![]() |
ولم يشر الأخباريون وأهل الأنساب إلى "القطوريين" كطبقة خاصة من العرب. وقد أشار بعضهم إلى قبيلة عربية عرفت ب "قطورة"، ذكروا إنها عاشت مع "جرهم" بمكة. ولعل لتشتت شمل القبائل القطورية ود*********ها في القبائل الأخرى: قحطانية وعدنانية، وفي جهل أهل الكتاب في ذلك العهد، أي أيام لجوء أهل الأخبار اليهم يسألونهم عن الأنساب، دخلا في هذا الإهمال.
ويلاحظ أن بين أسماء قبائل "قطورة" أسماء وردت في جدول أنساب قبائل "يقطان"، وفي جدول أسماء أبناء "كوش". ويفسر بعض العلماء ذلك باتصال القبائل القطورية بالقبائل اليقطانية وبالقبائل الكوشية وباختلاطها بها وتلاحمها معها، ونزولها بينها، فعد كتبة "أسفار التكوين" ذلك نسباً، فأدخلوا القسم الذي دخل في اليقطانيين من اليقطانيين، والقسم الذي نزل بين الكوشيين من الكوشيين، ومن ثم صار ذلك نسباً ورابطة دم. وزوج إبراهيم "قطورة"،معروفة ضد أهل الأخبار. وقد دعوها ب "قطوراء" وب "قطورا" وب "قنطوراء". ومعنى اللفظة في اللغة العبرانية "البخور". وقد تزوجها إبراهيم بعد وفاة "سارة". ولكنهم كعادتهم في معظم الأخبار التي أخذوها من أهل الكتاب، خلطوا في أخبارها وحرّفوا فيها، فجعلوا لها نسباً، ولم يرد له ذكر في اتوراة، اختلفوا فيه أيضاً، فصار "يقطن" والد "قطورة" في خبر، وصار "يكفور" أو "مفطور" هو والدها في خبر آخر، وصار "افراهم بن أرغو بن فالغ" هو والدها في خبر آخر أيضاً. وجعلت عربية من العرب: تتكلم بهذا اللسان العربي المعروف. وقيل إن اسمها "انموتا" أو "انمتلى"، وصيرت "قطورا بنت يقطن"، ولكنهم أخرجوها أحياناً من العرب، وأضافوها إلى الكنعانيين، كما جعلوها "قطورا بنت مقطور" من العرب العاربة. ولم يفطن أهل الأحبار إلى خلطهم في هذا النسب وإلى سكوت التوراة عن نسبها، ولا أدري من أين جاؤوا ب "يكفور"، أو "مفطور"، وكيف يجوز أن تكون "فطوراء" من نسل "افراهم بن أرغو بن فالخ". ف "افراهم"، هو "إبراهيم"، وهو زوج "قطورة" لا والدها أو جدّها أو جدّ جدّها أو ما شاكل ذلك. ثم إن نسب "إبراهيم" على هذه الصورة هو نسب مغلوط، يدل على جهل، فإنه "إبراهيم" وهو "ابرام" في التوراة، هو ابن "تارح" و "تارح" هو ابن "ناحور" و "ناحور" ابن "سروج" وهذا هو ابن "رعو" الذي صار "ارغو" عند الإسلاميين. و "رعو" هو ابن "فالج" الذي صير "فالغ" عند أهل الأخبار. فترى من ذلك كيف خلط أهل الأخبار، وكيف كان علمهم بالقصص المأخوذ من التوراة. وكل هذا الجهل ناشئ من اعتمادهم على الأخذ شفاهاً من أهل الكتاب، ومن عدم رجوعهم إلى نص التوراة. ويلاحظ إن أكثر الذين قالوا في "قطورة" "قطوراء" و "قطورا"، ذكروا أولادها على نحو ما ورد في التوراة. أما الذين قالوا "قنطوراء"، فقد نسب أكثرهم إليها الترك والصين، وأضاف بعضهم إليها السودان في بعض الأحيان. وهو نسب تكرم به عليها أهل الأنساب والأخبار، فليس في التوراة ذكر لهؤلاء الأولاد النجباء. ولعل إلحاق هؤلاء ب "قنطوراء" إنما كان لغرض سياسي، هو إدماج نسب الترك والصين بالعرب، ترضية لهم، كما فعلوا بالنسبة إلى شعوب أعجمية أخرى. ويرد اسم "بنو قنطوراء" في الملاحم والتنبؤات، فرووا أحاديث تدل على شعور الخلافة الإسلامية بالخطر القادم من الترك والصين، وبأن النسب لم ينفع شيئاً معهم، إذ ورد: "يوشك بنو قنطوراء أن يخرجوكم من أرض البصرة"، وورد: "إذا كان آخر الزمان جاء بنو قنطوراء". وزعم أهل الأخبار إن إبراهيم تزوج من زوج أخرى، كانت من العرب أيضاً، أسموها "حجور بنت أرهير"، ولدت له خمسة بنين: "كيسان، وشورخ، وأميم، ولوطان، ونافس". وليس في التوراة ذكر هذه الزوج العربية، فليس لها نسل فيها بالطبع. فالأولاد هم من نسل مخيلة أصحاب الأخبار، جمعوها من أسماء توراتية مرت وتمر علينا في مواضع من هذا الكتاب، وضبطوها بعدد، لتظهر بمظهر خبر صحيح مضبوط. ومن الأخباريين من أحجم عن تعيين هوية زوج إبراهيم، فلم يذكروا شيئاً عن عروبتها أو عن أبيها وجدّها، بل اكتفوا بذكر اسمها وحده، فدعوه "حجوني"، وقالوا: إنها ولدت له سبعة نفر، هم: نافس، ومدين، وكيشان، وشروخ، وأميم، و لوط، ويقشان. ومعارفنا بالقبائل القطورية لا تختلف عن معارفنا بالقبائل الإسماعيلية واليقطانية من حيث الضآلة والضحالة. فهي قد لا تزيد في بعض الأحيان على الاسم، ذلك لأن التوراة لم تذكر شيئاً عنها، ولأن المفسرين والأحبار الذين شرحوا التوراة، لم يذكروا شيئاً عن تلك القبائل، إما جهلاً بها، وإما لعدم وجود ميل بين العبرانيين إلى الوقوف على أحوال تلك القبائل التى ذكرت في التوراة لمناسبة من المناسبات. ولهذا ضحل علمنا بها أيضاً. وليس أمامنا غير انتظار الحظ، فقد يكتشف العلماء موارد جديدة قد تساعدنا في الوقوف على أولئك ا لأقوام. فزمران مثلاً، لا نعرف من أمره شيئاً يذكر. وقد ورد لدى "بلينيوس" اسم قبيلة عربية دعاها "Zamarni" وهذا الاسم قريب من "زمران"، لهذا رأى بعض العلماء احتمال وجود صلة باسم هذه القبيلة القطورية، كما ورد اسم موضع يقال له "زبرم" "Zabram" يقع غرب مكة، يرى بعض الباحثين احتال وجود صلة له بتلك القبيلة. غير أن من الصعب الحكم أن أحد هذين الموضعين هو "زمران". وأولد أهل الأخبار ل "زمران" ولداً سموه: "المزامير"، وهو في نظرهم جدّ "المزامير الذين لا يعلمون". وليس في التوراة ولد ل "زمران" اسمه "المزامير" صفتهم أنهم لا يعمون. وليس للفظة أية صلة ب "المزامير" التي هي أغان أو موشحات ترتل على صوت المزمار لتمجيد الله. وتقسيم إلى خمسة كتب، يختم كل منها بتسبيحة، وتكرر لفظة "آمين" مرتين، أضافها جامعو المزامير لا مؤلفوها. وهي من لفظة "مزمور" "Mizmor" في العبرانية "Mazmor" في السريانية و "Mazmur" في الاثيوبية، وتقابل "الزبور" و "الزبر" في القرآن الكريم. |
وقد ذكر "ابن النديم" على لسان "أحمد بن عبد الله بن سلام" من مترجمي التوراة والإنجيل، أن المزامير هي "الزبور"، وهي خمسون ومئة مزمور. وهو عدد صحيح مضبوط، يدل على علمه بعدد المزامير، لأن ما ذكره هو، عددها الصحيح . والعلماء مختلفون فيما بينهم في المعنى "الاثنولوجي" لكلمة "زمران". ويرى بعضهم أنها من "زمر" ومعناها "تيس جبلي"، ويقولون إن بني "زمران" اتخذوا ذلك الحيوان "طوطماً" لهم، ولذلك عرفوا به.
أما "يقشان"، فرى "كلاسر" إنه موضع "وقشة"، وهو مكان من السراة في عسير. ورأى "أوسيندر" إنه "يقش" في اليمن. وذكر "الهمداني" اسم قبيلة سماها "بني وقشة" من قبائل "الجنب". وذهب فريق من العلماء إلى أن اللفظة هي تحريف للفظة "يقطان". ُقد ذكر أهل الأخبار أن "بني يقسان"، أي "بني يقشان" لحقوا بمكة فسكنوا بها. ولكنهم لم يشيروا إلى بنية على نحو ما جاء في التوراة. وأما "مديان" "مدان" "Midian "، فإنه "مدين" في الموارد العربية. وقد ورد ذكر "مدين" و "أصحاب مدين" في مواضع من القرآن. ورد على سببل العظة والتذكير بمصير يشبه مصير "مدين"، وأشار إلى نبيهم "شعيب": "وإلى مدين أخاهم شعيباً". وورد اسمهم في سورة "التوبة" مع قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم، وورد مثل ذلك في سورة "الحج". ومما جاء في القرآن على لسان شعيب، قوله يخاطب أهل مدين: "يا قوم، اعبدوا الله ما لكم من إلهَ غيره، قد جاءتكم بيّنة من ربكم، فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين". وورد في سورة هود ما يشير أيضا إلى أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، فاستحقوا العقاب والعذاب، وذلك لترهيب أهل مكة، وكانوا تجّاراً، من نقص المكيال والميزان، لئلا يصيبهم ما أصاب قوم شعيب حيث أصابهم الهلاك. ويظهر من ذكر "الرجفة" أن حدثاً أرضياً، هزة أو هياج حرَّة، أصابهم، فأثرّ فيهم. وهذا ممكن جداً، لأن أرض مدين من مناطق الزلازل و ا لحِرار. ولورود اسم "مدين" وقصة "شعيب" في القرآن الكريم، عني المفسرون وأصحاب قصص الأنبياء بجمع ما ورد عن أهل مدين وأخيهم شعيب من أخبار، غير انهم لم يجدوا في ذاكرة من تقدمهم شيئاً، فاستعانوا بما ورد عند يهود. وقد أضاف الأخباريون إلى ذلك شيئاً من القصص الشعبي، وشيئاً ابتكروه، فأصبح "شعيب" "شعيب بن نويت بن رعويل بن مر بن عنقاء بن مدين ابن إبراهيم". وقد ذكر الطبري وغيره من المفسرين والمؤرخين إن اسم "شعيب" "يثرون" "يثرون" "يثرو"، وقد أخذوا ذلك من أهل الكتاب ولا شك، ففي التوراة إن "موسى" نزل على أهل "مدين"، بعد هربه من "فرعون"، وتزوج ابنة كاهن "مدين" "مديان" "يثرون"، واسمها "صفورة"، فولدت له ولداً دعاه "جرشوم" "كرشوم". فرأى المفسرون والأخباريون إن شعيباً المذكور في القرآن الكريم هو "يثرون" التوراة. ويرى "بول" "Buhl" إن ذلك لم يكن معروفاً في صدر الإسلام و إنما حدث هذا بعد هذا العهد. وقد وضع بعض أهل الأخبار نسباً عجيباً مضحكاً ل "شعيب"، فجعلوه "يثرون بن ضيعون بن عنقا بن نابت بن إبراهيم. وتعقّل آخرون فقالوا: إنه "شعيب بن ميكيل" من ولد مدين. وقيل غير ذلك. كل هذا من وضع أهل الأخبار، وأهل الكتاب الذين أمدَّوهم يمثل هذه الأنساب والقصص، ولم يتورعوا من ادّعاء انهم وجدوا ذلك في كتب الله. وقد عرف "يثرو" "Jethro"Jether"" ب "رعوئيل" "Reuel" أيضاً في التوراة. كما عرف ب "حوباب بن رعوئيل" في موضع أخر. ويظهر إن خطاً قد وقع في كتابة الاسم الثاني أو الأول، ولهذا صار "رعوئيل" في سفر الخروج و "حوباب بن رعوئيل" في سفر العدد. ونرى إن الاسم الذي ذكره "المسعودي" وغيره من أهل الأخبار ل "شعيب" الذي هو "يثرو" يختلف مع اسمه المذكور في التوراة. ويرى بعض الباحثين إن كلمة "يثرو" ليست اسم علم له، و إنما هي كناية عن وظيفته، وهي الكهانة، فقد كان كاهناً في قومه،والكاهن هو "يثرو" في بعض اللغات العربية الجنوبية، وأما اسمه، فهو "رعوئيل" أو "حوباب بن رعوئيل". وقد جعل الناس لشعيب قبراً زعموا إنه على مقربة من "حطين" في موضع سماه "ياقوت" "خيارة". وقال له "بول Buhl " "خربة مدين. وقد ورد خبر "مدين" في غزوة "زيد بن حارثة" لجذام في "حسمى". ويظهر من بعض الموارد الإسلامية أن "مدين" كانت في صدر الإسلام من أرض "جذام"، وأنها كانت إذ ذاك أكبر من "تبوك". وبها بئر زعم إنها البئر التي استقى منها موسى. ويظهر من شعر "كُثيَر عزَّة" إنه كان في أيامه بمدين جماعة من الرهبان، يتعبدون، ويبكون من حذر العقاب. وورد اسم بطن يقال له "بنو المدّان"، كما ورد ذكر "مدان" في غزوة "زيد بن حارثة" بني جذام، ويقال له "فيفاء مدان". "والمدان" اسم صنم أيضاً، وبه عرف "بنو عبد المدّان". وفي التوراة إن "المديانيين" كانوا برفقة "الاشماعيليين" لما بيع "يوسف". وأن موسى نزل عندهم وتزوج فيهم: أخذ ابنة "يثرون" كاهن "مديان" "مدين". وفي موضع آخر أن "يثرون" من "بني القيني" "Kenite" ويظن أن "بني القيني" هم فرع من فروع "مديان". وقد اتحد "المديانيون" مع "مؤاب" ضد إسرائيل. وفي أيام "جدعون""Gideon" كان المديانيون قد ضايقوا العبرانيين مضايقة شديدة، وكانوا قد اتفقوا مع العمالقة و "بني المشرق"، فتمكن "جدعون" من اخراجهم. وقد ورد في سفر "القضاة" اسم أميرين من أمراء المديانيين، هما "غراب" "Oreb"، و "ذئب" "Zeeb" وورد في الإصحاح الثامن من القضاة اسم ملكين أو "شيخين" من "مديان" "مدين" هما: "زبح" "Zebah" و "صلمناع " "Zalmuna". والظاهر إنه لم يعد للمديانيين شأن منذ هذا العهد، فلم يرد عنهم شيء يذكر، ولعلهم ذابوا في القبائل العربية الأخرى. |
ويفهم مما جاء في "القضاة" أنهم كانوا فرعاً من "الإشماعيليين". والذي يفهم من مواضع متعددة من أسفار التوراة أن مواطن "المديانيين" كانت تقع شرق العبرانيين. والظاهر أنهم توغلوا في المناطق الجنوبية لفلسطين، واتخذوا لهم هناك مواطن جديدة، عاشوا فيها أمداً طويلاً بعد هذا التأريخ حيث يرد ذكرهم في الأخبار المتأخرة. وقد ذكر "بطلميوس" موضعاً يقال له "مودينا" "Modiana" على ساحل البحر الأحمر، يرى العلماء إنه موضع "مدين"، وهو ينطبق على موضع أرض مدين المعروفة في الكتب العربية.
