه هو للأمور أن في الدواء الذي يداوىَ به شفاءً لمرضه، وعندئذ يقبل عليه ثم يزيد إقباله عليه، حتى يكون مألوفاً عنده، بل يقوم في مثل هذه الحالات باختزان ما يمكن اختزانه من الدواء للمستقبل من غير أن يفكر في كيفية خزنه، أو في المدة المقدرة لعمل ذلك الدواء، وتلفه بعد انقضائها.
ووصف الأعراب في القرآن الكريم بالغلظة والجفاوة وبعدم الإدراك وبالنفاق وبالتظاهر في اللسان بما يخالف ما فيَ الجنان: )قالت الأعراب: آمنا، قل، لم تؤمنوا، ولكن قولوا: أسلمنا، ولما يدخل الأيمانُ في قلوبكم، وإن تطيعوا الله ورسوله، لا يلتكم من أعمالكم شيئاً، إن الله غفور رحيم(. )وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مَرَدُوا على النفاق، لا تعلمهم، نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين، ثم يردّون إلى عذاب عظيم( . فالأعرابي "البدوي" إنسان لا يعتمد عليه، مسلم ومع ذلك يتربص بالمسلمين الدوائر، فإذا خذل المسلمون في معركة، أو شعر بضعف موقفهم خذلهم وانقلب عليهم، أو اشترط شروطاً ثقيلة عليهم، بحيث يجد فيها مخرجاً له ليخلص نفسه من الوضع الحرج الذي أصاب المسلمين. فلا يكلف نفسه، ولا يخشى من مصير سيئ ينتظره إن غلب المسلمون. )الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألاّ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، و الله عليم حكيم. ومن الأعراب من يتخذه ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر علهم دائرة السوء والله سميع عليم(، والأعرابي لم يُسِلمْ في الغالب عن عقيدة وعن فهم، إنما أسلم لأن رئيسه قد أسلم فسيّد القبيلة إذا آمن وأسلم، أسلمت قبيلته معه. وقد دخلت قبائل برمتها في الِنصرانية لد********* سيّدها فيها.

ملاك الشرق 17-04-2010 04:14 PM

وقد وردت في سورة الحجرات هذه الآيات في وصف بعض الأعراب: )قالت الأعراب آمنا، قل: لم تؤمنوا، ولكن قولوا: أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم. وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم في شيئاً. إن الله غفور رحيم. إنما المؤمنون، الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون. قل أتعلّمون الله بدينكم ؛ والله يعلم ما في السموات وما في الأرض. والله بكل شيء عليم. يمنّون عليك أن أسلموا. قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم، بل الله يمن عليكم، أنْ هداكم للإيمان إن كنتم صادقين(.
وقد استثنى القرآن الكريم بعض الأعراب مما وصمهم به من الكفر والنفاق والتربص وانتهاز الفرص فنزل الوحي فيهم: )ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول، ألا إنها قربة لهم، سيدخلهم الله في رحمته، إن الله غفور رحيم(.
وقد وصف الأعراب بالغلظة والخشونة، فقيل، أعرابي قُحّ ، وأعرابي جلف، وما شاكل ذلك. وفي الحديث "من بدا جفا"، أي من نزك البادية صار فيه جفاء الأعراب.
وذكر أن الرسول وصفه "سراقة" وهو من أعراب "بني مدلج" بقوله: "وان كان أعرابيا بوّالاً عد عقبيه". وأنه نعت "عُيَيْنَة بن حصن" قائد "غطفان" يوم الأحزاب ب "الأحمق المطاع". "وكان دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، بغير اذن، فلما قال له أين الإذن? قال ما استأذنت على مضربي قبلك. وقال: ما هذه الحميراء معك يا محمد? فقال: هي عائشة بنت أبي يكر. فقال: طلقها وانزل لك عن أم البنين. في أمور كثيرة تذكر من جفائه. أسلم ثم ارتد وآمن بطليحة حين تنبأ وأخذ أسيراً فأتي به أبو بكر، رضي الله عنه، أسيرا فمن عليه ولم يزل مظهراً للإسلام على جفوته وعنجهيته ولوثة اعرابيته حتى مات".
و ذُكر إن "الأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك وهشّ، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب". وذلك لازدراء العربُ الأعرابَ، و لارتفاعهم عنهم في العقل وفي الثقافة والمنزلة الاجتماعية.


وهذه الصفات التي لا تلائم الحضارة ولا توائم سنن التقدم في هذه الحياة، هي التي حملت الإسلام على اعتبار "التبدي" أي "التعرب" بعد الهجرة ردّة على بعض الأقوال وعلى النهي عن الرجوع إلى البادية والعيش بها عيشة أعرابية. فلما خرج "أبو ذر" إلى الربذة قال له عثمان بن عفان: "تعاهد المدينة حتى لا ترتد أعرابياً". فكان "في يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابية". ولما وصل "عبد الله بن مسعود" الربذة، ورأى ابنة أبي ذر وهي حائرة وكان والدها قد فارق الحياة لتوّه، سألها: "ما دعاه إلى الاعراب". وفي الحديث: "ثلاث عن الكبائر منها التعرب بعد الهجرة". وهو أن يعود إلى البادية ويقم مع الأعراب بعد أن كان مهاجراً. وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدّونه كالمرتد. وذلك بسبب جفاء الأعراب والجهالة، ومن هنا كرهت شهادة البدوي على الحضري فورد في الحديث "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية". لأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها وِلمَا في البدوي من جفاء وجهالة بأحكام الشرع.
وقد عُرفَ العربي الحضري ب "القراري"، أي الذي لا ينتجع ويكون من أهل الأمصار، وفيها، أن كل صانع عند العرب قراري. وهذه النظرية هي نظرة أهل البداوة بالنسبة لأهل الحاضرة، فالصانع عندهم إنسان مزدرى لاشتغاله بصنعة من هذه الصنائع التي يأنف منها العربي الحرّ.
والحق أن النعوت المذكورة لا تلازم جميع الأعراب ولا تنطبق عليهم كلهم. فهم يختلفون مثل أهل الحضر، باختلاف مواضعهم، من قرب عن حضارة ومن بعد عنها، ومن وجود ماء ونصب، أو جدب أو فقر،وما شاكل ذلك. كما أن بعض النعوت المذكورة تنطبق على بعض أهل المدر أيضا. ولهذا نجد القرآن الكريم. يطلقها عليهم، ولكن لا على سبيل التعميم بل على سبيل التخصيص، فهي نتائج ظروف خاصة وأحوال معينة، لا بد وأن تؤثر فئ أصحابها فتكّسبهم تلك الصفات والمؤثرات. كما أن العرب، أي الحضر، لم يكونوا كلهم في التحضر على درجة واحدة سواء، فبينهم اختلاف وتباين،

وبهذا التباين تباينت خصائصهم النفسية بعضهم عن بعض.
والبدوي الذي تمكن "ابن سعود" أو غيره من الحكام من ضبطه بعض الضبط ومن الحد من غاراته على الحضر أو على البدو ألآخرين، هو البدوي نفسه الذي عاش قبل الميلاد وفي عهد إسماعيل، والذي قالت في حقه التوراة: "يده على الكل و يد الكل عليه". و هو سيبقى كذلك ما دام بدويا ترتبط حياته بالصحراء، ينتهز الفرص كلما وجد وهنا في الحكومات وقوة في نفسه على أخذ ما يجده عند الآخرين، وهو إن هدأ و سكن، فلأنه يجد نفسه ضعيفا تجاه سلطة الحكومة، ليس في استطاعته مقاومتها لضعف سلاحه، فإذا شعر بقوته لم يخش عندئذ أحد.
و قد تأصلت الفردية في انفس الأعراب وفي أنفس أشباه الحضر وفي اكثر الحضر، حتى صارت أنانية مفرطة، عاقت المجتمع العربي في الجاهلية وفي الإسلام عن التقدم و عن التوثق و الاتحاد، وفي الأدبين الجاهلي و الإسلامي أمثلة عديدة سارت بين الناس تمثل هذه النظرية الضيقة إلى الحياة. ورد في الحديث عن أبي هريرة أنه قال:"قام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الصلاة، و قمنا معه، فقال أعرابي في الصلاة: اللهم ارحمني و محمدا، و لا ترحم معنا أحدا". فقدم نفسه على الرسول، مع انه مسلم يحمله دينه و أدبه: أدب الإسلام على تقديم الرسول عليه، ثم انه لم يخصص أحداً بالرحمة غير الرسول و غير نفسه مدفوعا بهذه الأنانية القبيحة. وكثيرا ما تسمع الناس يتمثلون بقول أبي فراس: "إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر".
يتمثل به الحضر تعبيرا عن فلسفة و وجهة نظر قديمة إلى هذه الحياة، مبعثها الوضع السيئ العام القلق الذي عمّ المجتمع وما زال يعمه، والذي جعل الفرد يشعر بعدم وجود من يحميه و يساعده ، فتحول غضبه إلى عقيدة مؤذية مضرة و يل للأسف.

و البدواة عالم خاص قائم بذاته، تكونت طباعها و خصائصها من الظروف التي نشأت فيها، لها مقاييسها و موازينها الخاصة، وهي مقاييس و موازين تختلف عن مقاييس الحضر و موازينهم، الحضر البعيدين عن البادية و عن أحوال البدواة و لذلك اختلفت افهام الجماعتين و تباعدت عقليتهما، ومن هنا يظهر خطأ من يحكم على البداوة بمقاييس أهل الحضارة و يفسر ما يقع من الأعراب تفسيره لما يقع من أهل المدر من أعمال، ومن هنا أيضا نجد أن البدواة لا تستطيع فهم منطق الحضر ولا تستسيغ أسلوب حياتهم، ولا تأمنهم، لأن عالمها يختلف عن عالم الحضر، ولأنها تجد من قيود الريف والمدن ما يصعب عليها تحمله، ولأنها ترى في الحضر جماعة حيل وشر. ومكر فلا تأمنهم، ولا تستطيع أن تطمئن اليهم، مهما أظهر الحضر نحوها من عطف و إحسان. وقد كابدت البداوة كثيراً كما كابدت الحضارة كثيراً أيضا من جراء سوء الفهم هذا الناجم من اختلاف العقليتين.
ويظهر البدوي في عين الحضري الحديث، وكأنه إنسان مزدوج الشخصية جامع للنقيضين، له وجهان. فهو محارب يحارب معك وفي صفوفك، أما إذا شعر أن الهزيمة ستحل بك، فإنه أول من ينقلب عليك، فيمعن عندئذ في سلبك ما معك ونهبه، لا فرق عنده أن يكون الذي حارب معه وفي صفوفه عربياً أو أعجمياً. شريفاً من أسرة عريقة أم قائداً محترفا. وهو كريم جواد يقدم لضيفه آخر شيء عنده ليأكله ويحبيه بكل وسائل الاكرام، ولكنه لا يمتنع من سلب غريب يجده في طريقه، ومن أخذ ما عنده. وهو رجل متدين لا يحلف كاذباً مها رأى النتيجة، ولكن تدينه تدين بدوي سطحي إلى غير ذلك من متناقضات.
أما الأعرابي، فيسخر من اتهام الحضري له بهذه التهم، ويعجب من سذاجة منطقه وحكمه، فمنطقه في نظره منطق رجل ساذج مريض معلول، وحكمه حكم إنسان ضعيف ذليل. وإلا فكيف يسمع عقل إنسان سليم لإنسان مثلاً أن يترك أموال صاحبه أو أصحابه تقع في أيدي غيره أو أعدائه، يأخذونها لينعموا بها وليفتخروا بحصولهم عليها، ثم لا يمد هو يده إليها يأخذ منها ما يحتاج أليه ويريد?