وذكر "يوسفوس فلافيوس" المؤرخ اليهودي المعروف مدينة سماها "Madiana" وقال إن موسى زارها. وذكر "بطلميوس" مدينة أخرى سماها "Madiama" ، وقد أشار المؤرخ "أويسبيوس" "Eusebius" إلى مدينة دعاها "مديم" "Madiam"، قال إنها سميت بهذا الاسمِ نسبة إلى ولد من أولاد "قطورة" زوج إبراهيم، وهي تقع في بادية ال "سرسين" "Saracens" إلى شرق البحر الأحمر. ويرى "موسل" أن "Madiama" أو"Madiam" هي "مدين". ويظهر من التوراة أن "المدينيين " قد غيّروا مواضعهم مراراً، بدليل مايرد فيها من اختلاطهم ب "بني قديم" والعمالقة والكوشيين و الإسماعيليين. ويظهر أنهم استقروا بعد ضعفهم في المنطقة التي ذكر "يوسفوس" وجود مدينة"Madiana" فيها، أي في القرون الأخيرة قبل الميلاد. ويرى "موسل" إنها تقع في جنوب "وادي العربة" وإلى جنوب وجنوب شرقي العقبة. ومن الصعب تعيين "بشاق". فقد رأى بعضهم إنه موضع "يسبق" وهو مكان في شمال سورية، ذكر في كتابات "شلمنصر" الثاني. وقد ورد في خبر فتوحات "تغلا تبليزر" الأول اسم مكان يقال له "سوخ" "Sukh" أو "شوح" أو "شوخ" "Schukh"، ويقع شرق "حلب"، وهو لا يبعد كثيراً عن أرض "يسبق" "Jasbuk". واسم "سوخ" قريب جداً من "شوح" الذي يلي اسم "يشباق" في التوراة، لذا رأى بعض العلماء إنه هو الموضع المقصود، وأن "يشباق" كناية عن هذا المكان، عن موضع "يسبق" الذي لا يبعد كثبيراً عن "شوح". ورأى بعض الباحثين إنه "الشبلك"، وهو موضع يقع على طريق "السكة الرومانية" الموصلة إلى العقبة. وأما "شوحا"، فذهب بعض الباحثين إلى إنه موضع "سوخ" "سوخو" "Sukh" ""Suchu، المذكور في نص "أشور بنبال" "865" ق. م. ويقع على الجانب الأيمن من نهر الفرات. وقد ذكرت أن نفراً من الباحثين رأوا + إنه مكان "سوخ" المذكور في نص "تغلا تبليزر" الأول. وقد نسب أحد أصحاب "أيوب" الثلاثة، وهو "بلدد" إلى "شوح" فعرف ب "الشوحي". ويظن كثير من العلماء إنه من قبيلة أو من أرض عرفت بي "شوح"، وأن هذه القبيلة أو الأرض هي "شوحا". وقد نسبت التوراة ولدين إلى يقشان هما: "شبا"، و "ددان". ويحب أن تكون أرض "شبا" هنا في جوار ارض "ددان"، وذلك لورود "ددان" مباشرةّ بعد "شبا"، أي على مقربة من موضع "ديدان" الذي هو "العلا"في الحجاز. وأهل "شبا" المذكورون هنا، هم جالية سبئية من جاليات سبئيةعديدة انتشرت بين اليمن وفلسطين، وفي السواحل الإفريقية المقابلة لليمن،كما سأتحدث عن ذلك. ولم تهب التوراة لشبا أولاداً، بل تركته عقيماً. إنما وهبت شقيقه ددان عدداً من الأولاد ونسلاً، هم "أشوريم" و "لطوشيم" و "لأميم" 0 أما"أشوريم "Ashurim" "Asshurim"، فإنهم قبيلة عربية من قبائل "قطورة" بإجماع علماء التوراة، ولا صلة لهم ب "آشور"، أي الآشوريين. وقد ورد في "التركوم" "Targum" أن "آشوريم" بمعنى سكان مستوطنةّ أو معسكر. مما يدل على إن هؤلاء العرب كانوا مستقرين مقيمين في مستوطنات، ولم يكونوا أعراباً. وقد ورد اسم "آشور" في نصوص معينة مقروناً باسم موضع "عبر نهران"،وتقع هذه المنطقة من "طور سيناء" إلى "بئر السبع" "Beersheba"و "حبرون" و تحاذي "مصرى" في جزيرة العرب على رأي "ونكلر". ولا نعرف شيئاً عن "لطوشيم" و "لاميم"، ويظن "كلاسر" أنهم من سكان "طور سيناء". وأما "مديان" "مدين"، فكان له من الأولاد: عيفة، وحفر، وحنوك، وابيداع، والدعة. فهم اذن قبائل من صلب "مديان" أي مدين. أما "عيفة"، فقد ورد ذكره في التوراة على إنه اسم قبيلة كانت تحمل الذهب واللبان على الجمال من "شبا" وتبيع تجارتها في فلسطين. ذكرت مع "مدين". ويظهر إن "بني عيفة" وأهل مدين، كانوا وسطاء أو تجاراً يذهبون إلى "شبا"، فيحملون الذهب واللبان، لبيع هذه السلع الغالية النفيسة في فلسطين. ولا نعرف من أمر هذه القبيلة في الزمن الحاضر شيئاً يذكر. وأما "عفر"، فاميم قبيلة يظن بعض العلماء إنها "بنو غفار"من "كنانة"، أو موضع "يعفر" على مقربة من "الحكية" بين تهامة وأبان. ورأى "كلاسر" إنه موضع "Apparu" الذي ورد في كتابة تعود إلى "آشور بنبال". وهناك مواضع أخرى اسمها قريب من اسم "عفر"، فعلى مقربة من "مكة" موضع يعرف ب "عفر" وب "عفار"، وفي نواحي "العقيق" مكان يسمى "عفاريات". وذكر "الهمداني" "عفار" و "الخنقة"، واسماهما قريبان من "عفر" و "حنوك". غير إن في أعالي الحجاز في منطقة "مدين" وفي الأردن مواضع تسمى بأسماء قريبة من "عفر". وأما "حنوك"، فلا نعرف من أمره شيئاً يذكر. وقد ذهب بعض الباحثين إلى إنه "الحنكية"، وهو موضع في شمال المدينة. وأما "ابيداع" "Abida'"، فيرى "كلاسر" إنه موضع من هذه المواضع في الحجاز. وقد ورد في النصوص السبئية اسم قريب من هذا الاسم. ولا نعرف من أمر "الدعة" شيئاً حتى الآن. أبناء كوش ونجد في التوراة إن أبناء "كوش" "سبا، وحويلة، وسبتة، ورعمة، وسبتكا"، وان "شبا و ددان" هما ابنا "رعمة". و "كوش" هو ابن "حام"، والمراد بأبناء "كوش" الحبش وسكان "نوبيا" وهم سود. أما الأسماء المذكورة، فهي أسماء قبائل وأرضين عربية معروفة، لذلك حار علماء التوراة في تفسير الأسباب التي حملت كتبة التوراة على جعل تلك الأسماء أسماء أولاد لكوش. فرأى بعضهم إنها كناية عن قبائل عربية هاجرت من جزيرة العرب إلى السواحل الأفريقية المقابلة واستقرت في أفريقية منذ أزمنة قديمة وكوّنت لها مستوطنات وربما حكومات شاك، واندمج شعبها في أرض أفريقية، فعُدّت من شعوبها، فلما دوّن أهل الأنساب العبرانيون أنساب البشر في أيامهم عدّوها من شعوب أفريقية بحسب إقامتها، وأدخلوها في أبناء "كوش"، أي في أبناء تلك المنطقة التي أقاموا فيها. وذهب بعض آخر إلى أن "الكوشيين" المذكورين لم يكونوا من افريقبة، بل من جزيرة العرب، ورأوا وجود "كوش" اخرى في جزيرة العرب أصحابها هم القبائل العربية المذكورة. واستدلوا على ذلك يما جاء في "أخبار الأيام الثاني": "وأهاج الرب على يهورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب "الكوشيين"". حيث يفهم من هذه الآية إن العرب المذكورين الذين عادوا "يهورام" كانوا يجاورون "الكوشيين"، ويقتفي ذلك على زعمهم وجود "كوش" أخرى، هي "كوش عربية"، واياها قصد "سفر التكوين" في هذا المكان. أما "سبأ"، وقد ذكر الاسم بالسين في هذا الموضع من التوراة، فإنه اسم شهير معروف، هو شعب سبأ. وتصور التوراة وجود "سبأ" في "كوش"، يشير إلى انتشار السبئيين في أفريقية، ووقوف العبرانيين ذلك، وعندي إن ذكر السبئيين مرة ب "شبا" أي بالشين المعجمة، ومرة بالسين المهملة، إنما وقع من كتبة الأسفار، كتبوه بالشين على وفق النطق العبراني، وكتبوه بالسين على نحو ما ينطق به في العربية، فظهر الاسم وكأنه اسم شعبين متباينين، ولا سيما في الموضع المذكور، حيث ظهر اسم "سبا" بالسين، ابن من أبناء "كوش"، بينما ا ظهر بالشين أي "شبا" ابن من أبناء رعمة وشقيق ل "ددان" على سين ورد بالشين أيضاً في أولاد يقطان. والظاهر إن المورد الذي استقى منه كتبة الأسفار هذه الأسماء سمّوها بالشين من إخوانهم العبرانيين الذين كانوا على اتصال بالسبئيين، وذلك على وفق نطقهم، وقد كان هولاء السبئيين من سكان اليمن وأعالي الحجاز، فأطلقها عليهم بحسب نطق العبرانيين بها، وسمع عن السبئيين لآخرين وهم من دعاهم ب "الكوشين" من العرب، و فرق بين الأنساب على طريقة العبرانيين من نسبة الأقوام إلى المواضع التي تقيم من ينسبونهم بها. وأما "حويلة"، فقد تحدثت عنها في كلامي على أبناء "يقطان". وأمما "سبتة" "Sabta"،فقد رأى بعض العلماء إنها قبيلة من قبائل جزيرة العرب، يجب أن تكون مواطنها بين "سبأ" و "رعمة"، ورأى آخرون إنها على ساحل الخليج، على حين رأى آخرون إنها "Sabota" أي "شبوة" عاصمة حضرموت ورأى "كلاسر" إنها في اليمامة. وأما "رعمة" "Raamah"، فإنه والد "شبا" و "ددان" "ديدان"، ولكونه أحد أبناء "كوش" وجب البحث عن أرضه في أفريقية، إلا أن العلماء لا يتفقون على ذلك، بل يذهب أكثرهم إلى إن "رعمة" كناية عن أرض هي في مكان ما من جزيرة العرب، في غرب الخليج العربي حيث موضع"Regama" الذي ذكره "بطلميوس"، أو في أرض "Rammanitae" الذي ذكره "سترابو"، أو موضع "ركمت" "ركمات" "رجمت" "رجمات" المذكور في كتابات المسند. ويخيل إليّ إنه كناية عن حلف ضمّ جماعة من السبئيين الشماليين والديدانيين ورعمة، في تلك الأيام، ولذلك صُيّر والداً في وددان، ثم انفصمت عراه، فذكرت "رعمة" مع "شبا" تتاجر مع "صور" "Tyr" وذلك في سفر حزقيال، أو إنه اسم أرض في شمال غربي العربية الغربية يجاور مواضع السبئيين الشماليين والديدانيين. أو في موضع ما من سواحل الخليج. وأما "سبتكا"، فلا نعرف من أمرها شيئاً يذكر. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها تحريف لفظة "سبته". ويرى "كلاسر" أنها في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب. |
الهاجريون
وذكر في التوراة اسم شعب سكن في شرقي الأردن وفي شرقي أرض "جلعاد"، عرف باسم "الهاجريين". وهم من العرب أو بن "بني إرم" في رأي بعض العلماء. غير أن إطلاق هذه اللفظة على الإسماعيليين، يدل على إن المراد بهم العرب بم لأن "الإسماعيليين" هم عرب، وأن "هاجر" كناية عن أم "إسماعيل" جد" القبائل التي تحدثت عنها على رأي التوراة. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن مراد التوراة من "الهاجريين" الأعراب، أي البدو وهم عرب أيضاً. وقد امتدت منازل الهاجريين من الفرات إلى "طور سيناء"، فهي منطقة واسعة تشمل البادية: بادية الشأم، وتضم عدداً كبيراً من الأعراب. وهي منازل "الإسماعيليين" أيضاً، وقد يكون هذا هو السبب في عدم تميز التوراة أحياناً فيما بين الهاجربين و الإسماعيليين. وقد ذكروا مع "يطور" "Jetur" و "Naphish"، وهما من الإسماعيليين. وأشير إلى اسم رجل من الهاجريين عرف ب "يازيز" "Jaziz"، ذكرت التوراة إنه كان يرعى بغنم داوود في جملة أشخاص كان "داوود" قد أودع إليهم أمر إدارة أمواله. وبعد، فهذا كلام موجز في أثر التوراة على روايات أهل الأنساب والأخبار في أنساب العرب. وقد رأيت أن مروجيه ومدخليه بن العرب هم أهل الكتاب، ومعظمهم من يهود أو من مسلمة يهود. لهذا ترى أسانيد اكثر هذه الروايات تنتهي بى "كعب الأحبار" و "وهب بن مني وأضرابهما. وقد ينتهي السند ب "ابن عباس"، من طريق "ابن الكلبي" عن أبيه، عن أبي صالح، وللعلماء كلام في هذا السند. و "ابن الكلبي" مورد مشهور معروف في هذه الموضوعات، لا يقابله في ذلك إلا "ابن إسحاق الذي غرف، كما ذكرت في أول هذا الفصل، من مناهل أهل الكتاب، وكان يسميهم أهل العلم الأول، فملأ كتابه لذلك بغث كثير، لاعتماده على هؤلاء وتوثيقه لهم، ولم يكن لأكثرهم كما يظهر من نقد ما نسب إليهم علم بما جاء في التوراة. و بكتب اليهود الأخرى. وقد ظهر لي من دراساتي لهذا الموضوع وللقصص الإسرائيلي عامةً أن كثيراً من هذا الذي يرويه أهل الأخبار في النسب وفي القصص، بعيدٌ عما يرد في التوراة، وقد اخترع اختراعاً وص خ بغباوة وبجهل، وحشي بالفاظ عبرانية أو قريبة منها، بطريقة مضحكة أحياناً، تدل على خبث واضع الخبر أو جهله، وعلى سذاجة الناقل عنه وعلى عدم اهتمامه إلاّ بإِظهار نفسه بمظهر الواقف على عدم اهتمامه إلا بإظهار نفسه بمظهر الواقف على الأخبار، ونذلك كان لا يهمه إلاً جمع الأخبار وقصها لناس، وقد يكون هو واضع تلك الأخبار وصانع ذلك القصص. وقد ذكر "الطبري" في تأريخه حديثاً يرجع سنده إلى رسول الله، في أبناء نوح، زعم أن الرسول قال: "سام أبو العرب، ويافث أبو الروم" وحام أبو الحبش". ذكره بصور مختلفة، فيها تقديم وتأخير، أو زيادة في بعض الألفاظ. ويتصل أسانيد هذا الحديث بمختلف صور رواياته إلى سند واحد، هو: "سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة ابن جندب، عن الرسول". وهناك أحاديث، وردت في موضوع نسب عدنان، فيها نهي عن تجاوز ما وراء ذلك، وهي وأمثالها يجب أن تكون موضع دراسة مستقلة حقاً، لترى سلاسل سندها، ومقدار قدمها أو بعدها من حديث الرسول. فعلى مثل هذه الدراسة نستطيع أن نبني أحكاماً في موضوع رأي النسابين في نسب العرب في أيام الرسول. ولا بد لي هنا من التنبيه على أن "محمداً بن اسحاق بن يسار" صاحب المغازي والسير، هو - كما قلت مراراً - من الآخذين عن أهل الكتاب، الراوين عنهم. وكان يسميهم أهل العلم الأول. وهم بالطبع من هذه الناحية أعلم من غيرهم بأمور التوراة والإنجيل، بحكم كونهم يهوداً أو نصارى. وهذا في المؤرخين و الأخباريين يروون ما ورد من قصص توراتي ومن أنساب توراتية عن "ابن اسحاق"، فهو اذن أحد الناشرين للإسرائيليات بين المسلمين. والقصص الإسرائيلي الذي نشره، ليس في الواقع قصصا إسرائيلياً صافياً خالياً من الكدرة، بل هو متفاوت في درجات النقاء والصفاء. فيه العكر، وفيه ما هو قريب مما جاء في التوراة، وفيه ما هو مطابق لما جاء في "العهد القديم"، فهو نفي صاف. ويعود سبب هذا الاختلاف إلى الموارد التي استقى منها "ابن إسحاق علمه. ففيها منابع كانت ذات علم ووقوف على كتب أهل الكتاب، وفيها موارد مدعية أو ليس لها حظ من العلم، و إنما تحدثت إليه على نحو ما كان شائعاً بين أهل الكتاب، وبينها موارد استباحت الكذب، ادعاءً للعلم ولأسباب أخرى، ومن هتا اختلفت موارد "ابن إسحاق" في درجات النقاء والصفاء. |
و "هشام بن محمد بن السائب الكلبي"، هو من الآخذين عن أهل الكتاب كذلك، المدخلين للإسرائيليات ولأنساب التوراة إلى المسلمين. وهناك نفر آخرون أخذوا عن أهل الكتاب أيضاً، يخرجنا ذكر أسمائهم هنا عن صلب الموضوع. ولهذا اكتفيت بذكر هذين الرجلين، لما لهما من أثر بارز فيمن جاء بعدهم في موضوع الإسرائيليات وأنساب التوراة.