ألا يدل هذا العمل على السخف والضعف وفساد الرأي ? أن المحارب في نظر الأعرابي أولى من غيرة بأموال زميله المحارب، وهو أحق بها من أي إنسان آخر للحصول عليها إن داهمه خطر، وشعر أن تلك الأموال ستقع في أيدي عدوه، فهو زميله وصديقه، وهو فوق ذلك به حاجة أليها، فمن حقه الطبيعي إذن أن يأخذها ولو عنوة ويولي بها ليحرم عدوه الحصول عليها والحصول على أي مكسب كان من هذه الحرب. ثم إنه إن لم يباشر أخذ ما يجده أمامه في الوقت الملائم، فإن غيره سيأخذه حتماً، وقد يكون غيره هو خصمه وعدوه: ولما كانت النفس مقدمة على غيرها، كان من العقل والحكمة أن يأخذ حقه بنفسه، وإلا ضاع حقه عليه وأفلت منه. ومن هنا اختلف منطقه عن منطق الحضري وباين حكمه على الأمور حكم الحضري.
وحكم الأعراب على الأمور،حكم صادر عن عقلية خاصة بهم، كونتها عندهم الأحوال التي يعيشون فيها والمحيط الذي يتحكم فيهم من جفاف وحرارة وضوء ساطع واختلاف في درجات الضغط الجوي وانحباس الأمطار وفقر محالف لأغلب الأرضين ومن فقر وتقتير وبساطة في المأكل وأمثال ذلك من مؤثرات كونت عندهم عقلية خاصة وثقافة خاصة، فهمت الأمور بمنطقها لا بمنطق الآخرين. ومن هنا اختلفت أيضا عقليات الأعراب وتباينت بعض التباين باختلاف الأحوال التي تحيط بالأمكنة التي ينزلون بها ويقرب تلك الأمكنة وبعدها من الحضر ومن،الحضارة. وبمقدار تأثرها بالمؤثرات الخارجية وبالثقافات الواردة من الخارج، كالذي نلحظه من وجود شيء من التباين بين عقليات القبائل المتنصرة وأعمالها وعقليات القبائل الوثنية وأعمالها، بالرغم من أن نصرانية تلك القبائل لم تكن نصرانية عميقة صميمة، ولم تكن صافية خالصة، وذلك لأن هذه القبائل المتنصرة على سطحية تنصرها، كانت مواطنها ملاصقة للحضر وللحضارة وذات اتصال بالحضر وبالأعاجم وبالثقافات الأجنبية وبالبيئات الثقافية الغربية، وعاش بينها رجال دين غرفوا من ثقافات غريبة وبشروا بين العرب المتنصرة بآراء غريبة عنهم، كما تأثر رؤساء تلك القبائل بمؤثرات الحضر الذين احتكوا بهم وبرجال السياسة والدين الذين كانوا على اتصال بهم، وقد تزوج بعضها من نساء نصرانيات، أثرن في بيئة ذلك الزوج.
وقد نص الأقدمون على اختلاف طباع القبائل،فعرف بعضها باللين والسهولة،

ملاك الشرق 17-04-2010 04:16 PM

وعرف بعضها بالشدة والخشونة والغلظة، وعرف آخرون بالشجاعة والصبر على المكاره والميل إلى الغزو والحروب، وعرف غيرهم بالميل إلى الاستقرار وبقابليتها على الاستيطان واستغلال الأرض والالتئام مع الجيران. ولوجود هذه الصفات في القبائل كان الحكام في الجاهلية وفي الإسلام إذا أرادوا أمراً وكلوه إلى القبيلة التي تتناسب صفتها التي اشتهرت بها مع العمل الذي يراد القيام يه، وصار اعتماد الحكام على هذه الفراسة في الغالب. وما زال هذا التباين في كنايات القبائل معروفاً حتى اليوم، فقد اشتهرت بعض قبائل نجد بأمور لم تشتهر بها القبائل الأخرى، أو أنها فاقت بها سائر قبائل نجد، فاشتهرت بعضها بالقتال، واشتهرت بعضها بالصرامة والصبر، وما إلى ذلك، ويراعي حكام جزيرة العرب اليوم هذه الصفات في ضبط الأمور في حكوماتهم وفي حفظ التوازن في حكم البوادي والأعراب وفى السياسة العامة للحكومة. وفي تقارير السياسيين الوطنين والأجانب وفي كتب السْياح والبعثات الأجنبية على اختلاف أنواعها كلام على تباين طباع الأعراب في جزيرة العرب وطباع الحضر في هذا اليوم.
فترى أذن أن للأعراب رأياً في الحضر يشبه رأي الحضر فيهم، أي رأي فيه ازدراء و حط من شأن الحضر ومن مجتمعهم الذي يعيشون فيه، ومن قيمهم في هذه الحياة، وهو رأي تكون عندهم من بيئاتهم التي يعيشون فيها ومن ثقافتهم الخاصة بهم، التي تفسر الأمور بمقاييسها وأوزانها، وهي مقاييس وأوزان بعيدة عن مقاييس الحضر والحضارة ولا أقصد بالحضر هنا حضر الأعاجم وحدهم، بل ادخل فيهم حتى الحضر العرب، كالذي يتبين من استهجان الأعراب بشأن أهل المدر في كل مكان من أمكنة جزيرة العرب ومن ازدرائهم لأحلامهم ومثلهم في الحياة. فالبداوة ثقافة خاصة بهذا العالم، عالم البداوة، والحضارة ثقافة أخرى خاصة بالحضر، وبين الثقافتين بَوْن وخلاف.



وليست هذه الطباع وراثة تنتقل من الآباء إلى الأبناء ابدأَ في الدم، فلا تتبدل ولا تتغير، بل هي حاصل أحوال وبيئة، إذا تغيرت ا الأحوال والبيئة وقع تغير يتوقفّ على مقدار فعل البيئة الجديدة في الإنسان وعلى الزمان الذي يقضيه فيه وعلى مقدار استعداد ذلك الإنسان لتقبل البيئة الجديدة والثقافة الجديدة التي دخل فيها، ولحذا بركون فعل التغير في الجل القديم أقل من الجيل الجديد. وعلى ذلك يخطئ من يصف العرب بصفات يلصقها بهم يجعلها عامة عليهم أبدية. ودليلنا على ذلك أن من عاش من الأعاجم بين العرب وفي بيئة عربية، تطبع بطباع العرب وصار مثلهم، حتى إذا انقرض الجيل القديم ونبع الجيل الجديد تحول إلى جبل عربي في كل شيء، لا نستثتي من ذلك حتى الانتساب إلى العرب إلى عدنان وقحطان وحتى التعصب والعصبيات. والإسلام الذي صهر الأعاجم في بوتقته، وجعلهم جنوداً يحاربون في الصفوف الأمامية لنشره وإعلاء كلمته، لم يلبث أن أنساهم أصولهم ولغاتهم، فحوّلهم بذلك إلى عرب من حيث لم يشعر العرب ولا الأعاجم أنفسهم به.
والأعرابي واقعي، تتأثر أحكامه بالواقع الذي يراه، وبمقياس المادية التي تتمثل عنده، يؤمن بالروح، ولكنه يحولها إلى ما يشبه المادة الملموسة. يؤمن بإلّه أو بآلهة، كما كان في الجاهلية ولكنه حوّل تلك الآلهة إلى أوثان وأصنام، يلمسها ويحسها بيديه، فيتقرب أليها ويتوسل بها، وخاف من الأرواح مثل الجن والأرواح الخبيثة التي صورها عقله، أكثر من خوفه من آلهته، فإذا نزل مكاناً قفراً، أو محلاً موحشاً، أو دخل مكاناً مظلماً أو كهفاً، تعوذ من الأرواح، واحتال عليها بمختلف الحيل التي ابتكرها عقله، ليتغلب عليها وليتخلص منها. فهو يخافها اكثر من خوفه من الآلهة، لأنه جعلها تعيش معه في كل مكان، فهي تحيط به. أما الالهة، فإنها بعيدة عنه، ثم إنها لا تؤذي، ومن طبع الإنسان التخوف من المؤذين.

وهو لا سفل بما بعد الموت، لأن هذا العالم الثاني عالم غير محسوس بالقياس إليه. ولهذا لم يتصوره كتصور غيره من الأمم الأخرى، بل هو لم يتعب نفسه بالتفكر فيه، ولهذا كانت مراسيم دفن الميت بسيطة جداً، لا تكلف فيها ولا تعقيد، على نحو ما نجده عند الحضري أو العجم، متى دفن في قبره وهيل التراب عليه، انتهى كل شيء. ولهذا كاد عجبهم شديداً إذ سمعوا بالبعث وبالقيامة والحشر والنشر. )أ إذا امتنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون، أو آباؤنا الأولون(. وكان قائلهم يقول: حياة، ثم موت، ثم نـشـر: حديثُ خُرافة، يا أم عمرو!
وقال شدّاد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك، يرثي قتلى قريش يوم بدر: يحدثنا الرسول بأن سنحيا=وكيف حياةُ أصداءٍ وهامِ وقد ورد البيت المذكور في صورة أخرى في كتاب "الصبح المنير في شعر أبي بصير"، في باب شعر "أعشى نهشل"، ورد في هذا الشكل: وكائن بالقليب قلـيب بـدر من الفتيان والعرب الكرام
أيوعدني ابن كبشة إلى سنحياً وكيف حياة أصداءٍ وهامِ ?
أيعجز أن يرد الموت عنـي وينشرني إذا بليت عظامي
ألا مَنْ مبلغ الرحمن عنـي بأني تارك شهر الـصـيام
فقل لله يمنعنـي شـرابـي وقل لله يمنعني طعـامـي

ملاك الشرق 17-04-2010 04:17 PM

والحضر الذين نظروا إلى الأعراب، نظرة استصغار وازدراء، لما بينهم وبين الأعراب من تفاوت في الثقافة وفي العقلية، هم أنفسهم وفي الواقع أشباه حضر، وأخص من هؤلاء الحضر حضر الحجاز، فخصائص التعرب غالبة عليهم، غلية تزيد على خصائص الحياة الحضرية. فقد قامت قراهم مثلاً وأعظمها مكة ويثرب على الفكرة الأعرابية القائمة على أساس النسب، فكل من مكة ويثرب شعاب، كل شعب لفخذ أو عائلة أو ما أشبه ذلك من أسماء تدخل في أسماء أجزاء القبيلة، تتعصب وتتحزب وتتقاتل فيما بينها وتتحالف، كما يتقاتل أو يتحالف الأعراب. ثم إنهم كانوا يأنفون من الاشتغال بالحرف، تماما كما يفعل البدو، ويعافون الزراعة في الغالب، لا استثني منها زراعة النخيل، لأن الزراعة في نظرهم من أعمال النبط والرقيق،والروح الفردية سائدة بينهم، موجودة عندهم، إلا في أوقات الشدة والضيق، والفردية الجامحة من طبائع البادية ومن خصائصها، إلى أمور أخرى عديدة تعدّ من صميم الحياة الأعرابية. وسبب ذلك أن هذه المستوطنات التي سموها قرى كانت وسطاً بين البداوة والحضارة، وكانت كالجزر الصغيرة وسط المحيطات الواسعة، محيطات من الأعراب،، تستمد غذاءها الروحي والمادي من البداوة أكثر مما تستمده من الحضارة. أضف إلى ذلك عامل الطبيعة الذي يلعب دوراً خطراً في تكون المجتمعات وفي تكييفها بالشكل الملائم. ولذلك لم تتكون في يثرب أو في مكة أو في غبرها حياة مشابهة لحياة الحضر العجم في الأماكن الأخرى مثل مدن وقرى العراق وبلاد الشام ومصر، بل وحتى حضر مدن اليمن وهم من العرب بالطبع.


ومن هنا نجد حضر اليمن، بل وأعرب اليمن أيضا يختلفون عن حضر وأعراب الحجاز ونجد والعربية الشرقية، في كثير من الخصائص والصفات. مع أنهم كلهم عرب ومن أصل واحد. فحضر اليمن، حضر لا يأنفون من العمل ولا يستصغرون شاًن الحرف. ولا يأنفون من الزراعة. بينهم الحائك والنساج والمشتغل بالأرض، والصانع والحداد والنجار وعامل البناء، وقالع الحجر ومربي الماعز والغنم والبقر، وزارع الخضر والبقول، ودابغ الجلود، مع أنها حرف يراها العربي في بقية مواضع جزيرة العرب من حرف اليد والطبقات الدنيا من الناس.
و أعراب اليمن، الذين ميزهم حضر اليمن عن أنفسهم في الجاهلية بإطلاق لفظة "اعرب" عليهم، لأنهم لم يكونوا في مستواهم وفي درجتهم في الحضارة. هم مع ذلك وبوجه عام أرقى مستوى وأكثر إدراكا من أعراب الحجاز ونجد. لقد وطنوا أنفسهم في أطراف الحواضر وعند مواضع الماء والخصب، وزرعوا ورعوا ماشية وأنعاماً، واستقروا في بيوت من مدر أو حجارة. وهي حياة لا يألفها البدوي القح. ولا يراها من مقوّمات البداوة. ثم انهم لم يكونوا رحلاً على شاكلة أعراب الحجاز أو نجد أو بادية الشمام. وإذا كنا نرى بعض قبائل اليمن، وهي ترحل من مواضعها، فرحيلها هذا هو عن سبب قاهر، مثل حروب أو كوارث طبيعية تجعل من الصعب عليها البقاء في منازلها، فلا يكون أمامها للمحافظة على حياتها غير الرحيل إلى مكان آخر. انهم بالقياس إلى عرب الحجاز أو نجد رعاة أو شبه أعراب.



ومرجع هذه الفروق هو في التباين في الطبيعة. فطبيعة أرض اليمن مثلاً طبيعة لطيفة خفيفة، الحرارة فيها معتدلة بوجه عام، والفروق في درجات الحرارة بين الصيف والشتاء،أو بين الليل والنهار ليست كبيرة متناقضة متعاكسة. والضغوط الجوية فيها معتدلة غير قلقة متغيرة بكثرة في اليوم أو في الشهر أوفي السنة، والأمطار متوفرة بوجه عام، تزور اليمن في مواسم معينة، وجبال اليمن العالية جبال تقف شامخة عنيدة وفي وضع مناسب أمام الأبخرة المتصاعدة من البحار، حتى تضطرها على الهبوط غيثاً على اليمن يغيث الناس. ثم أن اليمن هضاب وأودية وتهائم، ومسايل طبيعية تقود السيول إلى أحواض حفرتها الطبيعة، وعلمت هذه الطبيعة الإنسان على رفع حافاتها لتحبس الماء في الأحواض، وعلى عمل فتحات فيها لخروج الماء منها وقت الحاجة. وهي غنية بالمعادن وبالحجر الصالح للبناء وبالأشجار التي غرزتها الطبيعة بيدها، وأرض على هذا النحو وعلى هذه الشاكلة لا بد وأن تؤثر على أجسام وعلى عقول أصحابها، فجعلتهم من ثمّ من أنشط شعوب جزيرة العرب في ميدان العمل والحيلة في كسب العيش وفي إقامة المجتمعات وإنشاء حضارة، وفوّقتهم بذلك بوجه عام على سائر عرب جزيرة العرب، وصيرتهم قوماً لا يرون الأشغال بالحرَف عيباً، ولا امتهان المهن العملية نقصاً. ولو كانت أرضهم على شاكلة أرضَ الحجاز أو نجد، ولو كانت طبيعتها ذات طبيعة صحراوية قاسية، لما صار أهل اليمن بالشكل الذي ذكرته. ولهذا السبب، اختلفت طبائع من يسميهم أهل الأخبار بالقحطانيين الساكنين خارج اليمن في نجد أو في بادية الشام عن طبائع أهل اليمن، فصاروا أعراباً أقح*********ً يأنفون من الاشتغال بالحرَف، ولا يعيشون إلا على تربية الإبل، إلى غير ذلك من سمات وسم بها البدو مع انهم يمانيون كما يذكر أهل الأخبار.

ملاك الشرق 17-04-2010 04:19 PM

ولو كانت طبيعة أرض البادية على نحو آخر، على نحو يؤمن العيش والراحة لمن يقيم بها، لما وجدنا ما وصففاه من أوصاف عند الأعراب، فإن الطبيعة تصقلهم إذ ذاك صقلاً آخر، قد تجعلهم مستقرين مقيمين على الأقل، ودليل ذلك أثر الأمطار والربيع فيهم، عندما تغيثهم السماء، سنين متوالية، إذ يبقون في أماكنهم، ويقيمون فيها،ولا يخطر ببالهم عندئذ خاطر الارتحال والتنقل من هذه ا لأرض.
ولأثر الطبيعة المذكور في طباع الناس، اختلفت طبائع أهل "الطائف" عن طبائع أهل مكة مع أنها أقرب إلى مكة من اليمن، وسبب ذلك أن الطائف أرض مرتفعة ذات جو معتدل، بها مياه وفيرة، وبها أشجار وهبتها الطبيعة لأرضها منذ القدم، أرضها نصبة فرحة، لا تسودها كآبة البادية ولا يخيم عليها عبوس البيداء، فصارت أخلاق أهلها من ثم أقرب إلى أخلاق أهل اليمن، وصاروا أذكياء، عقولهم متفتحة نيرة، استغلوا أيديهم، فزاولوا الحرف مثل الدباغة، واستغلوا الأرض، إذ زرعوها حباً وأشجاراً مثمرة، وربوّا الماشية، وصارت مدينتهم حتى اليوم مصيف أهل مكة. مع أنهم عرب ما في أصلهم العربي أدنى شك، وهم وعرب مكة أو يثرب أو نجد من طينة واحدة، لا شك في ذلك ولا شبهة.
فالطبيعة إذن من حر وبرد ومن اختلاف في الضغوط الجوية ومن أشعة شمس محرقة منهكة ومن إشعاع أرضي ومن أمطار و أهوية ورياح ومن طبيعة أرض وموقع، ومن هبة الطبيعة إلى السكان من طعام غني أو فقير، من حبوب وأثمار وخضر وحيوان، أثر بالع في تكوّن الطباع وفي خلق التمايز بين الأجناس البشرية، تضاف إلى ذلك الظروف الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تحيط بالناس ثم التكوّن الجسماني ومظهره. ومن هنا نجد العربي الأصيل الذي لا شك ولا شبهة في أصله العربي،


إذا أقام وحده مدة في مجتمع غربي مثل انكلترة أو اسكاندينافية أو أميركا الشمالية، حيث الطبيعة مختلفة عن طبيعة بلاده وحيث الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية متباينة عن الظروف المذكورة في بلاده، تغير وتبدل واضطر مختاراً أو كرهاً عن غريزة تطور كامنة فيه إلى التأقلم والانسجام مع القوم الذين صار يعيش بينهم. ويتوقف هذا التحول بالطبع على عمر الشخص وعلى قابليته وعلى مدة إقامته في المكان. ولو أقام ذلك العربي طيلة حياته كلها في ذلك الوطن الجديد، وصار له نسل من زوجته العربية التي قدمت معه أيضا، فإن النسل الجديد سيكتسب صفات الموطن الذي نشاً فيه ويتخلق بأخلاقه، أما نسل نسله، فإنه سيتحول إلى شخص آخر غريب عن جده، غريب عنه حتى في لغته. ومن هنا نجد الجيل الثالث من أجيال المهاجرين العرب الذين هاجروا إلى أميركا، وتجنسوا بها، جيلاً أمريكيا في كل شيء، حتى في لغته وثقافته وشعوره وهواه، يشعر أن حنجرته لا تطاوعه على تعلم العربية وأن أوتارها لا تساعد على النطق بها. مع أنه من أصل عربي أباً وأماً. وقد برز من هذا الجيل الجديد اليوم قوم في ميادين العلم والتجارة والمال والصناعة والسياسة والعمل، ودخل نفر منهم مجلس النواب في واشنطن، وسيزيد هذا العدد ولا شك، لم يعقهم عن ذلك عائق الرس والعنصر والجنس وخصائص الدم ولو كان الدم عائقاً إلى الأبد، لما حدث في المذكورين ما نراه عملياً في هذا ا ليوم.
والعربي بعد، إن وصف في الجاهلية أو في الإسلام بالخمول والكسل، وب "الرومانطيقية"، أي بالخيال، وبعسم الصبر وبالأنانية والفردية وبما شاكل ذلك من صفات، فصفاته هذه ليست حاصل خصائص دم ونتيجة سمات عرق، وإنما هي ظروف وأحوال وأوضاع أجبرته على ذلك، ولو أطعم ذلك العربي طعاماً صحياً فيه المواد الغذائية الضرورية لنمو الجسم والعقل،ولو تغيرت ظروفه، فهو كما ذكرت سيتغير حتماً. وما كان الأوروبي ليتفوق على الشرقي لو أن طبيعة إقليمه وأرضه كانت كطبيعة جزيرة العرب، ولو سكن الألماني أو السويسري أو الإنكليزي بلاد العرب،



وصار له نسل، فإن نسله لا ينشاً كما لو نشاً في وطن والده أو جدّه، لاختلاف الظروف والأجواء. وما كانت أوروبا خضراء هذه الخضرة ونشطة هذا النشاط بسبب دم أهلها وحده،بل لأن طبيعتها ساعدت الناس وعاونتهم،فأنبتت الرطوبة والأمطار الأشجار بنفسها وكونت لأهلها الغابات، ودفع البرد الناس إلى العمل دفعاً، ولهذا تجد الناس عندنا في الشتاء يندفعون إلى العمل اندفاعاً بعامل البرد الذي يدفع الجسم إلى الحركة.
أضف إلى كل ذلك عوامل أخرى تؤثر في جسم الإنسان وفي تصرفاته واتجاهاته من تركيب جسم ومن ملامح، مثل لون شعر وتركيبه ولون بشرة أو لون عين وشكل جمجمة وأمور أخرى يدرسها ويبحث فيها علماء الأجناس البشرية، تؤثر أيضا في خصائص الإنسان وفي أجناسه وفصائله، مما لا مجال للبحث عنها في هذا المكان.
والبحث في موضوع نفسيات الشعوب وأصول تفكيرها وميزات عقلها، بحث يجب أن يستند إلى أسس علمية حديثة، وإلى تجارب دقيقة عامة،لذلك لا يمكن التعميم ما دمنا لا نملك بحوثاً ودراسات علمية منسقة، قام بها علماء متخصصون في البوادي وفي الحواضر وفي كل مكان من جزيرة العرب، روعي عند إجرائها الظروف الطبيعية المؤثرة في ذلك المكان، والظروف الثقافية السائدة عليه، ودرجة تأثر ذلك المكان بالمؤثرات الخارجية، أي بمؤثرات المناطق المجاورة له. فبين أهل جزيرة العرب بون كبير في العقليات، وبين أهل البوادي في الجاهلية وفي هذا اليوم فروق في النفسيات وفي التعامل، حتى وسمت القبائل بسمات، فوسمت "معد" مثلاَ ة بالحيلة و الكيد والذكاء وبالغلظة والخشونة، ووسمت "ثقيف" بسمات، ووسمت "كندة" بسميات. وقد رأينا ما ذكره "حافظ وهبة" عن أهل نجد من حضر وبدو.


بل إننا نرى أن الأعاجم المتعربين أي الذين ينزلون بين العرب وينسلون بينهم ويتخذون العربية لساناً لهم، سرعان ما يتعربرون كل التعرب، ويتحول أبناؤهم إلى جيل عربي خالص، حتى ليصب عليك التفريق بينهم وبين العرب في الرسوم والعادات والتفكير، وذلك بتأثير المحيط الذي حلوا به، والظروف الطبيعية المؤثرة بالمكان. وقد تعرب آراميون في العراق وفي بلاد الشام، وصاروا عرباً في كل شيء حتى في الصفات التي ذكرناها، وقد وجدت البعثة الأمريكية التي جاءت إلى العراق للبحث عن السلالات البشرية إن في دماء القبائل العربية التي ترى نفسها إنها قبائل عربية خالصة نسباً مختلفة من الدماء الغربية، وإذا أدركنا هذه الملاحظة وقيمة أمثال هذه الدراسات في موضوع تكوّن العقلية وفي حدودها ورسم معالمها، علمنا انه ليس من السهل في الواقع البحث عن عقلية عربية خالصة تعبر عن عقلية جميع العرب وفي كل مكان.
إن الذين بحثوا في العقلية العربية بصورة عامة، تصوروا العرب وكأنهم جنس واحد انحدر من عرق واحد. وبهذا الاعتقاد وضعوا حدود تلك العقلية. أما إذا نظرنا إلى نتائج فحوص بعض علماء "الأنثروبولوجي" وعلماء الآثار وعلماء الحياة لبقايا الجماجم والعظام التي عثروا عليها من عهود ما قبل الإسلام، وإلى فحوصهم لملامح العرب الأحياء وأجسامهم، فإنها على قلتها، تشير إلى وجود أعراق متعددة بين سكان جزيرة العرب، الأموات منهم والأحياء، الجاهليين والإسلاميين، وإلى وجود اختلاف في نفسياتهم وفي قابلياتهم العقلية، وقد تحدثت قبل قليل عن ملاحظات "حافظ وهبة" عن عقليات عرب المملكة العربية السعودية، وتحدثت عن رأي علماء الحياة والأجناس في تعدد الأعراق وتسرب دماء غريبة إلى جزيرة العرب يجعل من الصعب على الباحث الحذر أن يعتقد بإمكان وضع صورة دقيقة يمثل وجود عقلية واحدة لجميع أولئك الناس وفي كل العصور والعهود.