وأما ما نسب إلى "ابن عباس" من أقوال لها صلة بالتوراة فيجب دراسته بحذر ونقده نقداً عميقاً، ومطابقته بما ورد في تلك الأسفار وفي كتب اليهود الأخرى. ونقد سلسلة السند التي تروي تلك الأقوال وتنسبها إليه. ولم يقم حتى الآن باحث لفت نظره هذا الموضوع. لذلك أرجو أن ينتبه إليه العلماء ليبدوا رأيهم فيه، ورأيهم في الأقوال المماثلة المنسوبة إلى صحابيين آخرين وتابعين" ليكون حكمنا في مثل هذه الأمور حكماً مستنداً إلى درس وعلم ومما نسب إلى "ابن عباس" شعر مشهور معروف اليوم بين الناس قالوا إنه نسبه إلى آدم، وأنه قال: إن آدم نظمه بعد قتل ابنه، وهو شعر موضوع بالطبع، وضع على آدم، على لسان ابن عباس. فقد نسبه بعض العلماء إلى أناس آخرين. ولم يعرف عن "كعب الأخبار" إنه ألف أو دوّن شيئاً، إنما عرف عنه إنه كان لمجلس مجالسه في المسجد يتحدث إلى الناس ويستعين بالتوراة أحياناً يقرأ منها عليهم ويفسرها لهم. ولكن "الهمداني" يذكر إنه كان قد كتب كتباً، وان أهل "صعدة"، كانوا قد توارثوا كتبه ورووا منها. قال: "روى الصعديون مرفوعاً إلى إبراهيم بن عبد الملك الخنفري، قال: قرأت كتب كعب الأخبار، وكان كعب رجلاً من حمير من ذي رعين، وكان قد قرأ التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، و أوسع في العلم. وقال أيضاً: "والوجه ما ذكرنا في أول السيرة من هذا الكتاب، ما رواه أهل صعدة عن كعب الأحبار في خلق آدم، ومن خلفه إلى نوح، وخر الطوفان. وقد نقل "الهمداني" شفاً عن "الخلق" والأنبياء ونوح والطوفان في الجزء الأول من كتابه: الإكليل ذَكر أنها لكعب الأحبار. والظاهر إنه أخذها من رواية أهل صعدة لكتب "إبراهيم بن عبد الملك الخنفري"، نقلاً من كتب كعب الأحبار. |
الفصل الحادي عشر
أنساب العرب للنسب عند العرب شأن كبير، ولا يزال العربي يقيم له وزناً، ولا سيما عربي للبادية. فعلى نسب المرء في البادية تقوم حقوق الإنسان، بل حياته في الغالب. فنسب الإنسان، هو الذي يحميه، وهو الذي يحافظ علما حقوقه ويردع الظالم عنه ويأخذ حق المظلوم منه. وقد يبدو ذلك للمدني الأعجمي أمراً غريباً شاذاً غير مألوف. ولكن هذا المدني نفسه يعمل بالنسب ويأخذ به، وإن كان في حدود ضيقة، فجنسيته هي نسبه، تحميه وتحفظ حقوقه. وليس نسب الأعرابي غير هذه الجنسية، يحتمي به، لأنه يصونه ويحفظ حقوقه ويدافع عنه. وهو مضطر إلى حفظه، وإلى عدّ آبائه وأجداده وذكر عشيرته وقبيلته، لأنه بذلك يسلم، ويحافظ على حياته. فإن أراد شخص الاعتداء عليه، عرف إن وراءه قوماً، يدافعون عنه ويأخذون حقه من المعتدى عليه. وهو لذلك مضطر إلى حفظ نسبه والمحافظة عليه. وأما كون الحضر أقل عناية بأنسابهم من أهل الوبر، فلأن الحاجة إلى النسب عندهم أقل من حاجة أهل الوبر إليها. فالأمن مستقر، ولدى الحضر في الغالب حكومات تأخذ في المعتدى عليهم من المعتدين. ثم إن مجال الاختلاط والامتزاج عندهم أكثر وأوسع من أهل البوادي وسكان الأرياف، وكلما كانت الحواضر قريبة من السواحل ومن بلاد الأعاجم، كان الاختلاط أوسع وأكثر، ولهذا ضعفت فيها وشائج الدم والنسب، وكثر فيها التزاوج والتصاهر بين العرب والعجم، فصعب على الناس فيها المحافظة على أنسابهم، وقلت الفائدة من النسب عندهم. ولهذا لم يعتنوا به عناية الأعراب بالأنساب. فالانتماء إلى عشيرة أو في قبيلة أو حلف، هو حماية للمرء، وجنسية في عرف هذا اليوم. ولهذا صار إخلاص الأعرابي لقبيلته أمراً لازماً له محتماً عيله، وعليه أن يدافع عن قبيلته دفاع الحضري عن وطنه.فالقبيلة هي قومية الأعرابي، وحياته منوطة بحياة تلك القبيلة. ولهذا كانت قومية أهل الوبر قومية ضيقة، لا تتعدى حدودها حدود القبيلة وحدود مصالحها وما يتفق أهل الحل و العقد فيها عليه. ومن هنا صارت القبائل كُتلاً سياسية، كل كتلة وحدة مستقلة، لا تربط بينها إلاّ روابط المصلحة والفائدة والقوة والضعف والنسب. والعادة انتساب كل قبيلة إلى جدّ تنتمي إليه، وتدعي إنها من صلبه، وان دماءه تجري في عروق القبيلة، وتتباهى به و تفاخر، فهو بطلها ورمزها، وعلامتها الفارقة التي تميزها عن القبائل الأخرى. وليس ذلك بدعاً في العرب، بل إنّا لنجد الأمم والشعوب الأخرى تنتمي إلى أجداد وآباء. ف "هيلين" "Hellen"، هو جدّ أهل "دورس" "Dorus"، ومنه أخذ "الهيليون" اسمهم هذا. وكان للرومان وللفرس وللهنود وللأوروبيين أجداد انتموا إليهم واحتموا بهم وتعصبوا لهم ونسبوا أنفسهم إليهم على نحو ما نجده عند العرب والإسرائيليين وبقية الساميين. وفي التوراة ولا سيما "أسفار التكوين" منه، أبرز أمثلة على النسب، نجد فيها أنساب الأنبياء والشعوب، وأنساب بني إسرائيل. يسبق النسب في العادة جملة: "وهذه مواليد" "وإله تولدت"، ثم يرد بعدها النسب. أي أسماء من يراد ذكر نسبهم. قد يذكر نسب الأب والزوجة والولد، وقد لا تذكر الزوجة، بل يكتفي بالأب وبأولاده. وقد لا يذكر الولد. والذي يقرأ هذه الأسماء يقرأها وكأنها أسماء أشخاص حقاً. ولكننا إذا قرأناها قراءة نقد، نرى أن بعضها أسماء مواضع ومواقع، أو أسماء قبائل، وعشائر أو أسماء طواطم، أي أسماء حيواناتّ سمت بها القبائل، مثل "ذئب" و "كلب" و "أسد" و "ضبة" وأمثال ذلك، وكلها كناية عن قائل وشعوب عاشت قبل الشروع في تدوين هذه الأنساب أو في أيام التدوين. ويظهر من كيفية عرض هذه الأنساب وجمعها وتبويبها أن في العبرانيين جماعة من النسابين اختصت بجمع الأنساب وحفظها، ومنهم من كان يعتني بجمع أنساب الغرباء عن بتن إسرائيل، وربما كان كتبة الأسفار من هؤلاء. فلما شرع كتبة أسفار التكوين بقصة الخلق وبكيفية، وزع شعوب العالم وظهور الإنسان على سطح الأرض، كان لابد من ذكر الشعوب وأنسابها على أسلوب كتابة التأريخ في ذلك العهد، فاستعين بما نجمع عند نسابي العبرانيين من علم بالنسب، وأدرج في هذه الأسفار. وقد وردت في التوراة في أسفار التكوين وفي "أخبار الأيام الأولى" أسماء قبائل عربية، رجعتها إلى مجموعات، مثل مجوعة "يقطن" "يقطان"، ومجموعة الإشماعليين، أي الإسماعيلين، نسل إسماعيل،غير إنها لم تشر كعادتها بالنسبة إلى كل أنساب البشر إلى المورد الذي أخذت منة تلك الأنساب. لذلك لا ندري إذا كانت التوراة قد اقتبست ما ذكرته عن أساب الأمم من الأمم التي تحدثت عن نسها، بأن أوردت تلك الأنساب على نحو ما كان شائعاً متعارفا عند الأمم المذكورة بالنسبة لنسبها، أو أنها روتها على حسب ما كان متعارفاً عند قدماء العبرانيين في أجداد البشر وفي أنسابهم، فدوّنتها على هذا النحو الشائع بين العبرانيين اذ ذاك. |
أما النصوص الجاهلية، فإنها لم تتحدث، وياللاسف، عن مجموعات قبائل على النحو المتعارف عليه عند علماء النسب. ولكنها جاءت بأسماء قبائل عديدة كثيرة، لم يعرف من أمرها أهل الأخبار والنسب شيئاً. فنحن نقف على أسمائها لأول مرة،.بفضل تلك الكتابات.
وقد أفادتنا الكتابات الجاهلية فائدة كبيرة من ناحية دراسة أسماء القبائل الواردة في كتب النسب والموارد الإسلامية الأخرى، إذ مكنتنا من الوقوف على الصلات بينها، وعلى معرفة ما سمي منها بالأب أو الابن أم الأم، كما عرفتنا على مواطن عديدة من مواطن الخطأ التي وقع فيها النسابون وأصحاب الأخبار، وعلى كثير من الوضع الذي، وضع في النسب أو في القصص المروي عن القبائل جهلاً أو عمداً أو ظهوراً بمظهر العلم والإحاطة بأنساب الرب وأخبارهم، الجاهلين منهم والإسلاميين. ولم أجد في الشعر الجاهلي هذه القحطانية والعدنانية التي يراها أهل النسب والأخبار، وأقصى ما وجدته فيه قصيدة للأخنس بن شهاب بن شريق التغلبي حوت أسماء قبائل وأسماء مواطنها ومواضعها، هي: "معد" و "لكيز" و "بكر" و "تميم" و "كلب" و "غسان" و "بهراء" و "إباد" و "لخم". وهي قبائل بعضها عدنانية وبعضها قحطانية في اصطلاح أهل النسب، إلا أنني لم أجد فيها أسماء آباء هذه القبائل ولا أجدادها، ولم أستطع أن أفهم منها أن هذه القبيلة، هي قبيلة عدنانية، وأن تلك قبيلة قحطانية، فقد جاءت الأسماء متداخلة وكل ما وجدته فيها مما يخص النسب، هذا البيت: فوارسها من تغلب ابنة وائل حماة كماة ليس فيها أشائب ولم يرتفع الأخنس بنسب تغلب إلى ما وراء وائل من آباء وأجداد. والحق أن من يقرا هذه القصيدة دون أن يقرأ اسم صاحبها، يرى إنها من قصائد الشعراء المتكلفين الذين ظهروا في أيام الدولة العباسية، ولن يخطر بباله أبداً أنها من نظم شاعر جاهلي. وأنا أريد أن أتجاسر فأقول: إني أشك في صحة نظم ذلك الشاعر هذه القصيدة، وأسلوب نظمها يأبى أن يرجعها إلى ذلك العهد. وقد خصص "ابن النديم" في كتابه "الفهرست، فصلاً ب "أخبار الأخباريين والنسابين وأصحاب الأحداث"، ذكر فيه أسماء بعض من عرف واشتهر بحفظه للانساب، ولا سيما من ألف فيهم تأليفاً في النسب. وقد طبعت بعض مؤلفات المذكورين، وهي متداولة بين الناس. والذين ذكرهم "ابن النديم" هم من اشتهر وعرف وذاع خبره في العراق وفي البيئة التي اتصل بها "ابن النديم"، وهم من أهل الحواضر في الغالب، إلا أن بين أهل البوادي والأماكن القصية النائية المنعزلة جماعة كانت قد تخصصت بالنسب، انحصرت شهرتها في البيئة التي عاشت فيها. ولهذا لم يصل خبرهم إليه والبنا، وكثير منهم لم يؤلف في النسب تأليفاً، و إنما حفظه حفظاً، شأنهم في ذلك شأن النَسّابين الجاهلين، أو الذين أدركوا الإسلام. ونجد في كتب الأدب والتواريخ قصصاً عن بعض النسابين في الجاهلية وفي الإسلام، يثير الدهشة من قدرة وشدة الحافظة عند أولئك النسابين في حفظ الأنساب. وقد عرف أحدهم ب "النَسّابة"، فقيل: "فلان النَسّابة" أو "النسابة". وقد كان لهم شأن خطير بين قومهم، لأنهم المرجع في الأحساب والأنساب، واليهم المفزع عند حصول اختلاف في الأمور المتعلقة بها. ويذكر أن الخليفة "عمر" أمر بتسجيل الأنساب وتبويبها وتثبيتها في ديوان، وذلك عند فرضه العطاء، " فبدأ بالترتيب في أصل النسب، ثم ما تفرع عنه، فالعرب عدنان وقحطان. فقدم عدنان على قحطان لأن النبوة فيهم وعدنان تجمع ربيعة ومضر، فقدم مضر على ربيعة لأن النبوّة فيهم، ومضر تجمع قريشاً وغير قريش، فقدم قريشاً لأن النبوة فيهم، وقرش تجمع بني هاشم وغيرهم، فقدم بني هاشم لأن النبوة فيهم، فيكون بنو هاشم قطب الترنيب، ثم بمن يليهم من أقرب الأنساب اليهم حتى استوعب قريشاً، ثم بمن يليهم في النسب حتى استوعب جميع عدنان. وقد كان هذا التسجيل سنة خمس عشرة للهجرة، في رواية، أو سنة عشرين في رواية أخرى. وذكر أن الخليفة قال: "أيما حي من العرب كانوا في حي من العرب أسلموا معهم فهم معهم، إلا أن يعترضوا، فعليهم البيّنة، كالذي فعله مع "بجيلة" رهط جرير بن عبد الله بن جابر، وكانوا قد تفرقوا، واغتربوا بسبب حروب وقعت بينهم والتحقوا بقبائل أخرى. وروي أن عوف بن لؤي بن غالب ألحق نسبه ب "غطفان"، والتحق نسب بنيه "بني مُرّة" بَغَطفان، ويقال إن الخليفة قال: لو كنت مستلحقاً حياً من العرب، لاستلحقت يني مُرًة، لما كنا نعرف فيهم من الشرف البين، مع ما كنا نعرف من موقع عوف بن لؤي بتلك البلاد. ثم قال بعض أشرافهم: إن شئتم أن ترجعوا لنسبكم من قريش، فافعلوا. ولكنهم كرهوا أن يتركوا نسبهم في قومهم، ولهم فيهم من الشرف والفضل ما ليس لغيرهم". وقد ضاعت أصول الجرائد التي دوّنت عليها الأنساب في ذلك الديوان، ولم يبق منها شيء. ويظهر إن أهل الأخبار لم ينقلوا صورها، و إنما أخذوا الأسس التي قام عليها التسجيل على نحو ما ذكرت، وبالجملة فإن في إشارتهم إلى تلك الأسس والقواعد التي سار عليها الخليفة في اتخاذ القربى بالرسول والوضع القائم للقبائل، فائدة كبيرة لدراسة أسس تثبيت الأنساب عند العرب في صدر ا لإسلام. ويذكر إن الذي قام بوضع مخطط الأنساب وبتسجيل القبائل والعشائر وفق الخطة التي أشرت إليها، هو "عقيل بن أبي طالب"، وهو من الثقات في معرفة الأنساب، ومعرفة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وان الذي أشار عليه بتدوين النسب في الدواوين هو "الوليد بن هشام بن المغيرة" لما رآه من عمل الروم في تسجيل العطاء في بلاد الشام. ولم يقتصر التسجيل المذكور على تسجيل نسب القبائل وحدها، بل شمل ذلك نسب أهل القرى أيضاً، كنسب أهل مكة والمدينة والطائف وغرها. وذلك لأن سكانها وان كانوا من أصحاب المدر، وقد أقاموا واستقروا في بيوت ثابتة، إلا انهم كانوا كالأعراب من حيث الانتساب إلى الآباء والأجداد. وقد رأينا إن عمر كان قد بدأ بقوم الرسول، وقومه حضر، من أهل مكة، إلا انهم كانوا لا يختلفون عن أهل الوبر في التعلق بالأنساب وفي حفظها، لأن حياتهم الاجتماعية وان كانت في قرية، إلا أن غريزة المحافظة على النفس والدفاع عن الحقوق حملتهم مثل الأعراب على التمسك بالعصبية، بعصبية النسب، ليتمكنوا من المحافظة على الأمن والسلامة والمال، لعدم وجود حكومة قوية تقوم اذ ذاك بتاًمين هذه الواجبات. ثم إن هذه الأماكن محاطة بالأعراب، وبين أهل مكة من كان شبه حضري، وبيئة مثل هذه لا بد لها من الاحتماء بعصية النسب، وبالتزاوج مع الأعراب، لتكوين رابطة دموية، تؤدي إلى عصبية تضطر الطرفين إلى الدفاع عن مصالحهما المشتركة وتكوين كتلة واحدة تستجيب للنخوة ولنداء الاستغاثة في ساعة الحاجة والضرورة. ولهذا كان لتزاوج عند العرب أهمية كبيرة في السياسة. ومن هنا نظر سادات القوم والملوك إلى التزوج من بنات سادات القبائل الكبيرة نظرة سياسية في الدرجة الأولى وذلك لشد عضدهم ولتثبيت ملكهم ولضبط القبائل، وبضبطها يستتب الأمن وينتصر على الأعداء. وقد كان لزواج معاوية في الإسلام من "كلب" أثر كبير في السياسة الأموية وفي تثبيت ملكه وملك ابنه يزيد وملك مروان الذي انتصر بهم في معركة "مرج راهط" على القيسيين. وعلى الرغم من التسجيل المذكور الذي كان للعطاء، أي لأغراض حكومية رسمية، فان أنساب القبائل لم تثبت ولم تستقر إلا بعد ذلك بأمد. وآية ذلك ما نجده من خروج قبائل في العصر الأموي من نسب قديم، ود*********ها في نسب آخر جديد. وقد كان شروع النسابين في تسجيل علمهم وتسوينه، مما ساعد كثيراً ولا شك في تثبيت هذه الأنساب واقرارها،ولا سيما أنساب القبائل المشهورة المعروفة، وقد وصلت بعض كتب الأنساب، وطبع قسم منها. وقد وضع بعض المؤلفين، مثل الواقدي أبي عبد الله محمد بن عمر المتوفى سنة "207ه"، مؤلفاً في "وضع عمر الدواوين، وتصنيف القبائل ومراتبها وأنسابها"، إلا إنها ضاعت، فحرمنا الاستفادة منها، ولو بقيت مثل هذه المؤلفات اذن لكان لنا علم قيّم ورأي في كيفية تصنيف القبائل في تلك الأيام. وقد كان بعض النسابين قد تخصص بنسب جماعة من العرب، جماعة قومه ومن يرتبط بهم في الغالب. مثل "الزبير بن بكّار" صاحب "كتاب نسب قريش وأخبارها"، ومثل "عقيل بن أبي طالب"، وكان قد تخصص بنسب قريش، ومثل "أبي الكناس الكندي"، وكان أعلم الناس بنسب كندة، ومثل "النجار بن أوس العَدْواني"، وكان من أحفظ الناس لنسب "معد ابن عدنان"، ومثل "عديّ بن رثاث الإيادي"، وكان عالماً بإياد، ومثل "خراش بن إسماعيل العِجْلي"، وكان عالماً بنسب ربيعة. وعن هؤلاء وأمثالهم أخذ أهل الأنساب علمهم بالأنساب، ووضعوا كتباً في نعشا القبائل أو في أنساب العرب، أو في انساب جماعة منهم. ولتسجيل "عُمَر" للأنساب شاًن كبير بالنسبة إلى الباحثين في تطور النسب عند العرب، لأنه ثبت بذلك الأسس ووضع القواعد للنسابين في الإسلام وقيل من الاضطراب الذي كان يقع في النسب، بسبب الاختلاط، وعليه سار المسلمون في تقسيم العرب إلى أصلين. ولا بد أن يكون لهذا التقسيم أصل قديم، يرجع إلى ما قبل عمر. أقره الخليفة، وجعله أساساً له في التقسيم الذي بقيا مرعياً متعارفاً عليه بين النسابين إلى اليوم. ويمكن أن نقارن هذا العمل، أي تسجيل النسب وتثبيه في سجلات، بالعمل الذي قام به "عزرا" في تثبيت أنساب اليهود وتدينها، وفي تدوين انساب الغرباء، لتستقر بذلك الأنساب فسار من جاء بعده من النسابين في تعيين النسب على أساس ذلك التدوين. |
وفي القرآن الكريم آيات تشير إلى عناية القوم بأحسابهم وأنسابهم، ولكنه لم يتعرض لبيان وجهة نضرهم بالنسبة إليها، ولا يشعر في موضع ما منه بوجود تلك الفكرة التي ألحّ على وجودها أهل الأخبار، وهي انقسام العرب إلى ثلاث طبقات أو طبقتين، ووجود نسبين أو جملة أنساب للعرب، ولم يرد فيه اسم "عدنان" ولا "قحطان"، ولا أي من هذه الأشياء التي يتمسك بها أهل الرواية والأخبار، ويقصونها لنا على أنها من الحقائق الثابتة في أنساب العرب، وعلى أن العرب كانوا حقاً من جدّين هما: عدنان وقحطان.
بل كان ما ورد في القرآن يشعر أن العرب كانوا ينظرون إلى أنفسهم أنهم من جد أعلى واحد، هو: "إبراهيم" وأن "إبراهيم" أبو العرب: "وجاهدوا في الله حق جهاده. هو اجتباكم. وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم. هو سماكم المسلمين ...". فلم يفرق بين عرب "قحطانيين وعرب عدنانيين. ورُوي: إن الرسول قال: "كل العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام". بل حتى الشعر الجاهلي، لا نجد فيه إشارة واحدة تفيد اعتقاد الجاهليين بوجود أصلين أو ثلاثة أصول أو أكثر لهم. وكل ما ورد فيه هو فخر بقحطان وفخر بعدنان أو معدّ أو غير ذلك من الأسماء التي تعد من أسماء الأجداد التي ينتهي إليها "الشعب" أو "الجذم". وأما التفصيلات الأخرى والأسماء الواردة في تحب النسب أو الأخبار والتواريخ، فهي من روايات الإسلاميين. ثم إن من الشعر الجاهلي ما لا يصح أن يكون جاهلياً، ومنه ما قيل قبل الإسلام، ولا يصح كل الشعر الجاهلي أن يكون شاهداً على آراء أهل الجاهلية البعيدين عن الإسلام. كذلك لا نجد في شعر الجاهلية سلسلة نسب شحطان أو عدنان. ولا نجد في الأخبار ما يفيد وقوف أهل الجاهلية عليها ر وهي سلسلة أخذت اسماؤها من التوراة، وبعضها أسماء محرفة موضوعة على شاكلة الأسماء التوراتية. أما في الحديث النبوي، فقد ورد أن الرسول انتسب إلى "أسد"، وهو والد "عدنان"، ثم قال: "كذب النسابون". و في كل ذلك دلالة على أن أسماء آباء قحطان وعدنان، إنما دونت وتثبت في الإسلام. أما قبل الإسلام، فلعل بعضهم وفي أيام الرسول، كان قد تلقن من اليهود نسب قحطان، وان بعض اليهود لقن العرب نسباً لعدنان، فلما لاكت الألسنة تلك الأنساب، وسمعها الرسول قال: "كذب النسابون". أما أسماء أبناء قحطان وعدنان فما دون ذلك، فإنها أسماء عربية في الغالب، و ينقطع منها أثر التوراة وأثر الأسماء التوراتية، مما يدل على إن النسابين العرب كانوا على علم وبصيرة بتلك الأسماء، وأنها كانت معروفة عندهم. وهي أسماء لا ترد في التوراة ولا خير لها عند أهل الكتاب. وقد ذهب "دوزي" إلى وجود فروق أساسية بين القحطانيين و العدنانيين، حتى ذهب إلى وجود اختلاف بين نفسهية كل جماعة من الجماعتين. وأنا لا أريد أن أنكر عليه وجود العداء الذي كان قد استحكم بين القبائل التي تنتسب إلى معد أو إلى قحطان، ولا أريد أن أنكر عليه نهجا شعراء اليمن على قبائل معد، أو عدنان، ولا نهجم شعراء عدنان على قبائل اليمن المنتمية إلى قحطان، ولا أريد أن أنكر افتخار اليمانيين بانتسابهم إلى اليمن، ولا افتخار العدنانين بانتسابهم إلى عدنان أو مضر أو معد أو غير ذلك من أسماء الشعوب والأجذام، لا أريد أن أنكر شعر "امرىء القيس" في افتخاره بنسبه في اليمن، ولا أن أنكر شعر غيره من الشعراء اليمانيين أو الشعراء العدنانيين في الافتخار باليمن أو بمضر أو بمعد. ولكنني لا أريدّ أن أنكر في الوقت نفسه افتخار القبائل القحطانية بعضها على بعض، وافتخار القبائل العدنانية بعضها على بعض، وهجاء القبائل القحطانية بعضها لبعض، وهجاء القبائل العدنانية بعضها لبعضها هجاء لا يقل عن هجاء اليمن لمعد أو هجاء معد لليمن. |
فهل يصح أن يتخذ هذا الهجاء سبباً لوضع نظرية في اختلاف أجناس هذه القبائل? وهل يصح أن نجعل هذا الهجاء حجة على تباين أصل القحطانيين، وعلى تباين أصل العدنانيين ? إن جاز ذلك، وجب علينا إذن إعادة النظر في كل ما هو مكتوب عن أصول القبائل وفي كل ما هو مدوّن في كتب النسب والأخبار.