ملاك الشرق 17-04-2010 04:23 PM

الفصل الثامن
طبقات العرب




اتفق الرواة وأهل الأخبار، أو كادوا يتفقون على تقسيم العرب من حيث القدم إلى طبقات: عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة. أو عرب عاربة، وعرب متعربة، وعرب مستعربة. أو عرب عاربة وعرباء وهم الخلص، والمتعربة. واتفقوا أو كادوا يتفقون على تقسيم العرب من حيث النسب إلى قسمين: قحطانية، منازلهم الأولى في اليمن. وعدنانية، منازلهم الأولى في الحجاز.
واتفقوا، أو كادوا يتفقون على أن القحطانيين هم عرب منذ خلقهم الله، وعلى هذا النحو من العربية التي نفهمها ويفقهها من يسمع هذه الكلمة. فهم الأصل، والعدنانية الفرع، منهم أخذوا العربية، وبلسانهم تكلم أبناء إسماعيل بعد هجرتهم إلى الحجاز، شرح الله صدر جدهم إسماعيل، فتكلم بالعربية، بعد أن كان يتكلم بلغة أبيه التي كانت الإرمية، أو الكلدانية، أو العبرانية على بعض الأقوال.
وتجد الأخباريين والمؤرخين يقسمون العرب أحياناً إلى طبقتين: عرب عاربة، وعرب مستعربة. ويدخلون في العرب العاربة عاداً وعبيل ابني "عوص بن إرم"، وثمود وجديس ابني "جاثر بن إرم"، وعمليق وطسم وأميم بني "لوذان بن إرم"، و "بني يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام"، وهم: جرهم، وحضرموت، والسلف، وجاسم بن عمان بن سباً بن يقشان بن إبراهيم. أما "الهمداني"، فقد عدّ كل القبائل التي أولها "جاسم" وآخرها "عَبس الأولى" من العرب العاربة. والقبائل المذكورة هي "جاسم" الذين نزلوا بعمان والبحرين، وبنو هيف، وسعد، وهزان الأولى، وبنو مطر، وبنو الأزرق، وبنو بديل، وراجل، وغفار، وتيماء، وبنو أثابر، وبنو عبد ضخم.


وظل الرواة يتوارثون هذا التقسيم كلما بحثوا في تاريخ العرب قبل الإسلام، وفي موضوع الأنساب. ولا حاجة بنا إلى أن نعود، فنقول: إن كل ما روي من هذا التقسيم وما رواه الرواة من أخبار تلك الطبقات، لم يرد ألينا من النصوص الجاهلية، وإنما ورد ألينا متواتراً من الكتب المدونة في الإسلام، لذلك لا نستطيع أن نجرؤ فنقول: إن هذا التقسيم، وضعه الجاهليون، وتوارثوه كابراً عن كابر، حتى وصل إلى صدر الإسلام، م منه وصل ألينا.
وتقسيم العرب إلى طبقات - وذلك من ناحية القدم والتقدم في العربية - هو تقسيم لا نجد له ذكراً لا في التوراة أو الموارد اليهودية الأخرى ولا في الموارد اليونانية أو اللاتينية، أو السريانية. ويظهر أنه تقسيم عربي خالص، نشأ من الجمع بين العرب الذين ذكر أنهم بادوا قبل الإسلام، فلم تبق منهم غير ذكريات، وبين العرب الباقين، وهم إما من عدنان، وإما من قحطان.
وجماع العرب البائدة في عرف أكر أهل الأخبار، هم: عاد، وثمود، وطميم، وجديس، وأميم، وجاسم، وعبيل، وعبد ضخم، وجرهم الأولى، والعمالقة، وحضورا. هؤلاء هم مادة العرب البائدة و خامها، وهم أقدم طبقات العرب على الإطلاق في نظر أهل الأخبار.
أما عاد، فإنهم من نسل "عاد بن عوص بن إرم". وأما ثمود فمن نسل "ثمود بن غاثر بن إرم". وأما "طسم"، فمن نسل "طسم بن لاوذ". وأما "جديس"، فمن نسل "جديس بن غاثر بن إرم"، في رواية أو من نسل "جديس بن لاوذ بن سام" على رواية أخرى. وأما "أميم" فإنهم من نسل "أميم بن لاوذ بن سام". وأما "جاسم"، فمن نسل "جاسم"، وهو من العماليق أبناء "عمليق"، فهم اذن من نسل "لاوذ بن سام


وأما "عبيل"، فإنهم من نسل "عبيل بن عوص بن إرم"، وأما "عبد ضخم"، فمن نسل "عبد ضخم" من نسل "لاوذ"، وقد جعلوا من صُلْب "أبناء إرم" في رواية أخرى. وأما "جرهم الأولى"، فمن نسل "عابر"، وهم غير جرهم الثانية، الذين هم من القحطانيين. وأما العمالقة، فإنهم أبناء "عمليق بن لاوذ"، وأما "حضورا"، فإنهم كانوا بالرسّ، وهلكوا.
نرى مما تقدم أن أهل الأخبار قد رجعوا نسب العرب البائَدة إما إلى "إرم"، وإما إلى "لاوذ"، باستثناء "جرهم الأولى" الذين ألحق بعض النسابين نسبهم ب "عابر". وهذه الأسماء هي أسماء توراتية، وردت في التوراة، وأخذها أهل الأخبار من منابع ترجع إلى أهل الكتاب، وربطوا بينها وبين القبائل المذكورة، وكونوا منها الطبقة الأولى من طبقات العرب.
و "إرم"، هو شقيق "لاوذ" في التوراة، وأبوهما هو "سام بن نوح"، وقد ترك "سام" هذا من الأولاد "آشور" Asshur و "أرفكشاد" و "لود" و "إرم" و "عيلام". كما ورد في التوراة. وقد أجرى أصحاب الأخبار بعض التحوير والتغيير في هذه الأسماء، بأن صيرّوا "آشور" )أشوذ( و "انشور" و "أرفكشاد" "أرفخشذ"، و "لود" "لاوذ"، و "عيلام" "عويلم"0 أما "إرم"، فقد أبقوه ولم يغيروا في شكله.
ولا نجد ل "لود" أي "لاوذ" ولداً في التوراة. فأولاده المذكورون هم هدية من أهل الأخبار قدمت أليه. أما "إرم"، وهو "آرام" في التوراة، فإن له من الأولاد "عوص" و "حول" و "ماش" و "كيثر". ولم تذكر التوراة ولداً لهؤلاء الأبناء الأربعة، فالأولاد الذين ذكرهم أهل الأخبار، على انهم ولد "عوص" و "كيثر" "غاثر" "كاثر"،هم هبة من الأخباريين قدموها إلى هذين الأخوين.


وأما "لود" الذي صار "لاوذ"، عند أهل الأخبار، فإن آراء الباحثين في التوراة مختلفة في المراد منه. وقد ظن بعضهم أنه جد "اللوديين"، وذكر هؤلاء "اللوديين" مع "كوش" و "فوط"، و بين "فارس" و "فوط". وأما "لود" أبوهم، فإنه ابن "مصرايم" أي مصر. ويحملنا هذا على التفكير في أنهم شعب من شعوب إفريقية. ولكن هذا الرأي يخالف ما جاء عن "لود" من انه ابن "سام"، وانه شقيق لأخوته المذكورين الذين تقع أملاكهم في الهلال الخصيب، ومقياساً على هذه المواضع يجب أن يكون ملكه في هذه الأرضين أيضاً. ومهما يكن من شيء، فإن آراء العلماء متباينة في مواضع نسله، ولم ينوه أحد منهم أنها في جزيرة العرب.
وأما عوص، فإن آراء العلماء متباينة كذلك في المكان المنسوب أليه، فذهب بعضهم إلى أن أرض "عوص" يجب أن تكون على تخوم "ايدوم" أو تخوم العربية الشمالية، وذهب بعض آخر إلى أنها المناطق التي على نهر الفرات، وذهب بعضهم إلى أنها في منطقة "حوران" وذهب بعض آخر إلى أنها أرض "دمثسق" و "اللجاة" "اللجاء"، وذهب آخرون إلى أنها في الحجاز أو في نجد. ورأى بعض أهل الأخبار أن منزل "عوص" هو "الأحقاف".
وأرض "عوص" هي موطن "أيوب" الشهير صاحب السفر المعروف باسمه والذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وضرب به المثل في الصبر.
وأكاثر "جاثر" "Gether"، فلا يعلم من أمره شيء، ويحب أن تكون مواطن "الكاثريين" في الهلال الخصيب، أو في بادية الشام، أو في التخوم الشمالية لجزيرة العرب، وذلك نظراً لوروده مع "عوص" و "ماش".

ملاك الشرق 17-04-2010 04:24 PM

وقد جعل أهل الأخبار "النبط" من نسل "نبيط بن ماش"، وجعلوا أهل الجزيرة والعال من ولد "ماش" كذلك. أما النبط في التوراة، فانهم "نبيوت" نسبة إلى الابن الأكبر لأبناء "إسماعيل المسمى ب "نابت" عند أهل الأخبار وليس ل "ماش" علاقة به وبالنبط. وأما "ماش"، فانه كناية عن موضع سكنه جماعة عرفوا بهذا الاسم، لعله "بادية ماش" "صحراء ماش" المذكورة في الكتابات الآشورية، وهي في البادية الكبيرة المسماة "بادية الشام".
العرب البائدة
ونحن جرياً مع عادة أهل الأخبار في تقسيم العرب إلى الطبقات الثلاث المذكورة، نبدأ بذكر الطبقة الأولى من طبقات العرب، وهي طبقة العرب البائدة.
وقد شك كثير من المستشرقين في حقيقة وجود أكثر الأقوام المؤلفة هذه الطبقة، فعدّها بعضهم من الأقوام الخُرافية التي ابتدعتها مخيلة الرواة، وخاصة حين عجزوا عن العثور على أسماء مشابهة لها أو قريبة منها في اللغات القديمة أو في الكتب الكلاسيكية، وقد اتضح الآن أن في هذه الأحكام شيئاً من التسرع، إذ تمكن العلماء من العثور على أسماء بعض هذه الأقوام، ومن الحصول على بعض المعلومات عنها، ومن حلّ رموز بعض كتاباتهم مثل الكتابات الثمودية. وقد اتضح أن بعض هذه الأقوام أو أكثرها قد عاشوا بعد المسيح ولم يكونوا ممعنين في القدم على نحو ما تصور الرواة. ولعلّ هذا كان السبب في رسوخ أسمائهم في مخيلة الإخباريين.

وأبدأ الآن بالتحدث عن "عاد": عاد: و إذا جارينا الأخباربين، وسرنا على طريقتهم في ترتيب الشعوب العربية، وجب علينا تقديم طسم وعمليق وأميم وأمثالهم على عاد وثمود؛ لأنهم من أبناء "لاوذ بن سام" شقيق "إرم"، وعاد وثمود من حَفدة "إرم بن سام". ولكن الأخباريين يقدمون عاداً على غيرهم، و يبدأون بهم، وهم عندهم أقدم هذه الأقوام، ويضربون بهم المثل في القدم. ومثلهم في ذلك مثل أخباريي العبرانيين الذين عدّوا العمالقة أول الشعوب. ولعل هذه النظرية تكونت عند الجاهليين من قدم عاد، أو من ورود اسم عاد في القرآن الكريم في سورة الفجر ثم مجيء اسم "ثمود" بعد ذلك. ولهذا صاروا إذا ذكروا "عاداً" ذكروا "ثموداً" بعدها في الترتيب. فلورودهما في القرآن الكريم قدما على بقية الأقوام.
وقد أورد "الطبري" ملاحظة مهمة عن قوم "عاد" وعن رأي أهل الكتاب فيهم، إِذْ قال: "فأما أهل التوراة، فإنهم يزعمون أن لا ذكر لعاد ولا ثمود ولا لهود وصالح في التوراة، وأمرهم عند العرب في الشهرة في الجاهلية، والإسلام كشهرة إبراهيم وقومه". ويظهر من ذلك أن المسلمين حينما راجعوا اليهود يسألونهم علمهم عن عاد وأمثالهم، أخروهم بعدم وجود ذكرهم في التوراة. والواقع أن التوراة لا علم لها فيهم. فأحادث عاد وثمود وهود وصالح إنما هي أحاديث عربية، تحدث بها الجاهليون، وليس لها ذكر في كتب يهود، ولكن أهل. الأخبار ربطوا مع ذلك بينها وبين التوراة، وأوجدوا لها صلة ونسباً بأسماء أعيان وردت في التوراة. ولكن عملهم هذا لا يخفى بالطبع على من له وقوف على التوراة.

وأكثر هذه الأقوام أقوام متأخرة عاشت بعد الانتهاء من تدوين التوراة، عاشت بعد الميلاد في الغالب، ولعل منها من عاش إلى عهد غير بعيد عن الإسلام. ثم إن التوراة والكتب اليهودية الأخرى لم تهتم إلا بالشؤون التي لها علاقة بالعبرانيين، وهي ليست كتباً في التواريخ العامة للعالم حتى تكتب عنهم وعن أمثالهم من قبائل. أما بقاء أخبار قوم عاد ومن كان على شاكلتهم من العرب البائدة في ذاكرة أهل الأخبار، فلأنهم عاشوا بعد الميلاد، وفي عهد غير بعيد عن الإسلام، ومع ذلك، فقد أخذت أخبارهم طابع القصص والأساطير.
وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى أن عادا هي "هدورام" في التوراة. ودليلهم على ذلك اقتران عاد بإرم في الكتب العربية، وبعض القراءات التي قرأت "بعاد إرم" في الآية: )ألم ترَ كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد" على الإضافة، أو مفتوحتين، أو بسكون الراء على التخفيف، أو بإضافة إرم إلى ذات العماد. وبين "عاد إرم" و "هدورام" تشابه كبير في النطق.
ولكن التوراة تشير إلى أن "هدورام" من نسل "يقطان"، أي قحطان في الكتب العربية، وهذا لا يستقيم مع الروايات. ويرد "جرجي زيدان" على هذا الاعتراض بقوله: "ولعل كاتب سفر الخليقة رأى مقر تلك القبيلة في بلاد اليمن، فقال أنها من نسل قحطان، لأن مقام عاد في الأحقاف بين حضرموت واليمن. كثيراً ما التبس علماء التوراة في هدورام أو هادرام ومقر نسله، ولم يهتدوا إلى شيء عنه، مع انهم اهتدوا إلى أماكن أكثر أبناء قحطان، وكلها بحوار الأحقاف، فعاد هي "هدورام" في التوراة. وإما أن يكون كاتب سفر الخليقة أراد بيان القبائل التي سكنت اليمن، وكلها ينسب إلى قحطان، فرأى عاد إرم في جملتها، فجعله من أولاد قحطان وبعبارة أخرى: من القبائل المتفرعة عن قبيلة قحطان

ملاك الشرق 17-04-2010 04:25 PM

وإما أن يكون بالحقيقة من نسل قحطان،وهم العرب في نسبته إلى آرام"، ورأى "فورستر" وجود صلة بين "عادة"، وهو اسم زوجة "لامك"، وبن "عاد"، وهي والدة "يابال" الذي كان أباً لسكان الخيام ورعاة المواشي، ونسلها من الأعراب. وقوم عاد من الأعراب كذلك. وذهب أيضاً إلى أن هؤلاء هم Oaditae وهو اسم "قوم ذكرهم "بطليموس"" على انهم كانوا يقيمون في الأرضين الشمالية الغربية من جزيرة العرب، ولعلهم كانوا يقيمون عند موضع "بئر إرم"،وهي من الآبار القديمة في منطقة )حسمى( على مقربة من جبل يعرف بهذا الاسم في ديلر جُذام بين أيلة وتيه بني إسرائيل. ولا يبعد هذا الموضع عن أماكن ثمود الذين ارتبط اسمهم باسم عاد. وقد أيد هذا الرأي )شبرنكر( وجماعة من المستشرقين، وهو أقرب الآراء إلى الصواب.
وذهب الأخباريون إلى وجود طبقتين لقوم عاد هما: عاد الأولى، وعاد الثانية، وكانت عاد الأولى، في زعم أهل الأخبار، من أعظم الأمم بطشاً وقوة، وكانت مؤلفة من عدة بطون تزيد على الألف، منهم: رفد، ورمل، وصد،والعبود. والظاهر أن فكرة وجود طبقتين لعاد قد نشأت عند الأخباربين من الآية: )وأنه أهلك عاداً الأولى، وثمودَ فما أبقى(، فتصوروا وجود عاد ثانية، قالوا أنها ظهرت بعد هلاك عاد الأولى.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن "عاداً الأولى"، هو "عاد بن عاديا ابن سام بن نوح"، الذين أهلكهم الله،


وأوردوا في ذلك بيت شعر ينسب إلى "زهر"1. وأما عاد الآخرة، فهم "بنو تميم" وينزلون برمال عالج. وذهب الطبري إلى أن عاداً الأولى، هم نسل بن عوص بن إرم بن سام ابن نوح، وأن عاداً الآخرة هم رهط قيل بن عتر، ولقيم بن هزّال ابن هزيل بن عُتيَل بن صد بن عاد الأكبر، ومرشد بن سد بن عفير، وعمرو بن لقيم بن هزّال، وعامر بن لقيم، وسرو بن لقيم بن هزّال، وكانوا في أيام "بكر بن معاوية" صاحب "الجرادتين"، وهما قينتان له تغنيان. وقد هلكوا جميعا الا "بني اللوذية"، وهم "بنو لقيم بن هزّال ابن هزيل بن هزيلة ابنة بكر"، وكانوا سكاناً بمكة مع أخوالهم "آل بكر ابن معاوية"، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم فهم عاد الأخيرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد.
وجعل بعض أهل الأخبار عدد قبائل عاد ثلاث عشرة قبيلة، ذكروا منها: "رفد" و "زمل" و "صد" و "العبود".
وجعلها "الهمداني" أحد عشر قبيلة وهي: العبود، والخلود، وهم رهط هود النبي المرسل، وفيهم بنو عاد وشرفهم، وهم بنو خالد. وقيل: بنو مخلد، وبنو معبد، ورفد، وزمر وزمل، وضد وضود، وجاهد، ومناف، وسود، و هوجد.
وقد ذهب العلماء مذاهب في تفسير المراد من "إرم ذات العماد" في الآية: )ألم ترَ كيف فعل ربك بعادِ، إرَمَ ذات العماد( فذهب بعضهم إلى أن "إرم ذات العماد" مدينة في "تيه أبْينَ" بين عدن وحضرموت، وذهب آخرون إلى أنها دمشق أو الإسكندرية. والذي دعاهم إلى هذا الرأي - على ما أرى - هو كثرة وجود المباني ذوات العماد في هاتين المدينتين وما عرف عنهما من القدم، فوجد الأخباريون فيهما وصفاً ينطبق على وصف إرم ذات العماد. وقد خلقت "باب جيرون" من أبواب دمشق قصة "جيرون بن سعد ابن عاد" الذي قالوا فيه إنه كان ملكا من ملوكهم، وإنه الذي اختط مدينة دمشق، وجمع عمد الرخام والمرمر إليها، وسماها "إرم".

وهناك مناسبة أخرى جعلت بعض العلماء يذهبون إلى أن دمشق هي "إرم" أو "إرم ذات العماد"، فقد كانت دمشق - كما هو معروف - من أهم مراكز الإرمين "الآراميين"، وكانت عاصمة من عواصمهم. وهذا السبب أيضاً قال نفر من الباحثين إن "إرم" تعني "أرام"، وأن عاداً من "الآراميين"، وأن "عاد إرم" انما تعني "عاد أرام"، فالتبس الأمر على المؤرخين وظنوا أن ذات العماد صفة، فزعموا أنها مدينة بناها عاده. غير أنه قول لا يؤيده دليل يثبت أن "إرم" في هذا الموضع تعتي "ارام". ومن الجائز أن تكون "إرم ذات العماد" هي التي أوحت إلى النسابين فكرة جعل "عاد" من نسل "عوص بن ارم"، لتشابه اسم "ارام" و "ارم" عند العرب التي هي "آرآم" فأصبحت عاد من الإرميين.
ويرى بعض المستشرقين أن الذي حمل الأخبارين على القول إن "الإسكندرية" هي "ارم ذات العماد"، هو أثر قصص الإسكندر في الأساطير العربية الجنوبية ذلك الأثر الذي نجده في كتب القصاص اليمانيين، في مثل كتاب "التيجان" المنسوب إلى وهب بن منبه، وفي الرواية اليمانية. وقد حاول الإسكندر كما نعرف احتلال اليمن، فغدا "شداد بن عاد" بانياً للإسكندرية، وأصبح "الإسكندر" مكتشفاً لها.
وقد فسر العلماء لفظة "إرمي" الواردة في بيت الحارث بن حلزة البشكري: إرَمي بمثله جالت الجن فآبت لخصمها الأجلاء
بأنها نسبة إلى "إرم عاد" في قدم ملكه، وقيل في حلمه.

ملاك الشرق 17-04-2010 04:26 PM

ونسب بعض أهل الأخبار ل "عاد" ولداً، دعوه "شداداً" قالوا: إنه كان قوياً جبارا، سمع بوصف الجنة، فأراد بناء مدينة تفوقها حسناً وجمالاً، فأرسل عماله، وهم: "غانم بن علوان"، و "الضحاك بن علوان"، و "الوليد بن الريان"، إلى الآفاق، ليجمعوا له جميع ما في أرضهم من ذهب وفضة ودرّ وياقوت، فابتنى بها مدينته، مدينة "إرم" باليمن، بين حضرموت وصنعاء، ولكنه لم ينعم بها إذ كفر بالله، ولم يصدق بنبوة "هود"، فهلك. وتولى من بعده ابنه "شديد".
وزعم بعض، النسابين أن نسب "شداد" هو على هذه الصورة: "شدّاد ابن عمليق بن عوفي بن عامر بن إرم"، فأبعدوه بذلك عن "عاد". وقيل في نسبه غير ذلك.
ويفهم من القرآن الكريم أن مساكن "عاد" بالأحقاف، )واذكر أخا عاد، إذ أنذر قومه بالأحقاف(. والأحقاف: الرمل بين اليمن وعُمان إلى حضرموت والشجر. وديارهم بالدوّ والدهناء وعالج ويبرين ووبار إلى عمان إلى حضرموت إلى اليمن. وقد اندنع أكثر الأخبارين يلتمسون مواضعهم في الصحارى، لأنها أنسب المواضع التي تلائم مفهوم الأحقاف، فوضعوا من أجل ذلك قصصاً كثيراً في البحث عن مواطن عاد وتبور عاد، ورووا في ذلك كثيراَ من قصص المغامرات التي تشبه قصص مغامرات لصوص البحر.
وفي بعض الأخبار: أن "عاداً" لحقت برالشحر، فسكنت به، وعليه هلكوا بوادٍ يقال له "مغيث". فلحقتهم بعد "مهرة" بالشحر. وقد سبق أن قلت: إن Oaditae الذي ذكرهم "بطلميوس" هم قوم "عاد"، وإنهم كانوا يسكنون في الأرضين الشمالية الغربية من جزيرة العرب في منطقة "حسمى"، أي في أعالي الحجاز، وعلى مقربة من مناطق ثمود. وهو أقرب إلى الصواب، اذ اقترن ذكر عاد في القرآن بذكر )ثمود الذين جابوا الصخر بالواد(. "حسمى" أقرب إلى هذا الوصف من الرمال. ولم يعين القرآن موضع الأحقاف، و إنما عينه المفسرون، ولا يحتم تفسيرهم تخصيص الأحقاف بهذا المكان، حيث جعلوا رمال "وبار" في جملة المناطق التي كانت لعاد.



وقد ذهب "موريتس" إلى ان موضع "Aramaua" الذي ورد عند "بطلميوس"، وهو "إرم"، أو "إرم ذات العماد". ويقال له الآن "رم". وقد أيد "موسل" رأي "موريتس" غير أنه لم يذهب إلى ما ذهب أليه من أنه "إرم". وقد أظهرت الحفريات التي قام بها "المعهد الفرنسي" في القدس، صحة هذا الرأي، إذ ورد في الكتابات "النبطية" التي عثر عليها في خرائب معبد اكتشف في "رم" أن اسم الموضع هو "إرم". فيتضح من ذلك أن هذا الموضع حافظ على اسمه القديم،غير أنه صار يعرف أخراً ب "رم" بدلاً من "إرم".
وفي سنة 1932 قام "هورسفيلد" Horsfield من دائرة الآثار في المملكة الأردنية الهاشمية حفريات في موضع جبل "رم"، ويقع على مسافة "25" ميلا إلى الشرق من العقبة، ويقع المكان الذي بحث فيه عند وادّ، وعلى مقربة منه "عين ماء"، ووجد في جانب الجبل آثاراً جاهلية قديمة. وقد حملت اكتشافاته هذه و اكتشافات "سافينياك" Savignac واكتشافات "كليدن" H.W. Glidden على القول: إن هذا المكان هو موضع "إرم" الوارد ذكره في القرآن، والذي كان قد حل به الخراب قبل الإسلام، فلم يبق منه عند ظهور الإسلام غير عين ماء كان ينزل عليها التجار وأصحاب القوافل الذين يمرون بطريق الشام - مصر - الحجاز.
وذكر "ياقوت الحموي" اسم مكان سماه "جش إرم"،قال عنه: إنه اسم جبل عند "أجأ" أحد جبلَيْ. طيء، أملس الأعلى، سهل ترعاه الإبل، وفي ذروته مساكن لعاد وإرم، فيه صور منحوتة من الصخر. ففرق "ياقوت" هنا بين عاد وإرم، وجعلهما قومين: قوم عاد وقوم إرم، وقد تكون الواو بين الكلمتين زيادة من الناسخ، فيبطل حينئذ الاستدلال على تفريق ياقوت بينهما. وفي الكتب العربية أسماء محلات أخرى قديمة عثر فيها على نقوش وتماثيل، وصفت أنها من مساكن قوم عاد.