هذا "سلامة بن جندل السعدي"، وهو من مضر، يحل في شعره على معدّ، ويهجوها هجاًء مراً، وهذا "قي س بن الخطيم" لسان الأوس يحمل على الخزرج، ويردد ذكريات الأيام التي كانت بين الأوس والخزرج بمثل الشدة التي تجدها في شعر الهجاء الذي قاله العدنانيون في القحطانيين، والقحطانيون في العدنانيين. إنه ذكر تلك الأيام لا لمجرد الفخر والتباهي، بل ليثير في نفوس الأوس الأحقاد القديمة، وليزيد في تلك النيران نيراناً. لقد ذكرهم "بيوم الربيع"، وذكرهم ب "يوم السرارة"، وذكرهم ب "يوم مضرس ومعبس"، و هو يوم دارت فيه الأيام دورنها على الأوس، فقتل منهم عدد كبير، وانهزم أكثرهم إلى بيوتهم وآطابهم، حتى خرج الناس من طوائفهم إلى مكة يستعينون على الخزرج، وذكرهم بأيامهم الأخرى. كل ذلك بلهجة عنيفة شديدة، ليس فيها لين ولا رفق. إنه ينظر إلى الخزرج نظرة عداء وحقد، نظرة تشعر منها أن الأوس جنس وأن الخزرج من جنس بعيد آخر. لقد ذكر قريشاً بخير، وذكر إنها ستحمل عنهم حرب الخزرج، وذكر أنهم لو التحقوا بأبرهة اليماني أو بنعمان أو عمرو، لنالوا من هؤلاء كلُّ قدير، ولجعلوا لهم جاهاً أي جاه. ذكر أبرهة حاكم اليمن، وذكر غسان ولخماً، وذكلر أهم من ذلك كله قريشاً على إنها ستحمل الحرب وستقابل الخزرج عما قريب. وقريش من عدنان، والأوس والخزرج من قحطان، ولم نجد في شعره ما يذكر برابطة النسب بين الخزرج والأوس. ولم برد في شعره اسم قحطان أو عدنان. والقصيدة التي ذكر فيها هذا اليوم هي من أقدم قصائد هذا الشاعر الذي اضطرت قبيلته "للظفر"، ومعها "عبد الأشهل" إلى مغادرة يثرب والتفتيش عن حليف يساعدها في العودة إلى ديارها، فذكر قيس قريشاً، وكأنه يذكر قبيلة قريبة من قبيلته، مع إنها من نسب آخر في رأي النسابين. وفي كتب الأدب والدواوين شعر كثير ينسب إلى شعراء جاهليين وشعراء مخضرمين وشعراء إسلاميين، فيه هجاء عنيف من شاعر قحطاني لقبائل قحطانية، ومن شاعر عدناني لقبيلة عدنانية، وفيه مدح وفيه إغراق من شاعر قحطاني لقبائل عدنانية، وهجوم عنيف على القحطانيين، وهكذا. ولو أردنا شرح ذلك وسرد الأمثلة، لأخذ ذلك منا وقتاً طويلا يخرجنا عن صلب الموضوع، وينقلنا إلى أمور أخرى لا صلة لها بهذا البحث. ثم إن علينا أن نحسب حساباً لأمر هذا الشعر المروي في المدح والفخر وفي الذم والهجاء، وهو عندي أوسع باب من أبواب الشعر محتمل النقد، و إثارة الشكوك حوله. وقد خبرنا من الكتب أن القبائل كانتّ تستأجر الشعراء لقول المدح أو الذم، و إنها كانت تعد الشاعر منحة من منح الله على القبيلة، لأنه لسانها الناطق والذائد عنها بشعره، يدافع عن قبيلته، و يهاجم أعداءها،ويتهمهم بكل ما يصل إليه فنه من الهجاء ورمي التهم، كائنين ما كانوا قحطانيين أو عدنانيين. وقد اقتضت طبيعة الخصومة التي زادت حدتها في الإسلام بين يمن ومضر وضع شيء كثير من هذا الشعر شعر المنافرة والمفاخرة بين عدنان وقحطان، وهذا أمر وقع، مفروغ منه، لا شك في صحته وثبوته، اقتضته ظروف السياسة، فيجب الانتباه له حين التحدث عن نزاع قحطان وعدنان. وترينا الأخبار أن ما نسميه بنزاع قحطاني وعدناني لم يكن شديداً في الجاهلية بين القبائل التي كانت تقيم في الأنحاء الشمالية من جزيرة العرب، أي بين تلك القبائل التي رجع النسابون نسبها بحق أو بغير حق إلى عدنان أو قحطان، بمثل تلك الشدّة التي تظهر في النزاع الذي تحدثوا عنه بين القبائل التي كانت تعيش في اليمن أو في الحجاز. وهذا أمر ذو بال، يجب أن يحسب له كل حساب عند الحديث عن نزاع عدنان وقحطان. وترينا الأخبار كذلك أن الخصومات التي وقعت بين القبائل العدنانية نفسها، أو بين القبائل القحطانية نفسها، لم تكن أقل عنفاً وضراوةً من ذلك النزاع الذي وقع بين من نسميهم بالقحطانيين ومن نسميهم بالعدنانيين. لقد اتخذ شكلا عنيفاً،شكلاً يجعلك تشعر أن تلك القبائل كانت تشعر إنها قبائل متباعدة لايجمعها شمل، ولا يربط بينها نسب، ولا تجمعها جامعة دماء على النحو الذي يرويه ويذكره أهل الأنساب والأخبار. والغريب أنك في كل ذلك النزاع المرء العنيف، لا تسمع فيه انتساب كل العرب إلى عدنان أو قحطان، و إنما تسمع فيه فخراً بأسماء القبائل أو بأسماء الأحلاف الداخلة في عدنان أو في قحطان، تسمع فيه اسم "معد" أو اسم "يمن" أو "نزار" أو "مضر" أو غير ذلك، ولا تسمع فيه اسم الجدًين الأكبرين المذكورين. فماذا يعني هذا ? وعلام يدل ? ويمن عند أهل الأنساب والأخبار وفي العرف، كناية عن "قحطان"، و "قحطان" عندهم أيضاً و في العرف كناية عن "يمن" وعن الشعوب التي ترجع نسيها إلى "يمن" 0 أما "معد" و "مضر" و "نزار"، فكناية عن "عدنان" أو عن أحلاف من أحلاف عدنان. وأنت إذا ما أردت أن ترسيم حدوداً فاصلةٌ بين "قحطان" و "عدنان"، أي بين "يمن" و "معد"، فإنك تستطيع أن ترسمها بسهولة إذا ما اعتبرت "قحطان" كناية عن اليمن، وان "عدنان" كناية عن "قريش" والقبائل التي ترجع نسبها إلى نسب قريش. وحدود أرض قريش وحدود أرض اليمن معروفة واضحة. أما إذا أردت إن ترسم حدوداً فاصلة، وأن تضع معالم واضحة بينة بين القبائل القحطانية والقبائل العدنانية، استناداً إلى روايات أهل الأنساب والأخبار وإلى الشجرات التي رسموها لأنساب العرب طرّاً، فإنلك ستخفق حتماً، وسيخيب عملك من غير شك. ذلك لأن أهل الأنساب لم يسيروا في تقسيمهم العرب على وفق قواعد ثابتة وأسس واضحة مرسومة، مثل اختلاف في ملامح جسمانية، أو تمايز في أمور عقلية أو نفسية أو لغوية، أو اختلاف في مواقع جغرافية، بل ساروا وفقاً للعرف والشائع، فسجلوا الأنساب على وفق الشائع بين الناس عن النسب في ذلك العهد. وأنت إذا أردت تطبيق ما عندك من علم في "الأثنولوجيا" وفي "الأنتروبولوجي" وفي العلوم المشابهة الأخرى، على التقسيم الثنائي للعرب، فستجد نفسك حائراً تائهاً لا مجال لقواعد علمك في هذا المكان. فبين القبائل التي تنتمي إلى "قحطان" مثلاً تباين كبير في الملامح وفي العقلية وفي اللغة، ويجعل من غير الممكن تصور وجود وحدة دموية تجمع شمل هذه القبائل، وجدّ واحد انحدر من صلبه هؤلاء، وبين القبائل العدنانية اختلاف كذلك في الملامح وفي اللغة، يضطرك إلى القول بفساد نظرية النسابين في أصل هذه القبائل. ولا بد عندئذ من اعتبار هذا انسب رمزاً أخذ من صراع قديم، أو من أحلاف قديمة، فصير جدّ ين لجماعتين. وكيف تتمكن من إقناع الباحث الحديث في العلوم المذكورة بوجود وحدة في الملامح الجسمية وفي الصفات العقلية، ووحدة في اللسان بين القبائل القحطانية الجنوبية، الضاربة في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية وبين القبائل القحطانية الشمالية، مثل غسان ولخم وكلب وكندة وغيرها، على حين يرى بين الجماعتين فروقاً واضحة بينّة في كل شيء. حتى إنه يستطيع أن يشير إلى القحطاني الجنوبي حالاً عند رؤيته له، على حين لا يستطيع أن يميز القحطاني الشمالي من العدناني، ولا أن يعرفه إلا بالاستفسار منه. الصحيح إننا إذا أخذنا بالملامح وبالأمور الأخرى المذكورة، خلصنا إلى نتيجة تقول لنا إن الفروق بين القحطانيين والعدنانيين هي أقل جداً من الفروق التي نراها بين القحطانيين الشماليين والقحطانيين الجنوبيين. وهي نتيجة ليست في مصلحة أهل الأنساب بالطبع، تبين لنا إن قضية قحطان وعدنان قضية اعتبارية لا غير. |
بل خذ القحطانيين الجنوبيين، وهم لبّ القحطانية ومادتها، ترَ إن القحطاني الساكن على السواحل الجنوبية يختلف في سحنته عن القحطاني الساكن في المرتفعات والهضاب، والجبال. وان الساكن على السواحل المقابلة للسواحل الأفريقية يختلف في ملامحه الجسمية عن الساكن على السواحل المقابلة للهند، وان سكان حضرموت أو عمان أو مسقط يختلفون في الملامح والسحن عن إخوانهم القحطانيين الساكنين في اليمن وفي نجران وفي الأقسام الجنوبية من المملكة العربية السعودية. فهل يكون هذا الاختلاف دليلاً على قحطانية بالمعنى الذي يزعمه أهل الأنساب ?
ولقد ذهب بعض الباحثين في علم الأجناس البشرية "الأنتروبولوجي" "Anthropology" إلى إن العرب الجنوبيين هم من أصل حامي، وان وطنهم الأصلي هو أفريقية. وقد ذهب بعض آخر إلى وجود شبه كبير في الملامح وفي الخصائص البشرية بين العرب الجنوبيين والقبائل الإفريقية الساكنة على الساحل الإفريقي من البحر الأحمر والصومال، إلا إنه نسب ذلك إلى إن تلك القبائل كانت عربية في الأصل، هاجرت من جزيرة العرب عن طريق باب المندب إلى أفريقية، فسكنت هناك. ومن ثم وقع هذا التشابه. بين تلك القبائل والعرب الجنوبيين. ورأى آخرون أن العربية الجنوبية هي مزيج من الأجناس البشرية واضح المعالم، وذلك منذ أقدم أيامها. فنرى فيها قبائل تشبه جماعة "الفيديد" "Weddid" الهندية، وهي من للسلالات الهندية القديمة، يسكن بعضها في أرض "سيهان" و "معارة" من حضرموت، ونرى فيها عناصر مما يطلق عليها اسم "الجنس الشرقي" "Orientalide Rasse"، وهو الجنس الذي يكثر وجوده بين العرب الشماليين، وعناصر أخرى تمثل إنسان حوض البحر المتوسط "Mediterranen Rasse" أو الأجناس الأوروبية، حيث وجد بعض السياح بين بعض قبائل اليمن جماعة من الناس لها عيونُ زرق وشعر أشقر وبشرة بيضاء أو تميل إلى البياض وملامح أوروبية بينة، وتتراوح نسبة هؤلاء بين 8 إلى 12 بالمئة. ووجد الباحثون بين قبائل العربية الجنوبية،جماعات لها ملامح آشورية وجماعات ذات ملامح تشبه ملامح سكان آسية الصغرى، وجماعات ذات ملامح أفريقية. وقد وجد الدكتور "سليمان أحمد حزين" أن بين أهل شمال اليمن وبين أهل جنوب اليمن إلى المحيط اختلافات بارزة في الملامح وفي المظاهر الجسمية يخرجنا البحث عنها هنا من حدود التأريخ العام. ووجد غيره مثل ذلك. كما وجد هذا الاختلاط بارزاً في بقايا الهياكل البشرية القديمة التي عثر عليها في العاديات. وما هذه المظاهر والملامح التي رأيناها من الجماجم وبقية الهياكل البشرية ومن أشكال التماثيل والصور، ومن دراسات الباحثين "الأنتروبولوجيين" للقبائل الحاضرة، إلا حكاية واضحة صريحة عن عملية امتزاج أجناس بشرية متعددة في العربية الجنوبية، بسبب الهجرات