وبالإضافة إلى المواضع التي أشير فيها إلى "عاد" في القرآن الكريم، فقد أشر إليهم في الشعر الجاهلي كذلك في شعر طرفة وفي شعر النابغة وفي شعر زهير وفي شعر الهُذَليين، وفي شعر طفيل بن عوف الغنوي، وفي شعر "متمم بن نُوَيْرَة" شقيق "مالك بن نويرة"، وهو من الشعراء المخضرمين الذين عاشوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام، وفي شعر "أمية بن أبي الصلت"، وهو ممن عاش في أيام الرسول كذلك، وفي شعر غيرهم من الشعراء الجاهلين المخضرمين.
وورد في شعر لزهير بن أبي سُلمى "أحمر عاد"، وضرب المثل بشؤم أحمر عاد، فقيل: أشأم من أحمر عاد. وجعل الشاعر "أبو خداش الهذلي" "كليب وائل" كأحمر عاد في الشؤم، وذلك بسبب الحرب التي هاجت بين بكر وتغلب. وقد نص "ابن قتيبة الدينوري" على أن المراد من "أحمر عاد" "أحمر ثمود" الذي عقر الناقة.
ويدل ورود خبر "عاد" في القرآن الكريم وفي الشعر الجاهلي على أن القصة كانت شائعة بين عرب الجاهلية معروفة عندهم، وأنهم كانوا يتصورون أن قوم "عاد" كانوا من أقدم الأقوام، ولذلك ضُرب بقدمهم المثل حتى إنهم كانوا ينسبون الشيء الذي يريدون أن يبالغوا بقدمه، إلى عاد، فيقولون إنه "عادي". وإذا رأوا أثراً قديماً أو أطلالا قديمة عليها نقوش لا يعرفون صاحبها، قالوا إنها عادية، أي من أيام عاد. وإذا رأوا بناءً قديماً لا يعرفون صاحبه، قالوا إنه بناء عادي. وقد تحدث "المسعودي" عن أشجار عادية، أي قديمة جداً. ولهذا السبب رأى "ولهوزن" أن كلمة "عاد" لم تكن اسم علم في الأصل، بل كان يراد بها القدم، وأن كلمة "عادي" تعنى منذ عهد قديم جداً، وكذلك كلمة "من عاد" أو "من العاد"، أو من "عهد عاد". وان المعنى هو الذي حمل الناس على وضع تلك الأساطير عن أيام "عاد".

ملاك الشرق 17-04-2010 04:28 PM

وقد جعل بعض الشعراء أيام "عاد" من أوليات الزمان، التي جاءت بعد "نوح" وجعل بعض آخر لفظة "إرمي"؛ بمعنى "عادي"، أي قديم كأنه من عهد إرم وعاد، أو كأنه في الحكم من عاد.
وقد ضرب المثل في القرآن الكريم بقدم "قوم نوح" وقوم "عاد وثمود" حتى إن أخبارهم خفيت عن الناس فلا يعلمها إلاّ الله: )ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود، والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله(، وفي ذلك دلالة على أن الناس في أيام الرسول كانوا يرون أن الأقوام المذكورة هي من أقدم الأقوام، ولهذا ذكروا بهم للاتعاظ.
وقد ورد ذكر عاد في الكتاب الذي وجهه "يزيد بن معاوية" إلى أهل المدينة يهددهم فيه بمصير يشبه مصير "عاد وثمود"، حيث ينزل بهم عقاباً شديداً ويصيرهم حديثا للناس، "واترككم أحاديث تنسخ بها أخباركم مع أخبار عاد وثمود". وقال "سبيع" لأهل اليمامة: "يا بني حنيفة بعداً كما بعدت عاد وثمود".
وضرب المثل برجل من "عاد" اسمه "ابن بيض"، زعموا أنه كان من عاد، وكان تاجراً مكثراً عقر ناقة له على ثنية، فسد بها الطريق على السابلة، فضرب به المثل.
وزعم أهل الأخبار أن رجلاً غنياً من بقية "عاد" اسمه "حمار" كان متمسكاً بالتوحيد، فسافر بنوه، فأصابتهم صاعقة فأهلكتهم، فأشرك بالله وكفر بعد التوحيد، فاًحرق الله أمواله وواديه الذي كان يسكن فيه فلم ينبت بعده شيء. ويزعمون أن "امرأ القيس" الشاعر ذكر ذلك الوادي في شعر له.
ويذكر أهل الأخبار أن المكان الذي كان فيه "حمار" المذكور هو "جوف"، وهو موضع في ديار عاد، وقد نسب اليه، فقبل "جوف حمار"، نسبة إلى "حمار بن مويلع"، فلما أشرك بالله وكفر، أرسل الله ناراً عليه فأحرقته وأحرقت الجوف أيضاً، فصار ملعباً للجن لا يستجرئ أحد أن يمر به، والعرب تضرب به المثل، فتقول: "أخلى من جوف حمار".





هود
ويرد مع قوم "عاد" ذكر نبي منهم، هو "هود"، وقد نعت في القرآن الكريم ب "أخي عاد": )وإلى عادٍ أخوهم هوداً، قال: يا قوم، اعبدوا الله(. كما نعت القرآن عاداً بقوم هود: )ألا، إن عاداً كفروا ربهم،ألا بُعْداً لعاد قوم هود(. "قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح". وقد نسبه الناسبون إلى "الخلود بن معيد بن عاد"، وإلى "عبد الله بن رباح ابن جاوب بن عاد بن عوص بن إرم"، وإلى "عبد الله بن رباح بن الخلود ابن عاد بن عوص بن إرم"، ومن أهل الأنساب من زعم انه "عابر بن شالخ ابن أرفخشذ بن سام بن نوح"، إلى غير ذلك من روايات.
وقد وردت قصته مع قومه ونهيه لهم عن عبادة الأصنام في القرآن الكريم. وقد ضرب المثل بكفر رجل من عاد، اسمه "حمار"، فقيل:"أكفر من حمار"، قالوا: "هو رجل من عاد، مات له أولاد، فكفر كفراً عظيماً، فلا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه، وإلا قتله". وذلك على نحو ما ذكرته عنه قبل قليل. وهي قصة واحدة، رويت بطرق متعددة، تختلف في التفاصيل، لكنها متفقة من حيث الفكرة والجوهر، وعليها طابع قصص الوعاظ وأهل الأخبار. وقد ذكر أصحاب الأخبار أن غالبية "عاد" كفرت بنبوة "هود"، ولم تؤمن به، لهذا أصابها العذاب والهلاك. ولم ينج منهم إلا من آمن ب "هود" واتبعه وسار معه حين ترك قومه: قوم عاد.
وقد نبه المستشرقون إلى وجود شبه بين هود و "هود" الواردة في القرآن أيضاً بمعنى "يهود": )وقالوا كونوا هوداً، أو نصارى، تهتدوا(. وأشاروا إلى أن "هوداً" تعني التهود، أي الد********* في اليهودية، كما لاحظوا أن بعض النساّبين قالوا إن هوداً هو "عابر بن شالح بن أرفكشاد" جد اليهود، فذهبوا إلى أن هوداً لم يكن اسم رجل، و إنما هو اسم جماعة من اليهود هاجرت إلى بلاد العرب، وأقامت في الأحقاف، وحاولت تهويد الوثنيين، وعرفوا بيهوذا، ومنها جاءت كلمة "هود"، و أنها استعملت من باب التجوز علماً لشخص.

وزعم الرواة أن هوداً ارتحل هو ومن معه من المؤمنين بعد النكبة التي حلت بقومه الكافرين من أرض عاد إلى الشحر. فلما مات دفن بأرض حضرموت. ويدعي الرواة انه قبر في واد يقال له "وادي برهوت" غير بعيد عن "بئر برهوت" التي تقع في الوادي الرئيسي للسبعة الأودية. وهي من الآبار القديمة التي اشتهرت في الجاهلية بكونها شر بئر في الأرض، ماؤها أسود منتن، تتصاعد من جوفها صيحات مزعجة، وتخرج منها روائح كريهة، ولذلك تصور الناس أنها موضع تتعذب أرواح الكفار فيه.
ويذهب السياح الذين زاروا هذا المكان ودرسوه إلى انه موضع بركان قديم، يظهر أنه انفجر، فاًهلك من كان حوله. ويؤيد هذا الرأي ما ورد في الكتب العربية من أنه كان يسمع لهذا المكان أصوات كالرعد من مسافات، وانه كان يقذف ألواناً من الحمم يسمع لها أزيز راعب. ومن هنا نشأت قصة قبر هود، وعذاب عاد في هذا الموضع، على رأي المستشرق "فون كريمر".
ولا يزال هذا الموضع الذي يقال له "قبر هود"، يزار حتى الآن، يقصده الناس من أماكن بعيدة في اليوم الحادي عشر من شعبان للزيارة، وربما كان من الأماكن التي كان يقدسها الجاهليون.

ملاك الشرق 17-04-2010 04:29 PM

وفي هذه المناطق آثار مدن بائدة، وقرى جاهلية، وتشاهد كهوف ومغاور على حافتي الوادي، وكتابات وصور منقوشة على الصخور تسل كلها على أنها كانت من المناطق المأهولة، وأنها تركت لسبب آفات وكوارث طبيعية نزلت بهذه الديار.
ورأى نفر من المستشرقين أن هذا المكان الذي فيه قبر "هود" هو الموضع الذي سماه الكتاّب اليونان Styx أو Stygis ، والذي زعم الرومان أن قبيلتين من قبائل جزيرة "اقريطش" "كريت" وهما قبيلة Minos و "رودومانتس" Rhodomantys تركتا موطنهما الأصلي، وارتحلتا إلى هذا المكان الذي ضم مئات من القبائل العربية، فكانتا من أقواها. وقد سكنتا في رأيهم، على مقربة من موضع سماه "بلينيوس" Stygis Aguniae Fossa.
أما الأخباريون الذين زعموا أن "هوداً" اعتزل قومه بعد يأسه من قبول دعوته، وأنه ذهب مع من آمن به إلى مكة، فقد ذهبوا إلى أنه عاش فيها أمداً، ثم مات هناك، فقبره بمكة مع قبور ثمانية وتسعين نبياً من الأنبياء. وذكر جماعة أنه بدمشق في المسجد الأموي. ولعل القصص الوارد عن "دمشق"، وأنها "إرم ذات العماد" هو الذي أوحى. إلى هؤلاء فكرة جعل قبر "هود" بدمشق. ومهما يكن من شيء فإن هناك جماعة من أهل الأخبار قبرت بعض الأنبياء في هذه المدينة، واختارت المسجد الأموي نفسه مقبرة لهم. ولعل ذلك بسبب أن هذا المسجد كان كنيسة معظمة قديمة عند أهل دمشق قبل د*********هم في الإسلام، وكان قد قبر فيها جماعة من قدّيسيهم ورجال دينهم، فلما تحولت الكنيسة إلى جامع تحولت قبور هؤلاء بعواطف الناس القديمة إلى قبور أنبياء. وقد ظهر مثل هذه الروايات التي تمجد الجامع الأموي في الوقت الذي تحصن فيه "ابن الزبير" بمكة، وتحزب أهل الحجاز على الأموبين.


وقد اتخذ القحطانيون هوداً جداً من أجدادهم، وألحقوا نسبهم به، وتفاخروا به. فعلوا ذلك بدافع العصبية والمفاخرة على العدنانيين الذين كانوا يقولون إن فيهم الأنبياء، ولم يكن في قحطان نبي، فأوجد نساّبوهم نسباً يوصلهم إلى الأنبياء، كما أوجدوا لهم نسباً احتكر لهم العروبة، وجعلهم الأصل والعدنانيون من الطارئين عليهم، كما سيأتي الحديث عن ذلك.
وإذا صح أن الشعر المنسوب إلى حسّان بن ثابت الذي افتخر فيه بانتسابه إلى "هود بن عابر"، وبأن قومه وهم من "قحطان" منهم، هو هذا الشاعر حقاً، يكون لدينا أول دليل يثبت أن هذا الانتساب كان معروفاً عند ظهور الإسلام. وأن أهل "يثرب"، وهم من الأوس والخزرج، وهم من قحطان في عرف النسّابين، كانوا قد انتسبوا أليه قبل الإسلام. أخذوا ذلك من اليهود النازلين بينهم، الذين كانوا يحاولون التقرب إلى أهل يثرب، للعيش مهم عيشة طيبة. فأشاعوا بين الناس أن "عايراً"، وهو جد العبرانيين، ووالد ولدين هما "فالغ" و "يقطان" كان جدّهم وجد أهل يثرب، لأن أصلهم من يقطان، وأن علاقتهم لذلك بهم هي علاقة أبناء عمّ بأبناء عم. ولما نزل الوحي بخبر "هود"، وتفاخر المكّيون على أهل يثرب بالإسلام، استعار أهل يثر ب "هوداً"، وصيروه "قحطاناً"، أو ابناً له، وانتسبوا اليه، ليظهروا بذلك انهم كانوا أيضاً من نسل نبي، وان نبوءة قديمة كانت فيهم، وقد كان "حسّان بن ثابت" من المتعصبين للأزد قوم أهل يثرب، والأزد من قحطان بر وكان من المتباهين بيمن و قحطان.

ملاك الشرق 17-04-2010 04:30 PM

لقمان
ومن قبائل عاد قبيلة كان فيها "لقمان" الذي ورد ذكره في القرآن الكريم وفي الشعر الجاهلي وفي القصص. وقد ضرب به المثل بطول العمر، فعدّ في طليعة المعمرين، وعدّه "أبو حاتم السجستاني" ثاني المُعَمّرين فيَ العالم بعد الخضر. وقد كان عرب الجاهلية يعرفون قصص "لقمان"، وكانوا يصفونه بالحكمة. وقدُ وصف في القرآن الكريم بهذه الصفة: )ولقد آتينا لقمان الحكمة(. ولهذا السبب عرف بين الناس وفي الكتب ب "لقمان الحكيم". وذكر عنه انه كان "حكيماً عالما بعلم الأبدان والأزمان" وانه طلب من الله أن يعمّر طويلا فأًعطاه طلبه: و عُمرّ عمر سبعة أنسر، وذكر الأخباريون أن آخر نسي أدركه، وهلك بهلاكه اسمه "لبد". قالوا واليه يشير "النابغة" بقوله: أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أحنى على لـبـد
وقد أكثرت العرب في صفة طول عمر النسر، وضربت به الأمثال. وبلبد، وبصحة بدن الغراب. وذكروا في ذلك شعراً، منه ما نسب إلى "الخارجي" في طول عمر "معاذ بن مسلم بن رجاء"، مولى القعقاع بن حكيم: يا نسر لقمان، كم تعيش، كـم تلبس ثوب الحياة يا لُـبَـدُ ?
قد أصبحت دار حْمَيرٍ خربت وأنت فيها كـأنـك الـوتـدُ
تسأل غِرْبانها إذا حَـجَـلـتْ كيف يكون الصداع والرّمدُ ?


ويذكر أهل الأخبار إن "لقمان" قد عرف لذلك ب "لقمان النسور"، لأنه عمّر عمر سبعة نسور. وذكر بعض، أهل الأخبار انه عمّر مائة وخمسين سنة، وانه لما مات قبر بحضرموت، أو بالحجر من مكة. وهو عمر لا يتناسب مع ما يذكره أهل الأخبار من طوله، ومن انه يعادل عمر سبعة نسور. أما "السجستاني"، فجعل عمره خمسمائة سنة وستين. وهو عمر أخذه من عمر النسور المذكورة، اذ عاش كل نسر ثمانين عاماً، والعدد المذكور هو مجموع عمر تلك النسور السبعة. غير إن من الأخباريين من أعطاه عمراً قدره بثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. وهو عمر يؤهله ولا شك لأن يكون في عداد المعمرين.
وقد ورد اسم لقمان على انه اسم خّمار في شعر منسوب للنابغة حيث يقول: كأن مشعشعاً من خمر بصرى نمته البخت مشدود الـخـيام
حملن قلاله مـن بـين رأس إلى لقمان في سوق مـقـام
وجعلوا للقمان نسباً هو "لقمان بن عاد"، وصيروه "لقمان بن ناحور بن تارخ"، وهو "آزر" أبو "إبراهيم". وقال بعضهم: بل هو ابن أخت "أيوب"، أو ابن خالته، وجعله آخرون من حمير، فقالوا له: "لقمان الحميري"، وصره آخرون قاضياً من قضاة "بني إسرائيل". وقد اشتهر عند المسلمين بالقضاء، ويظهر أن هذا السبب هو الذي جعل الواقدي يقول: إنه كان قاضياً في بني إسرائيل.


ولم يفطن الأخباريون إلى هذه الأخبار المتناقضة التي تخالف رواياتهم في عاد، وأنها من أمم العرب البائدة، إلا إذا جعلناه من الطارئين على قوم عاد الداخلين فيهم، فهو غريب بين قوم عاد.
ويظهر من روايات أهل الأخبار، أن الأخباربين كانوا يرون وجود لقمان اخر، هو غير لقمان عاد. فقد زعموا أنه كان في عهد "داوود" لقمان، عرف ب "لقمان الحكيم". وقد نسبه بعضهم على هذا النحو: "لقمان بن عنقاد"، وقد زعم "المسعودي"، أنه كان نوبياً، وأنه كان مولى للقين ابن جسر، ولد على عشر سنين من ملك داوود، وكان عبداً صالحاً، منّ اللهُ عليه بالحكمة، ولم يزل باقياً في الأرض مظهراً للحكمة في هذا العالم إلى أيام يونس بن متي حين أرسل إلى أرض نينوى في بلاد الموصل.
وهنالك من فرَق بين "لقمان بن عاد" وبين "لقمان" المذكور في القرآن، قال الجاحظ: "وكانت العرب تعظم شأن لقمان بن عاد الأكبر والأصغر، ولقيم بن لقمان في النباهة والقدر وفي العلم والحكم، في اللسان وفي الحلم، وهذان غير لقمان الحكيم المذكور في القرآن على ما يقوله المفسرون". وقد أورد الجاحظ جملة أبيات للنمر بن تولب في لقمان ولقيم.

وقد ذكر الجاحظ أنه كانت للقمان أخت محمقة ؛ تلد أولادا حمقى، فذهبت إلى زوجة لقمان، وطلبت منها أن تنام في فراشها حتى يتصل بها لقمان، فتلد منه ولداً كيساً على شاكلته، فوقع عليها فأحبلها ب "لقيم" الذي أشرت إليه، فهو ابن لقمان أذن من أخته. وقد أورد الجاحظ في ذلك شعراً جاء به على لسان الشاعر المذكور، أي: "النمر بن تولب"، زعم أنه نظمه في هذه القصة. وزعم الجاحظ أيضاً أن لقمان قتل ابنته "صُحرا" أخت "لقيم"، وذلك أنه كان قد تزوج عدة نساء كلهّن خنّه في أنفسهن، فلما قتل أخراهن ونزل من الجبل، كان أول من تلقاه "صُحرا" ابنته فوثب عليها فقتلها، وقال: "وأنت أيضاً امرأة". وكان قد ابتلي بأخته على نحو ما ذكرت، فاستاء من النساء. وضربت العرب في ذلك المثل بقتل لقمان ابنته صُحرا، وقد أشير إلى ذلك في شعر ل "خفاف بن ندبة".
وقد أشير إلى "حي لقمان" في شعر لأبي الطحان القيني، كما أشير أليه في شعر ينسب إلى "لبيد بن ربيعة الجعفري". وفي شعر للفرزدق، وفي شعر لبنت وثيمة بن عثمان ترثي به أباها.
وأضافوا إلى "لقمان" أمثالا كثيرة نسبت أليه في الإسلام، ولم تكن معروفة في الجاهلية. ونسب أليه بعض الأخباريين الميل إلى إنشاء المدن والبناء، وضربوا به أيضاً المثل في كثرة الأكل، فقالوا: "آكل من لقمان".

ملاك الشرق 17-04-2010 04:31 PM

وزعم "وهبه بن منبّه" انه قرأ من حكمة "لقمان" نحواً من عشرة آلاف باب، وزعم الرواة إن عرب الجاهلية كانت عندهم "مجلة لقمان"، وفيها الحكمة والعلم والأمثلة، وان جماعة منهم كانوا قد قرأوها وامتلكوها، ذكروا من جملتهم "سُوَيْد بن الصامت". وقد رووا انه كان يقرأها، وانه أخبر الرسول بها لما قدم عليه. وقد جمع الناس، فيما بعد، حكمته وأمثاله والقصص المروي عنه، ويشبه ما نسب أليه المنسوب إلى "ايسوب" Aesop صاحب الأساطير والحِكَم والأمثال الموضوعة على لسان الحيوانات عند اليونان.
وبالغوا في حكمته وفي علمه حتى زعم انه كان يدرك من الأشياء ما يعجز عن إدراكه الإنسان السوي.. وضرب المثل في أيساره، وعظم أمره، حتى قيل "أيسار لقمان"، كالذي ورد في شعر "طرفة"، وورد في الأخبار: "إذا شرف الأيسار، وعظم أمرهم قيل: هم أيسار لقمان. يعنون لقمان بن عاد". واستشهدوا على ذلك ببيت طرفة: وُهم أيسارُ لقـمـانٍ، إذا أغلت الشتوةُ أبْداء الجُزُرْ
وقد زعم أن "زرقاء اليمامة"، التي اشتهرت بحدة بصرها وقوة رؤيتها حتى أنها كانت ترى من مسرة ثلاثة أيام، كانت امرأة من بنات لقمان بن عاد، وكانت ملكة اليمامة واليمامة أسمها، فسيمت الأرض باسمها. وقد زعم أن النابغة الذبياني أشار إليها في شعره.
وقد ورد في بعض الأشعار "لقمان بن عاد"0 إذ جاء: تراه يطوف الآفاق حرصاً ليأكل رأس لقمان بن عاد




وهناك أمثلة عديدة ينسبها الرواة إلى "احدى حظيات لقمان"، ووردت على لسانها وعلى لسان لقمان وعلى لسان فتى اسمه عمرو.
وقد زعم بعض أهل الأخبار إن لقمان بن عاد، هو الذي بنى سدّ مأرب، وأن مأرب اسم قبيلة من عاد، وقد سمي باسمها هذا الموضع.
لم يبق بعد هلاك عاد الأولى، على رأي أهل الأخبار إلا هود ونفر ممن آمن به والوفد الذي سار إلى مكة للاستسقاء، وفيهم لقمان وكان من أكابر العاديين. فأنشأ هؤلاء عاداً الثانية، وخالف لقمان "الخلجان" ملك عاد الأولى، الذي خالف هوداً، فهلك. وخاف العاديون انحباس المطر والجفاف، فارتحلوا إلى أرض سبأ، وبنى لقمان سد "العرم" قرب مأرب، وبقيت عاد الثانية قائمة، إلى أن تغلبت عليها قبائل قحطان، ثم انقرضت وبادت.
ويذكر أهل الأخبار إن عاداً لما رأوا انحباس المطر عنهم، أرسلوا وفداً، بلغ سبعين رجلاَ في قول بعض الرواة، إلى مكة يستسقون، وكان أصحابها هم العمالقة يومئذ، ورئيسهم "معاوية بن بكر"، فأكرمهم وأضافهم، وأقاموا عنده شهراً: يشربون الخمر وتغنيهم "الجرادتان" وما قينتان لمعاوية بن بكر، وفي الوفد المذكور لقمان. ونسوا أنفسهم هناك، ولم يفطنوا لما جاؤوا أليه، إلا بعد أن ذكرتهم "الجرادتان" بما جاؤوا به إليها، فاستسقوا، فأرسل الله عليهم ريحاً عاتية، أهلكت عاداً في ديارها، ودمرت كل شيء، فهلكت، ولم يبق من عاد إلا من كان خارج أرضهم بمكة، وهم من "آل لقيم بن هزال بن هزيل بن هزيلة ابنة بكر"، فهم عاد الآخرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد.
وقد ذكر المؤرخون وأصحاب الأخبار أن "عاداً" تعبدوا لأصنام ثلاثة، يقال لأحدها: صداء، وللآخر صمود، وللثالث الهباء. ولم نعثر على أسماء هذه الأصنام حتى الآن في الكتابات.