والحروب والاتصال البحري والتجارة وعوامل أخرى، ونجد مثل ذلك بالطبع بين من نسميهم بالعرب الشماليين. وسوف نرى إن الدول القديمة كانت تنقل البشر نقلا من مناطق إلى مناطق فتزرعهم فيها، وان أكثر أفراد الجيوش التي كانت ترسل لمحاربة القبائل أو للتوسع في الجزيرة كانت تبقى وتستقر في المواضع التي ترسل إليها، فتتطبع بطباع من نزلت بينهم، وتكون في النهاية منهم، أضف إلى ذلك الرقيق. وقد ذكر إن جماعة من "بني الحارث بن كعب" وفدت على الرسول، فنظر إليهم، فقال: " من هؤلاء الذين كأنهم من الهند?". وقد كان "قيس بن عمرو" الشاعر المعروف ب "النجاشي" من هؤلاء. وسواء أكان ما نسب إلى الرسول من قوله المذكور صحيحاً أم موضوعاً، فإن الأخبار تذكر إن بشرة "بني الحارث بن كعب"، كانت تميل إلى السمرة الشديدة، بل إلى السواد الذي يشبه سواد بشرة الإفريقيين، أفلا يحوز أن يكون أصلهم من إفريقية?. وقد عرفت جماعة كبيرة من أهل مكة بالأحابيش، لأن أصلهم من رقيق الحبشة والسواحل الإفريقية المقابلة لجزيرة العرب ? فدعوى وجود جنس "أنتروبولوجي" واحد أو جنسين منفصلين، لكل منهما خصائص جسمية وملامح "فسيولوجية" معينة للعرب، وبالمعنى العليم المفهوم اليوم عند علماء الأجناس، هي دعوى غير مقبولة، لأن البحوث العلمية والمختبرية لا تؤيدها ولا تثبتها، ولأن البحوث التأريخية الحديثة تعارضها أيضاً، وكل ما نقوله هو أن ما نسميه اليوم بالجنس هو جنسية ثقافية فكرية، لا جنسية دموية تقوم على وحدة الملامح والمظهر والدم. فما يذكره أهل الأنساب عن النسبين، وما يتصوره بعض الناس من صفاء الجنس العربي صفاءً تاماً ونقائه من كل دم غريب، دعوى لا يمكن الاطمئنان إليها في هذا اليوم. لن يضير العرب قول مثل هذا، فصفاء الأجناس البشرية صفاءً تاماً، من القضايا التي عجز حتى القائلون بنظرية العنصريات مثل النازيين عن إثباتها في هذا اليوم. وسيظهر ضعفها في المستقبل ظهوراً أوضح مما هو عليه الآن. لقد كان "نولدكه" أول من شك من المستشرقين في هذا النسب العام الذي وضعه أصحاب الأنساب للعرب، وكان أول من نبه على أثر اليمانيين في وضعه وفي محاولتهم رجعه إلى عهود قديمة قبل الإسلام. وذهب "هاليفي" إلى أبعد من ذلك، فرأى إن كل ما قيل في هجرة القبائل اليمانية إلى الشمال هو أسطورة، وان ما يزعم من انتساب تلك القبائل إلى اليمن هو حديث خرافة لا يركن إليه. ونحا مستشرقون آخرون هذا المنحى، فرأوا إن للنسابين يداً في ترتيب هذه الشجرة العظيمة للأنساب،أو الشجرتين بتعبير أصح: شجرة نسب أبناء قحطان، وشجرة نسب أبناء عدنان. ولذلك نهم لا يطمئنون إليها، ولا يصدقون بكثير من هذه الأنساب المروية وبالأخبار والروايات الواردة في هجرة القبائل القحطانية نحو الشمال. اذن، فقحطان ليس بجدّ لكل القبائل القحطانية المعروفة، وعدنان لم يكن جداً لجميع القبائل العدنانية، و إنما ما كنايتان عن مجموعة قبائل، تدعى عند العرب "بالحلف"، وقد أخذ أهل النسب قحطانهم من التوراة، وهو هناك كناية عن مجموعة قبائل مواطنها في العربية الجنوبية. أما "عدنان" فلم يرد اسمه في التوراة، ولا نعرف من أمره شيئاً في الزمن الحاضر، والظاهر إنه كناية عن حلف، ويظهر إنه ظهر للوجود قبيل الإسلام. وعدم وقوفنا على أخباره، لا يسوغ لنا نكران وجوده، فلعل الأيام تكشف لنا عن كتابات نرى فيها اسمه، كما حدث بالنسبة إلى أسماء أخرى شك فى أصلها بعض المستشرقين، ثم تبين إنها كانت معروفة، بدليل ورودها في بعض كتابات الجاهليين. ولا أعتقد إن التوراة ابتدعت فكرة "يقطان" ونسل يقطان، اذ لا يعقل تصور ذلك. والذي أراه إنها حكت نسباً كان يجمع شمل القبائل العربية المذكورة عند العرب، وصل خبره إلى العبرانيين فسجله كتبة التوراة في الأسفار، مع أنساب الشعوب. كما إنها أخذت من العرب أيضاً نسب "الإشماعيليين" على نحو ما كان م معروفاً يومئذ، وكذلك نسب أبناء "قطورة". فتكون التوراة قد ذكرت أنساب ثلاث مجموعات أو أحلاف عربية كبيرة، كانت قائمة في ذلك الزمن. و قد يكون من الخير الاتيان بأمثلة من أيام الإسلام، تساعدنا في شرح موضوع النسب عند الجاهليين وتفسيره. فإن الزمن وان تغير وتبدل في الإسلام وتباعد عن الجاهلية، إلا أن الأفكار القبلية بقيت هي هي عند تلك القبائل بالنسبة إلى النسب وتكوين الأحلاف. فقبيل ظهور الإسلام كان بين "يثرب" و "مكة" نزاع شديد. ولما هاجر الرسول إلى "يثرب" عرف أتباعه الذين تبعوه بالمهاجرين. وقد دامت الهجرة إلى عام الفتح: "فتح مكة". وأما أهل المدينة الذين آووا الرسول ونصروه، فقد عرفوا بالأنصار لانتصارهم للرسول ولتقديم مساعداتهم له وللمسلمين. وللقضاء على الخصومة، آخى الرسول بين الأنصار والمهاجرين. غير أن العداء عاد فتجدد بين الأنصار والمهاجرين، بعد وفاة الرسول، ويظهر أثره في شعر حسان بن ثابت والنعمان بن بشير والطّرمّاح بن حكيم، وهم شعراء يثرب وألسنتها، وفي الأشعار الأخرى التي جمعا في دواوين الأنصار. وقد صيّر النزاع المذكور لفظة "الأنصار" علماً خاصاً على أهل المدينة، حتى كادت تكون نسباً، واصطبغت الدعوة بصبغة يمانية، فنجد في شعر الأنصار فخراً باليمن، واعتزازاً بأصلهم اليماني، ومجاهرة بأنهم يمانيون صرحاء وبأنهم من أقرباء الغساسنة ومن ذوي رحمهم. كما انهم استعملوا لفظة الأنصار مقابل قريش ومعده ومضر ونزار، وأطلقوا على لسانهم حسان بن ثابت شاعر الأنصار، وشاعر اليمن، وشاعر أهل المقرى. ونبد في أيام معاوية وفي أيام ابنه يزيد قصصا عن هذا النزاع اليثربي المكي، النزاع الذي سمي نزاع الأنصار مع المهاجرين، أو نزاع الأنصار مع قريش، ويلاحظ إن هذا القصص لم يستعمل لفظة "مهاجرين" في مقابل "الأنصار" إلا نادراً، إنما استعمل الألفاظ المذكورة. وقد عرفت وفودهم فيه ب "وفود الأنصار" أو "الأنصار". فصارت تلك اللفظة وكأنها نسبٌ أو علم من أعلام القبائل، حتى تضايق من ذلك رجال قريش. قيل بينما كان "عمرو بن العاص" عند "معاوية" يوماً، إذ دخل عليه حاجبه يقول: "الأنصار بالباب"، فتضايق من ذلك عمرو، وقال: "ما هذا اللقب الذي قد جعلوه نسب? أرددهم إلى نسبهم". فقال له معاوية: إن علينا في ذلك شناعةً. قال: وما في ذلك ? إنما هي كلمة مكان كلمة، ولا مرد لها. فقال معاوية لحاجبه: أخرج، فنادِ: مَنْ كان بالباب من ولد عمرو بن عامر، فليدخل. فخرج، فنادى بذلك، فدخل من كان هناك منهم سوى الأنصار، فقال له: أخرج، فناد: من هنا من الأوس والخزرج، فليدخل. فخرج فنادى ذلك، فوثب النعمانَ بن بشير، فأنشأ يقول: يا سعد، لا تعد الدعاء، فما لنا نسب نجيب به سوى الأنصار نسب تخيره الإلهَ لقـومـنـا أثقل به نسباً إلى الـكـفـار إن الذين ثووا ببدر مـنـكـم يوم القلَيِب همُ وقود الـنـار وقام مغضباً. فبعث معاوية، فرده، وترضاه وقضى حوائجه وحوائج من كان معه من الأنصار. وكان النعمان بن بشير حامل لواء الأنصار قد غضب في مجلس من مجالسه مع معاوية، ولاحظ معاوية عليه الغضب فضاحكه طويلاً، ثم قال له: " إن قوماً أولهم غسان، و آخرهم الأنصار، لكرام". وكان أهل يثرب يلحقون نسبهم بنسب غسان، ويرجعون نسهم ونسب غسان إلى الأزد. ونسب الأزد إلى اليمن. |
لقد كان من المعقول استعمال لفظة "المهاجرين" في مقابل "الأنصار"، إلا أن الجانبين لم يستعملاها إلا قليلاً، و إنما استعملا لفظتي قريش ومعد، كما استعملا "قريشاً" في مقابل "يمن". وقد افتخرت قريش بمعد، وبالنبوة. فأجابهم الأنصار باًن أم الرسول من بني النجار أخوال النبي، وهم من المدينة، وبأنهم كانوا أول من آمن به ونصره، وبأن المتنبيين كانوا من قبائل معد.
ولو كتب لمصطلح "الأنصار" بالبقاء، ولو كان عهد التدوين بعيداً عنه، لصار ولا شك نسباً من الأنساب، ولصارت اللفظة اسم أب لقبيلة، كما صارت الألفاظ المذكورة التي خلدت لأنها الألفاظ الجاهلية، فلما صار التدوين، كان الناس يتداولونها على أنها أنساب وأسماء. واستعملت لفظة "اليمانية" في مقابل "النزارية"، في العصر الأموي. ويظهر إنها تغلبت على لفظة "الأنصار" وقضت عليها. وهي تعني القبائل التي ترجع أن أنسابها إلى اليمن. أما "النزارية" فقد عنت كل القبائل العدنانية. وقد كان بين الحزبين نزاع شديد. ولكلً شيعة نسابون ومدافعون ومهاجمون. وقد أثر هذا النزاع تاثيراً خطيراً في وضع الأنساب. ويرجع بعض الباحثين انقسام العرب إلى قحطانيين و عدنانيين إلى هذا النزاع: نزاع "يثرب" ومكة قبل الإسلام، ويرجعه آخرون إلى التنازع الطبيعي الذي هو بين البداوة والحضارة. فقد كان أهل يثب أي اليمن كما يقولون أصحاب حضارة وملك. أما أهل مكة ومن والاهم، فقد كانوا أعراباً أو شبه أعراب. ومن هنا اختلفت طبيعة أهل يثرب عن طبيعة أهل مكة، ووقع النزاع والتنافس بين الجماعتين، وتحول إلى نسبين. وزعموا إن هذا النزاع هو نزاع الحظارة مع البداوة، نزاع أهل المدر مع آهل الوبر، نزاع "بني مدراء"، أو "أهل القارية" كما يقال لهم أيضاً، لأنهم "قارون" أي سكان القرية والقرى مع أهل البادية أي البادون نزلة البادية. قالوا: ومن هنا قيل: الحضر خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، و "أهل الحاضرة" و "أهل البادية" و "الحاضرة"، خلاف البادية وهي المدن والقرى والريف، وهو تقسيم، يرونه، قديماً، يرجع إلى الجاهلية. روي أن الرسول قال، حين وفد عليه قيس بن عاصم: "هذا سيد أهل الوبر ". و نجد مثل ذلك في النصوص اليمانية الجاهلية، إذ أشارت إلى الأعراب كطبقة خاصة قائمة بنفسها، تمتاز عن الحضر المستقرين. |
ومن ثم كانت غالبية القبائل العدنانية التي يذكر أهل الأخبار أسماءها قبائل أعرابية، أي قبائل بدوية، أو قبائل غلبت البداوة عليها، وغالبية القحطانية قبائل مستقرة أو قبائل شبه حاضرة تنخت في أماكن ثابتة ومالت إلى حياة الحضارة. ولما كان الحضر أرقى فكرياً من أهل الوبر، صارت إليهم السيادة في الغالب، فتحكموا في القبائل العدنانية، وملكوا القبائل المعدية. فحكم المناذرة والغساسنة وآل كندة وغيرهم ممن يرجع نسبه النسابون إلى قحطان، قبائل عدنانية، ولم يحكم العدنانيون القحطانيين قبل الإسلام.
هذا هو رأي من يرى أن القحطانية والعدنانية كفاية عن الحضارة والبداوة، وتعبر عن أهل المدر وأهل الحضر. يستدلون على رأيهم هذا بما قلته من غلبة الحياة الحضرية والاستقرار على القبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى قحطان، وغلبة البداوة أو شبه البداوة على القبائل العدنانية. وللحكم على هذه النظرية، يجب تكوين جدول بأسماء القبائل الجاهلية العدنانية منها والقحطانية، ودراسة أحولها الاجتماعية والمواضع التي عاشت فيها في مختلف الأزمنة، وعند ذلك نستطيع الحكم على ما فيها من قوة أو ضعف، فإن في القحطانيين قبائل متبدية، وفي العدنانيين قبائل مستوطنة وأصحاب قرى. ولهذا لن تصدق تلك النظرية إلا بمثل هذه الدراسة. ولفهم النزاع القحطاني العدناني، أو نزاع يثرب ومكة، لا بد من البحث عن موارد جاهلية و إسلامية نستعين بها على فهم طبيعة هذا النزاع. أما الموارد الجاهلية، أي الكتابات، فليس فيها حتى الساعة شيء ما محدثنا عن هذا النزاع، وأما الموارد الإسلامية، فإن شعر حسان بن ثابت، أو الشعر المنسوب إلى هذا الشاعر بتعبير أصدق واصح، هو المرجع الأول الذي يحدثنا عن طبيعة هذا النزاع أو التحاسد الذي كان بين مكة ويثب قبل ظهور الإسلام وعند ظهوره، إذ كان حسان نفسه من المناضلين فيه الحاملين للواء يثرب في نزاعها مع مكة. ونرى القحطانيين يروون شعره ويذكرونه في افتخارهم على العدنانيين. وقد حمل شعره جلّ مواضع فخر قحطان على عدنان، ومفاخر أهل يثرب على أهل مكة، حتى نستطيع أن نقول إنه أحد نجاة النزاع القحطاني العدناني، باعتبار إنه أقدم مشارك فيه يصل خيره إلينا، وأن أكثر ما تذكره القحطانية من دعاوى مركزة في شعر هذا الشاعر مذكورة فيه. وقد وصل جلّ شعر حسان إلينا، وطبع في ديوان. راجعناه وراجعنا ما يحمل من شعر، فلم نجد فيه ذكراً لعدنان، و إنما نجد فيه اسمي "قحطان" و"معد". ولم "رد فيه اسم الأول إلا مرة واحدة في قوله: فلو سُئِلَتْ عنه معد بأسرهـا وقحطان أو باقي بقية جرهما وأما اسم الثاني، أي "معد"، فقد ورد في مواضع بلغت سبعاً في الديوان. غير إننا نرى في الجزء الأول من "الإكليل"، أبيات شعر نسبها "الهمداني" لحسان، ورد فيها ذكر لقحطان، وفخر به، وانتسب إليه: لقد كان قحطان العلا القرم جدّنا له منصب في يافع الملك يشهر ينال نجوم السعدِ إن مـدّ كـفـه تفلّ أكف عند ذاك وتـقـصـر ورثنا سناءً منه برزاً ومحـتـداً منيف الذرى فخر الأرومة يذكر ونرى أبياتاً أخرى من هذا النوع من الفخر، في مكان آخر من هذا الكتاب، نسبها أيضاً هذا الشاعر، هي هذه: فنحن بنو قحطان والملك والـعـل ومنا نبـيِّ الـلـه هـود الأخـاير وإدريس ما إن كان فـي الـنـاس مثله ولا مثل ذي القرنين أبناء عابر وصالح والمرحوم يونس بعـد مـا ألات به حوت بأخـلـب زاخـر شعيب و الياس وذو الكفل كلـهـم يمانون قد فازوا بطيب الـسـرائر ونرى أبياتاً أخرى نسبها "الهمداني" إلى "حسان" أيضاً، فيها نشر بقحطان وبقوم الشاعر، رواها على هذا النحو: فمن يك عنّا معشـر الأزد سـائلاً فإنا بنو الغوث بن نبت بن مالـك ابن زيد بن كهـلان نـمـا سـبـأ له إلى يشجب فوق النجوم الشوابك ويعرب ينميه لقحطان ينـتـمـي لهود نبيً الله فـوق الـحـبـائك يمانون عاديون، لم يلتـبـس بـنـا مناسب شابت من إلـى وأولـئك والأبيات المذكورة، لا يمكن أن تكون من نضم حسان، فأسلوبها غير أسلوبه في شعره، وفي بعضها ركة وضعف، ولفظة "المرحوم" عن الاصطل*********ت الحادثة المتأخرة، كما إن التفاخر بالأنبياء المذكورين لم يكن معروفاً على عهده. وأما الشعر المبتدئ بهذا البيت: فمن يك عنا معشر الأزد سـائلاً فإنا بنو الغوث بن نجت بن مالك ففيه إضافات لا تجدها في الديوان. وفي المضاف إليه تباين ظاهر مع أسلوب حسان في شعره، وركة بينة، وطابع الصنعة ظاهر عليه. وقد ورد في ديوانه على هذا النحو: فإن تك عنا معشر الأسد سـائلاً فنحن بنو الغوث بن زيد بن مالك لزيد بن كهلان الذي نـال عـزّه قديماً دراري النبوم الشـوابـك إذا القوم عدّوا مجدهم وفعالـهـم وأيامهم عند التقاء المـنـاسـك وجدت لنا فضلاً يقر لنا بـه إذا ما فخرنا كل باق وهالك فأنت ترى أن الأبيات في الديوان خالية من نسب "سبأ" و "يشجب" و "يعرب" و "قحطان" و "هود" وغير ذلك، وان أسلوب صياغة هذا النظم لا يمكن أن يكون من أسلوب شاعر جاهلي أو شاعر مخضرم، بل لا بد أن يكون من نظم المتأخرين، إضافته بعض المتعصبين لليمن إلى شعر حسان، ونظمه على وزن البيت الأول وطريقته، يكون أوقع في النفس، ودليلاّ على قدم ذلك النزاع. ولا أعتقد إن هنالك حاجة تدعوني إلى إلفات نظر القارئ إلى أن الأبيات المتقدمة الواردة في ديوانه، "هي الأبيات المتقدمة عليها نفسها، أي الأبيات التي أخذتها من كتاب الإكليل للهمداني رويت بشكل آخر، بشكل يرينا إن لم الرواة مهما حاولوا اظهار انهم على حرص تام في المحافظة على أصالة الشعر والمحافظة على الأصل، فإنهم لا يتمكنون من ذلك ونسب بعض الرواة إليه هذه الأبيات: تعلمتم من منطق الشيخ يعرب أبينا، فصرتم معربين ذوي نفر وكنتم قديماً ما بكم غير عجمة كلام، وكنتم كالبهائم في القفر وهي أبيات لم ترد في ديوانه، شْعر إن "يعرب"، وهو جد القحطانيين، هو أول من أعرب في لسانه، وأول من نطق بالعربية، فهو أول متكلم بها، وأول من أوجدها وكوّنها، وان العدنانيين تعلموها من أبنائه، بعد إن كان لسانهم لساناً أعجمياً. وأما من ناحية صحة نسبتها إلى شاعر الإسلام وشاعرا وفي الأنصار، فإن في أسلوب نظمها وفي صياغة البيت الأول وجملة "منطق الشيخ يعرب"، ما فيه الكفاية لإظهار إنها مصنوعة، حملت عليه حملاً، ولا يمكن أن يكون هذا النظم من نظم أول الإسلام، حتى وان كان من شاعر من شعراء أهل المدر في ذلك العهد. وزعم إن حسانا ذكر القيل "ذو ثات"، وهو من أقيال حمير، فقال هذا البيت: وفي هكر قد كان عز ومنعة و ذو ثبات قَيْلٌ ما يكلم قائله ولم يرد هذا البيت في ديوانه. أما أسلوب نظمه، فينبئك إن قائله يجب أن يكون شخصاً آخر من المتأخرين عن حسان، ممن كانوا يضعون الشعر على ألسنة غيرهم على نحو ما وضعوا على ألسنة التبابعة وآدم والجن. هذا ولحسان شعر لم يرد في ديوانه، بل ورد في موارد أخرى. منه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود، لأنه متحول وقد حمل على حسان وألصق به، ولم يغفل العلماء عنه، بل أشاروا إليه ونبهوا إن بعض الناس قد تعمدوا وضعه وحمله عليه لمآرب. قال الأصمعي في ذلك: " تنسب إليه أشياء لا تصح عنه. وهذا فيما يظهر صحيح، وكثيراً ما رأيت في سيرة ابن هشام أبياتاً لحسان من هذا القبيل يعقبها صاحب السيرة بقوله: وأهل العلم ينفيها عن حسان". وقد نسب الجمحي الوضع على حسان إلى بعض قريش للغض منه، فقال: "وقد حمل عليه ما لم بحمل على أحد. لمتا تعاضهت قريش، واستبّت، وضعوا عليه أشعاراً كثيرة، لا تليق به". وقد كان ذلك لتعرضه بهم، ولتعصبه المفرط ليثرب، وافتخاره بهم على قريش. هذا و مع إفراط "حسان" في التعصب ليثرب، لا نراه يذكر قحطان إلا مرة واحدة، أما عدنان فلم يذكره في شعره قط. ولهذه الملاحظة أهمية كبيرة، لتكوي ن رأي في فكرة "قحطان" وعدنان في ذلك العهد، إذ إنها تدل على إن القحطانية والعدنانية لم تكن عنده على النحو الذي صارت فيه فيما بعد، بعد اشتداد النزاع بين الأنصار وأهل مكة ومن حولها في خلافة بني أمية خصوصاً، وهم عصب العدنانيين، وانه في كل فخره بالنسب لم يتجاوز الأزد، ابناء "الغوث بن زيد بن مالك بن زيد بن كهلان"، وغسان و آل نصر. وأما بعد إسلامه، فقد حوّل فخره وتباهيه إلى فخر بالأنصار على قريش ومضر ومعد، أي أهل مكة، بنصرة قوم للإسلام، وبنصر النبي حين خذلوه وقاوموه. فكانوا ملوك الناس قبل محمد، فلما أتى الإسلام، كان لهم النصر في نصرته. ونجد هذا الفخر واضحاً قوياً في شعره، فهو فخر أهل يثرب على أهل مكة. فخر الأنصار على مضر ومعد وقريش، فلم يصل الفخر بقومه عنده إذن إلى حد الفخر بقحطان، أو باليمن كلها على عدنان. وأما ما ورد منه أكثر من ذلك، كما نرى في الأبيات المنسوبة إليه في الجزء الأول من الإكليل، إنه عندي من ذلك النوع المنحول الذي اضيف إليه. فالتكلف ظاهر عليه، والأسلوب مختلف عن أسلوبه، وهو من النظم المتأخر عن أيام حسان، من نظم وضّاح يتكلف قول الشعر ولا يحسن صناعته. خذ قصيدته التي تمثل منتهى فخره بقومه، نره يقول: ألم ترنا أولاد عمرو بـن عـامـر لنا شرف يعلو على كل مرتقـي? رسا في قرار الأرض، ثم سمت له فروع تسامى كل نجم مـحـلـق ملوك وأبناء المـلـوك، كـأنـنـا سوارى نجومٍ طالعات بمشـرق إلى أن يقول: كجفنة والقمقام عمرو بن عامرٍ وأولاد ماء المزن وابني مُحرّق وحارثة الغطريف أو كابن منذرٍ ومثل أبي قابوس ربّ الخورنق فلا تجد فخره بها يتعدى حدود الفخر بالأزد وبالغساسنة وآل نصر، أي ملوك الحيرة. وهو ما وجدناه في أشعاره الأخرى. وقد عاب في هذه القصيدة "قيساً" و "خندفاً" لأنهما قاومتا الرسول وآذتاه. مما يدل على أن هذين الاسمين كانا معروفين قبل الإسلام. هذا، وقد أضاف أهل الأخبار إلى قصيدة حسان التي مدح فيها الملك "جبلة بن الأيهم"، ومطلعها: لمن الدار أقفرت بمـغـان بين أعلى اليرموك والصمان هذا البيت: أشهرنها فإن ملكك بالـشـا م إلى الروم فخر كل يماني ولم يرد ذكر هذا البيت في الديوان. وهو بيت يتحدث كما ترى عن فخر باليمن: أصل الغساسنة، وأهل يثرب، وكل قحطان. وأغلب ظني إنه من الأبيات المدسوسة، وضعه أحد المتعصبين لليمن ودسّه في القصيدة. هذا وقد نسب إلى النعمان بن بشير الأنصاري شعر قيل إنه قاله في هذا الباب. |
ونسب إلى الطرماح بن حكيم مثل ذلك، وهو أيضاً شاعر من شعراء الأنصار. وعلينا أن ندرس شعرهما، وشعر أمثالهما، وشعر شعراء قريش أيضاً دراسة نقد وتمحيص نميز بها بين صحيحه وفاسده، لنتمكن بذلك من تكوين رأي علمي صحيح في القحطانية والعدنانية وتأريخ ظهورهما. ولو تيسر لنا ديوان الأنصار أو دواوين الأنصار، لزادت معارفنا، ولا شك، في هذا الباب وتمكنا من تكوين رأي في تلك العصبية القبلية بصورة أصح وأدق ولا شك.
لقد حارب الإسلام العصبية الجاهلية، وآخى الرسول بين المهاجرين والأنصار، وحالف بين قريش وأهل يثرب، ونهى عن أحلاف الجاهلية، وروي عنه إنه قال: "لا حلف في الإسلام"، لما ينتج عنه من فتن ومن قتال بين القبائل وغارات، ولأن الإسلام قد عوّض عن الحلف، وزاده شدة بنزوله. "وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة". وعدّ "التعرب" بعد الهجرة، أي أن يعود المرء إلى البادية ويقيم مع الأعراب، كبيره من الكبائر، حتى عدّ من يعود إلى موضعه من البادية بعد الهجرة كالمرتد. ومع ذلك، لم يكن من الممكن تنامي العصبيات، وغسل آثار الجاهلية، وطمس معالمها تماماً، فتحزبت القبائل وتكتلت، وكانت تحارب على إنها همدان، أو ربيعة، أو طيء، أو مضر، أو قريش، أو قيس، او الأزد، أو ربيعة.، أو تميم، أو غير ذلك من أسماء قبائل. القحطانية والعدنانية في الإسلام الحق إن ما نسميه قحطانية أو عدنانية إنما هو صفحة من صفحات النزاع الحزبي عند العرب في الإسلام، شاء أصحابه ومثيروه رجعه إلى الماضي البعيد، ووضع تأريخ قديم له، فجعلوا له أصولاً زعموا إنها ترجع إلى ما قبل الإسلام بكثير، ورووا في ذلك شعراً لا يخرج في نظرنا عن هذا الشعر الذي يحفظه الرواة على لسان آدم و هابيل وقابيل والجن. وفي هذا الصراع القحطاني العدناني العنيف شرع في تدوين الأنساب وتثبيتها في القراطيس والكتب. فكان لهذا الصراع ولوضع القبائل وتكتلاتها في هذا الوقت أثر خطير في تثبيت أنساب القبائل وتسجيلها، ليس في هذا العهد فقط، بل في تثبيت أنساب قبائل الجاهلية وتسجيلها أيضاً. إذ سجلت هذه الأنساب: جاهلية و إسلامية على الرأي السائد في النسب يوم شرع في التسجيل والتدوين، أي في أوج هذه العصبية الضيفة التي عمت الناس في صدر الإسلام. ومن هنا كان لا بد لفهم الفكرة القحطانية العدنانية من الإلمام بنزاع قحطان وعدنان في ا لإسلام. والذين قاموا بتسجيل الأنساب وتدوينها وتثبيتها في الكتب، كانوا هم أنفسهم من أصحاب العصبية لنزار أو لليمن ومن المتأثرين بالأحوال السياسية لذلك العهد. ولهذا نجد في أقوال بعضهم تحزباً وتطرفا وميلاً إلى تأييد فريق على فريق. ومن هنا كان لا يد لنا من التنبه لهذه العصبية، واتخاذ الحيطة والحذر عند دراسة هذا النزاع القحطاني العدناني. وقد استعملت في هذا العهد "مضر" في مقابل "الأزد"، كما استعملت الأزد في مقابل تميم، وورد "أهل اليمن" أو اليمانية. ولكننا قلما نسمع في نداء القبائل وأخبار هذه الفن أو الحروب التي وقعت في هذا العهد استعمال كلمة "عدنان" في مقابل "قحطان"، ويقال مثل ذلك في الأشعار أيضاً، في مثل شعر "الفرزدق" الذي استعمل كلمة "قحطان" في مقابل كلمة "نزار" وكلمة "لحن" في مقابل "نزار" أو "الأزد" في مقابل "نزار". كما استعمل الحكم بن عبدل "قحطان" في مقابل "معد". وقد ذكر الأعشى في شعر له: "ومن معدّ قد أتى ابن عدنان"، وذلك في مقابل "قحطان". وفي أيام معاوية وابنه "يزيد" و "مروان بن الحكم"، نالت "كلب" مركزاً سامياً، لتزوج معاوية امرأة من كلب، هي "ميسون بنت بحدَل"، فأصبحت هي والقبائل التي تؤيدها مقربة عند الخلفاء، مع أن الخلفاء من قريش، وقريش من قيس. وهذا مما أغضب قيساً المعروفة بعدائها لكلب. وقد كانت لفظة "قيس" في هذا العهد ترادف كلمة "معد" و "مضر" و "نزار". وأما "كلب"، فترادفه اليمن.