وكان هلاك "عاد" واندثارهم بسبب انحباس المطر عنهم سنين ثلاثاً، أعقبه هبوب رياح عاتية شديدة استمرت )سبع ليال وثمانية أيام حسوماً( فهلك الناس واقتلعتهم الرياح وصارت ترميهم من شدتها، )كأنهم أعجاز نخل منقعر(. )فترى القوم فيها صرعى، كأنهم أعجاز نخل خاوية( وخلت ديارهم منهم، وصارت أماكنهم أثراً.
ويجمع أهل الأخبار على أن هلاك عاد، إنما كان بفعل عوارض طبيعية نزلت بهم فأهلكتهم، وهي على اختلاف رواياتهم في وصفها وفي شرحها، انحباس الأمطار عنهم، وهبوب رياح شديدة عاتية عليهم. وقد تحدث المفسرون عنها لورود ذكرها في القرآن الكريم. وروي أن النبي أشار إلى أن هلاكهم وهلاك ثمود كان بالصواعق، والصواعق من العوارض الطبيعية بالطبع.
ويرجع قسط من أخبار "عاد" إلى الجاهليين، فهو من القصص الشعبي القديم الموروث عنهم، ويعود قسط آخر منه إلى الإسلاميين، وهو القسط الذي جاء شرحاً لما جاء موجزاً في القرآن الكريم، ويرجع بعضه إلى "الحارث بن حسان البكري" و "الحارث بن يزيد البكري"، وتزعم رواية وردت في تأريخ الطبري أنه قص على الرسول قصصاً عن أمر "عاد"، ويرجع بعض آخر إلى "كعب الأحبار" وإلى "وهب بن منبه"، وهما من مسلمة يهود، وإلى "السّدّى"، وإلى أشخاص آخرين تجد ذكرهم في سند الروايات المذكورة عند "محمد بن اسحاق" صاحب السيرة، وعند الطبري وعند آخرين من أهل الأخبار والتواريخ ممن ساروا على طريقة ذكر المسند مع الروايات.

ملاك الشرق 17-04-2010 04:32 PM

ويظهر أن كثيراً من أخبار "عاد" وضعت في أيام "معاوية" الذي كان له ولع خاص بأخبار الماضين، فجمع في قصره جماعة اشتهرت بروايتها هذا النوع من القصص، وفي مقدمة هؤلاء "عُبَيْد بن شَريْة الجُرْهُمي" و "كعب الأحبار".
ويذكر بعض أهل الأخبار أن رجلاً قصّ في أيام معاوية، أن إبلا له ظلت في تيه أيمن، وهو غائط بين حضرموت وأبن، فالتقطها من هناك، ووجد فيه موضع "إرم ذات العماد"، ووصف أبنيته العجيبة، وهذا الرجل هو في جملة من موّن العاشقين للأساطير بأخبار عاد. وقد ذكر الطبري أن "وهب بن منبه"، قصّ أنه سمع من رجل اسمه "عبد الله بن قلابة" أن إبلاّ له كانت قد شردت، فأخذ يتعقبها، فبينما هو في صحارى "عدن"، وقف على موضع "إرم ذات العماد"، وقد وصف ذلك الموضع على النحو المالوف عن "وهب"، من إغراقه في الأساطير وفي القصص الخيالي البعيد عن العقل.
ثمود
ويرد اسم ثمود في الكتب العربية مقروناً باسم "عاد"، وبعد هذا الاسم في الغالب، والروايات العربية الواردة عنهم لا تعرف من تأريخهم شيئاً، إنما روت عنهم قصصاً أوردتها لمناسبة ما ذكر عنهم في القرآن الكريم على سبيل العظة والاعتبار والتذكير. وقد وردت إشارات عنهم في الشعر الجاهلي.
وجاء اسم "ثمود" في مواضع عديدة من القرآن الكريم، جاء منفرداً، وجاء مقروناً باسم شعوب أخرى مثل قوم "نوح" وقوم "عاد"، فبدأ بقوم نوح ثم عاد ثم ثمود. وجاء مع ثمود في موضعين "أصحاب الرسّ"، جاءوا بعد "ثمود" كما جاء اسمهم قبل "ثمود". وورد أيضاً ذكر قوم "لوط" و "أصحاب الأيكة"، وقد تقدم في هذا الموضع اسم "ثمود"، ودعت الآية أولئك: )الأحزاب(، كما ورد ذكر "ثمود" مع "عاد". وقد تقدم اسم "عاد" على ثمود إلا في آية واحدة تقدم فيها اسم ثمود على اسم "عاد": )كذبت ثمود وعاد بالقارعة(، وورد اسم "ثمود" في آيات أخرى من القرآن الكريم.
وقد ذكر الطبري إن شعراء الجاهلية ذكرت في شعرها عاداً وثمود، وان أمرهما كان معروفاً عند العرب في الشهرة قبل الإسلام، وأن من يظن أن الجاهليين لم يكونوا يعرفون عاداً أو ثموداً فإنه على وهم وخطا.


ويظهر من ورود ذكر "ثمود" في مواضع متعددة من القوآن، لتهيب "الكفار" من العاقبة التي آلت إليها حالة "ثمود" بعد أن استحبّوا العمى على الهدى، واستمروا بطغواهم كما استمر طغيان "فرعون" وقوم "مدين" وغيرهم ممن ذكرناهم، أن الجاهليين كانوا يعلمون مصير ثمود ومصير عاد الذي كان من نوع مصير ثمود، وأنهم كانوا يعرفون منازلهم كالذي يظهر بجلاء من الآية: )وعاداً وثموداً وقد تبين لكم من مساكنهم( معرفة جيدة، ولم يعين القرآن الكرم موضع منازل "ثمود"، وإنما يظهر من آية: )وثمود الذين جابوا الصخر بالواد(، أن مواضعهم كانت في مناطق جبلية، أو في هضاب ذات صخور. وقد ذكر المفسرون إن معنى "جابوا الصخر" قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتاً، وأن "الواد" هو وادي القرى. فتكون مواضع ثمود في هذه الأماكن. وقد عين أكثر الرواة "الحجر" على أنه ديار ثمود، وهو قرية بوادي القرى. وقد زارها بعض الجغرافيين وعلماء البلدان والسياّح، وذكروا أن بها بئرا تسمى بئر "ثمود"، وقد نزل بها الرسول مع أصحابه في غزوة "تبوك". وقد ذكر السعودي أن منازلهم كانت بين الشام والحجاز إلى ساحل البحر الحبشي، وديارهم بفج الناقة، وأن بيوتهم منحوتة في الجبال، وأن رممهم كانت في أيامه باقية، وآثارهم بادية، وذلك في طريق الحاج لمن ورد الشام بالقرب من وادي القرى.
وينسب النسابون ثمود إلى "ثمود بن جاثر أو كاثر بن إرم بن سام بن نوح"، ويكتفي بعضهم بإرجاع نسبهم إلى عاد، فيقولون عنهم إِنهم من بقية عاد. وينسبهم بعض آخر إلى "عابر بن إرم بن سام بن نوح"، وزعموا أن ثمود هو أخو جديس.

ملاك الشرق 17-04-2010 04:33 PM

وقد استطاع المستشرقون التعرف على الثموديين من الكتابات والمؤلفات "الكلاسيكية"، فوجدوا اسم ثمود في النصوص الآشورية: وجدوه في نص من نصوص "سرجون الثاني"، مع أسماء شعوب أخرى سوف أتحدث عنها. وقد دعوا ب "Tamudi" "Thamudi" وذلك بمناسبة معركة جرت بين الآشوريين وبين هذه الشعوب، انتصر فيها الآشوريون، كما وجدوه في النصوص و الكتابات الثمودية، مواضع متعددة من جزيرة العرب، وفي النصوص "الكلاسيكية" حيث عرفوا باسم "Thamudeni" "Thamudenoi" "Thamydenoi" "Thamyditai".
ولقد وصف مؤلف كتاب: "الطواف حول البحر الإريتري" مواضع الثمودين "Thamudeni" مستنداً إلى مورد آخر، اْخذ منه، أقدم عهداً منه. فذكر "أن ""Thamudeni"، كانوا يقيمون على ساحل صخري طويل، لا يصلح لسير السفن، وليست فيه خلجان تستطيع أن تأوي أليه القوارب فتحتمي بها من الرياح، ولا ميناء تتمكن من الرسو فيه، ولا موضع أو جزر عنده تقبل أليه القوارب الهاربة من الأخطار. فيظهر من وصف هذا المؤلف أن مواطن ثمود كانت في الحجاز على ساحل البحر الأحمر.
وقد ذكر هذا الوصف، ولكن بشيء من التحوير "ديودورس". وأما "بلينيوس"، فذكر "Thamudaei" بين "Domata" "Haegra" مدينة دعاها "Badanatha" "Baclanza". وأما "بطلميوس"، فقد جعل قوم ثمود ""Thamuditae"" ""Thamudeni"" بين ا ل "Sarakenoi" و بين "Apatae" ويظهر من كل ذلك أن ديارهم في شمال غربي "العربية السعيدة"، أي في المواضع التي عينتها المصادر العربية.


يظهر من جغرافية "بطلميوس" اذن، أن ديار ثمود كانت غير بعيدة عن ديار "عاد"، ليس بينهما وبين ديار عاد "Oaditae" إلا ديار "سره كيني" "Sarakeni" وكلها في أعالي الحجاز في هذه المنطقة الجبلية التي تخترقها الطرق التجارية التي توصل الشام ومصر بالحجاز واليمن. وفي هذا تأييد للروايات العربية القائلة إن ديار ثمود كانت على مقربة من ديار عاد. فإذا كانت "الحجر" وما والاها هي مواطن ثمود: وجب أن تكون ديار "عاد" على مقربة من هذه ا لمواضع.
وأما تأريخ قوم "ثمود"، فيه ود إلى ما قبل الميلاد بزمان. وقد ذكرتُ قبل قليل أنهم كانوا في جملة الشعوب التي حاربت الآشوريين في عهد "سرجون الثاني"، وقد ذكر هذا الملك في النصوص التأريخية التي سجلها، أنه تغلب عليهم، وانه أجلاهم من مواطنهم إلى "السامرة" "Samaria". ولم يكن أولئك الثموديون الذين حاربوه من أبناء الساعة، بل لا بد أن يكون لهم أسلاف عاشوا قبلهم عدة قرون.
وقد عرفت المنطقة التي حارب بها قوم ثمود والشعوب الأخرى الآشوريين باسم "بري" "Bari"، ويظهر أنها تعني لفظة "بر" و "برية" العربية، أي "البادية" فحرّفت إلى "بري" على وفق الآشوري.
ويرى بعض الباحثين أن آخر ذكر ورد في الوثائق لقوم "ثمود" كان في القرن الخامس للميلاد " حيث ورد أن قوماً منهم كانوا فرساناً في جيش الروم.
وقد كان الثموديون يقطنون بعد الميلاد في مواطنهم المذكورة في أعالي الحجاز في "دومة الجندل" و "الحجر" وفي غرب "تيماء".




وقد ذكر أنهم كانوا يمتلكون في منتصف القرن الثاني للميلاد حَرّتَيْ "العوارض" و "الأرحاء". ويرى "دوتي" أن "الحجر" التي سكن بها قوم ثمود، هي موضع "الخريبة" في الزمن الحاضهر، لا "مدائن صالح" التي هي في نظره "حجر" النبط. وتقع "مدائن صالح"، وهي عاصمة النبط، على مسافة عشرة أميال من موضع"الخريبة".
ولم يرد في الموارد العربية الإسلامية، ما يفيد وجود قبائل ثمودية قبيل الإسلام، أو في الإسلام، غير ما ذكره بعضهم من نسب "ثقيف" الذي رجعوه إلى ثمود؛ ولكن ذلك لم يرض الثقفين. فقد كان الحجاج بن يوسف يكذب ذلك، والظاهر أن أعداء ثقيف ولا سيما معارضي الحجاج وضعوا ذلك على ثقيف بغضاً للحجاج، الذي كان قاسياً عاتيا شديداً. وقد روى "دوتي" أن بدو نجد يذكرون أن قبيلة "بني هلال" هي من نسل عاد وثمود.
% ونجد في كتاب: "Mission archeologique en Arabie" لمؤلفيه "Jaussen" "Savignac"، عدداً من الكتابات الثمودية، عثرا عليها في "العلا" وفي مواضع أخرى من الأرضين التي هي اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية وفي أعالي الحجاز من المملكة العربية السعودية، كما عثر غيرهما قبلهما وبعدهما على عدد آخر، أغلبه من هذه للكتابات القصيرة، التي كتبت على مختلف الأحجار، بالمناسبات، مثل تذكّر شخص،أو تسجيل الهمم لمناسبة وجود صاحبه في هذا المكان، كما يفعل كثير من الناس في أيامنا.


الساعة الآن 05:31 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. , Designed & TranZ By Almuhajir
لا تتحمل منتديات حصن عمان ولا إدارتها أية مسؤولية عن أي موضوع يطرح فيها

a.d - i.s.s.w