وقد عرفت المعركة التي وقعت في "مرج راهط" بين مروان وابن الزبير بأنها معركة "قيس" و "كلب" لأن قيساً حاربت فيها عن "ابن الزبير". أما كلب، فقاتلت عن مروان، و قد أوجد هذا الانتصار حقداً كبيراً بين "قيس" وحلفائها من القبائل، وبين كلب وأنصارها من القبائل التي أدعت إنها من اليمن، فوقعت حروب بن قيس وكلب هلك فيها خلق كثير من الفريقين. ولعب دوراً مهماً في تكتل القبائل وفي تجمع القحطانيين والعدنانين. وقد اسهم الخلفاء الذين جاؤوا بعد "عبد الملك"، ويا للأسف، في هذا النزاع، متأثرين بعاطفتهم وبدمهم من الأمهات، فكان يعضهم يؤيد القيسيين إذا كانت أمهم من قيس، وكان آخرون يؤيدون "كلباً" إذا كانت أمهم من اليمن. وسار على هذه السياسة الولاة والعمال، فكانت النتيجة تكتل القبائل وانقسامها إلى معسكرين "قيس" و "يمن"، وتزعمت "أزدعمان" في البصرة و خراسان حزب "يمن" في مقابل "قيس" و "تميم". ووقعت وقائع دموية بين يمن و قيس، أنهكت العرب جميعاً، وصارت من جملة العوامل، التي عجلت بسقوط الأمويين. وحمل الشعراء مشاعل هذا النزاع، وأمدّوا ناره بوقود غزير. نظموا القصائد في مدح قيس وفي ذم يمن وذم قيس بحسب قبيلة الشاعر ونسبه. ساهم فيه الأخطل والكُميت ودِعْبل الخزاعي وجرير بن عطية بن الخَطَفَى التميميّ و إسحاق بن سويد العَدوَي وغيرهم، فكان مدح وكان ذم، وكان تباه وافتخار، وكان قذع وهجاء. وبدلاً من أن يتدخل الحكام و مسيرو الأمة في إخماد نار هذه الفتنة و إسكات الشعراء جمعاً للصف، ساهموا هم أنفسهم كما قلت في هذه المعركة وشجعوا المحاربين فيها، ففرقوا بين العرب بسياستهم هذه وأطمعوا الأعاجم فيهم، وجعلوا العرب يقاتل بعضهم بعضاً، وبذلك توقفت الفتوحات العربية الإسلامية، نتيجة لهذه السياسة المفرقة الخرقاء. ولم يقف هذا النزاع على التباهي بقحطان وعدنان وبالأيام وبالشجعان، بل تجاوز ذلك إلى التباهي بارتباط كل فريق بجماعة من الأعاجم بروابط الدم والنسب والثقافة، فافتخرت النزارية بالفرسّ على اليمانية، وعدوهم من ولد "إسحاق ابن إبراهيم" وافتخروا بإبراهيم جد العرب والفرس. ونظم "جرير بن عطية ابن الخَطَفَى التميمي"، في ذلك شعراً، جاء فيه: أبونا خليل الـلـه لا تـنـكـرونـه فأكرم بإبراهيم جداً و مـفـخـرا وأبناء إسحاق الـلـيوث إذا ارتـدوا حمائل موت لابسـين الـسّـنَّـورا إذا افتخروا عدّوا الصبهبذ مـنـهـم و كسرى وعدّوا الهرمزان وقيصرا أبونا أبو إسحاق بجـمـع بـينـنـا أب لا نبالي بعـده مـن تـأخـرا أبونا خليل الـلـه، والـلـه ربـنـا رضينا بما أعطـى الإلـهَ وقـدرا ومن هذا القبيل، قول إسحاق بن سويد العدوي: إذا افتخرت قحطان يوماً بسـؤدد أتى فخرنا أعلى عليها وأسـودا ملكناهم بداً بإسحـاق عّـمـنـا وكانوا لنا عوناً على الدهر أعبدا ويجمعنا والغر أبـنـاء فـارس أب لا نبالي بعده من تـفـردا وقول بعض النزارية: و إسحاق وإسماعـيل مـدا معالي الفخر والحسب اللبابا فوارس فارس وبنو نـزار كلا الفرعين قد كبرا وطابا ولم يقف النزاريون عند هذا الحدّ، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن هذا النسب قديم، وأن قرابة الفرس بالعدنانيين قديمة، وأن الفرس كانت في سالف الدهر تقصد إلى البيت الحرام بالنذور العظام تعظيماً لإبراهيم الخليل بانيه، وانه عندهم أجل الهياكل السبعة العظيمة والبيوت المشرفة في العالم، وأن رجلاً تولاه وأعطاه العدة والبقاء، واستشهدوا على صحة دعواهم بشعر زعموا أن قائله هو أحد شعراء الجاهلية: زمزمت الفرس على زمزم=وذاك في سالفها الأقدم وترتب على هذا وضع نسب الفرس يتصل بنسب العرب العدنانيين، فزعموا أن "منوشهر" الذي ينتسب اليه الفرس هو "منشخر بن منشخرباغ"، و "هو يعيش بن ويزك"، و "ويزك" هو اسحاق بن إبراهيم الخليل، واستشهدوا على زعمهم هذا بشعر، قالوا إن بعض شعراء الفرس في الإسلام قاله مفتخراً: أبونا ويزك وبه أسامي=إذا افتخر المفاخر بالولاده أبونا ويزك عبد رسول=له شرف الرسالة والزهاده أما "يعيش بن ويزك" جد الفرس الجديد، فهو "عيسو" "Esau"، وفي العبرانية "Usu"، ومعناها "مشعر" أو "خشن"، وهو شقيق يعقوب وجد الأدوميين في التوراة وابن إسحاق. وأما "ويرزك" فهو "يزك" أو "إيزك" "Isaac" "Icaak" وهو "إسحاق"، وهو في العبرانية "يصحق" "يصحك" "يصحاك" "Yishak" أي "الضحاك(. و يرى علماء التوراة إن الأصل اسم قبيلة كان يقال لها "يصحقيل" "يصحق ال" "يضحك ال" "Yishhakel" "Yishakil"، وهو والد "عيسو" و "يعقوب". وقد أسهم بعض الفرس أنفسهم في إذاعة هذا النسب ونشره، وقد استشهد على صحة دعواه بالأشعار المذكورة التي تفتخر بالفرس على اليمانية، وانهم ولد أبيهم إبراهيم. ولعلهم قالوا ذلك تقرباً إلى الحكومة، وهي عدنانية، ولعوامل سياسية أخرى، منها تقريب الفرس من العرب، وضمان تعاونهم مع الخلافة في وجه النعرات القومية التي ضهرت في إيران. |
ولم يكتف العدنانيون بقرابتهم للفرس و للإسرائيليين، بل زعموا إن الأكراد من أقربائهم كذلك، وانهم من نسل ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل، أو انهم من نسل ربيعة بن نزار بن معد، أو انهم من نسل مضر بن نزار، أو من ولد كرد بن مرد بن صعصعة بن هوازن، وانهم انفردوا في قديم الزمان لوقائع ودماء كانت بي نهم وبين غسان، وانهم اعتصموا بالجبال فحادوا عن اللغة العربية لما جاورهم من الاسم، وصارت لغتهم أعجمية، فذلك على رأي أسل الأخبار بدء نسب الأكراد.
وقد لقي هذا النسب الجديد للأكراد تشجيعاً من بعض الأكراد في أيام العباسيين، وربما في أيام أواخر الدولة الأموية كذلك، فأيدوه وانقسموا أيضاً فرقاً في شجرات النسب، فمنهم من أخذ بشجرة كرد بن مرد، ومنهم من أخذ بانتسابهم إلى سبيع بن هوازن، ومنهم من انتسب إلى ربيعة ثم إلى بكر بن وائل. وكان من الطبيعي أن يجعل القحطانيون أعداء الفرس من ذوي أرحامهم، وهم اليونان فقالوا: إن يونان أخ لقحطان، وإنه من ولد عابر بن شالخ، إنه خرج من أرض اليمن في جماعة من ولده وأهله ومن انضاف إلى جملته حتى و أقاصي بلاد المغرب فأقام هناك، وانسل في تلك الديار، واستعجم لسانه ووازى من كان هناك في اللغة الأعجمية من الافرنجة، فزالت نسبته، وانقطع نسبه وصار منسياً في ديار اليمن. وقالوا أيضاً إن الاسكندر من تبع. وكان من الطبيعي انزعاج العدنانيين من ربط نسب قحطان بيونان، فانبروا للرد عليه، وكيف يرضون أن يكون للقحطانيين أبناء عمّ على شاكلة اليونانيين، وقد كانوا أمهر من الفرس، ولهم دولة كبرى. فقال أحدهم، وهو أبو العباس ا لناشئ: وتخلط يوناناً بقحطان ضـلّةً لَعَمْري لقد باعدت بينهما جداً وأضاف القحطانيون الأتراك اليهم أيضاً، فزعموا أن معظم أجناس الترك وهم "التبت" من حمير، وأن التبع "شمر يرعش" أو تبعاً آخر ربتهم هناك، و أن "شمر يرعش" هو الذي أمرببناء "سمرقند"، إلى غير ذلك من أقوال لا ترضى العدنانيين بالطبع، وفي ذلك يقول "دِعْبلِ بن علي الخُزاعي" في قصيدته ألتي يردّ بها على "الكميت"، و فخر فيها بمن سلف من ملوكهم وسير في الأرض،وان لهم من الفضل ما ليس لمعدّ بن عدنان، فقال في شعره: همو كتبوا الكتاب بباب مَروٍ وباب الصين كانوا الكاتبينـا وهم جمعوا الجموع بسمرقندٍ وهم غرسوا هناك التبتينـا وأضافوا "الضحّاك" إليهم، وصيروه من "الأزد"، والأزد من اليمن، فهو يماني إذن أصيل. و "الضحّاك" هو "بيوراسب أ عند أهل الأخبار. وقد ملكوه ألف سنة. وهو بطل أسطوري عند الفرس. وقد أخذ أهل الأخبار "ضحّاكهم" هذا من "إسحاق"، كما أخذ العدنانيون "ويزكهم" من "إسحاق" فصيروه "منشخر" على نحو ما ذكرت. وقد قلت إنّ معنى "إسحاق" في العبرانية الضحّاك. فالقحطانيون فعلوا هذا فعل العدنانيين، لجأوا إلى إسحاق فصيروه "الصحّاك"، وبدلاً من أن يقولوا إنه "ويزك" من اسم "إسحاق" في العبرانية أخذوا معنى الاسم فصيروه اسماً عربياً هو الضحاك، وجعلوه قحطانياً من الأزد. وكان كل فريق يرد على مزاعم الفريق الآخر، حين يضيف إليه أمة من الأمم. فلما ادعى العدنانيون انهم هم و الإسرائيليون والأعاجم من نسب واحد، انرى "دعبل الخزاعي" يرد عليهم في قصيدة ساخرة يقول فيها: فان يك آل إسرائيل منكـم وكنتم بالأعاجم فاخـرينـا فلا تنسَ الخنازير اللواتـي مسخن مع القرود الخاسئينا بأيلة والخليج لهـم رسـوم وآثار قدمن وما محـينـا لقد علمت نزار إن قومـي إلى نصر النبوة فاخرينـا قال هذه القصيدة في الرد على "الحميت"، وهو لسان من ألسنة النزارية، وقد تعرضى فيها باليمانية وتهكم عليهم. حتى الموالي، وهم كما نعلم من أصل غير عربي، أسهموا في هذه المعركة، وحاربوا في الصفوف الأولى منها، تعصب كل منهم للجانب الذي دخل في ولائه. هذا "أبو نواس"، وهو مولى "بني حكم بن سعد العشيرة"، يتعصب للقحطانية ويدافع. كل قواه عنها، لأن "بني الحكم" من اليمن. وقد حمله تعصبه لهم على نظم قصيدة هجا فيها قبائل نزار بأسرها وافتخر بقحطان وقبائلها، وقد أوجعت النزاريين وآلمتهم، فشكوه إلى الخليفة الرشيد، وهو منهم، فأمر بحبسه بسببها، وقيل إنه حده لأجلها، وأولها: لست لدار عفـت وغـيرّهـا ضربان من قطرها و حاصبها ثم قال مفتخراً باليمن وذاكراً للضحاك: فنحن أرباب ناعـظ ولـنـا صنعاء والمسك في محاربها وكان منا الضحاك يعبـده ال خايل والطير في مساربهـا ثم يستمر فيقول في هجاء نزار: واهج نزارا وافرِ جلدتها وكشف الستر عن مثالبها وأثارت هذه القصيدة جماعة من النزارية، فردت عليه. وكان منهم رجل من "بني ربيعة بن نزار"، فقال يذكر نزاراً ومناقبها، واليمن ومثالبها في قصيدة أولها: دع مدح دار خبا و انتهى عهد معدّ بزعم عاتبهـا ثم استمر، فقال: فامدح معداً وافخر بمنصبها ال عالي على الناس في مناصبها وهتك الستر عن ذوي يمن أولاد قحطان غير هائبها وقد أنتج هذا النزاع القحطاني العدناني قصصاً وحكايات وشعراً دُوّن في الكتب، وأنتج "حديثاً" زعم أن قائله هو الرسول، قاله في مدح قحطان أو في مدح عدنان، وأحياناً في مدح القبائل، مثل: حمير ومذحّج و همدان وغسّان، و قبائل أخرى أو في مدح بيوتات معينة من مثل هذه القبائل. لقد تلوّن هذا النزاع بلون أدبي زاه لا يخلو من طرافة وإن كان قد أساء من الناحية السياسية إلى هذه الأمة أيما اساءة. فقد لوّن اليمانون تأريخهم القديم بألوان زاهية جميلة من القصص والحكايات والأخبار، فهم الذين زعموا أن قحطان هو ابن هود النبي، فأوصلوا نسبهم بالأنبياء، وهم الذين أوصلوا نسب قحطان إلى إسماعيل، فنّفوا بذلك أي فضل كان للعدنانيين على القحطانيين في الآباء والأجداد، وهم المسؤولون عن هذا التقسيم المشهور المعروف للعرب وجعل القحطانيين في الطبقة الأولى من العربية بالنسبة إلى العدنايين، وهم الذين نظموا في الإسلام تلك الأشعار والقصائد التي ذكرها الرواة على أنها من نظم التبابعة وملوك القحطانيين، وهم الذين ساقوا تلك الحكايات عن الفتوحات العظيمة لملوك اليمن وعن حكم القحطانيين للعدنانيين و استذلالهم إياهم. وقد استغل العدنانيون ظهور الرسول بينهم، فاتخذوا من هذا الشرف ذريعة للتفاخر والتباهي على القحطانيين. وقد أجابهم اليمانيون على ذلك بأفهم هم الذين كان لهم شرف نصرة الرسول وإعلاء كلمة الله، وهم الذين كوّنوا مادة الجيش الإسلامي، وهم الذين آووا الرسول وفتحوا مكة. و تمسك العدنانيون بأذيال إبراهيم وعدّوه جدهم الخاص بهم، مع إنه جدّ العرب عامة، كما في القرآن الكريم، ونفوا كل مشاركة للقحطانيين في هذا النسب الشريف. وقد كان لهم ما يساعدهم في تقوية حجتهم، فقد كان الرسول من صلب إسماعيل والرسول منهم، فإبراهيم هو أبو المختص بهم. ولرد دعوى الإسماعيليين هذه من اختصاص إسماعيل وإبراهيم بهم. وصل بعض رواتهم نسب قحطان بإسماعيل وإبراهيم، ولم يكتفوا بذلك فلا بد لهم من شرف زائد، ورجحان على العدنانيين الذين لم يبدأ ملكهم إلا في الإسلام، فاختصوا هوداً بهم، وجعلوه نبياً يمانيا. ثم لم يقبلوا بنبي واحد زيادة على الأنبياء الذين اختص بهم العدانانيون فأضافوا إليهم صالحاً النبي وقالوا: إنه من صميم حمير وإنه صالح بن الهميع بن ذي ماذن نبي حمير من آل ذي رعين، وزعموا أن ثقفياً كان غلاماً له، وحصلوا بذلك على نبي وطعنوا في ثقيف، وهم من العدنانيين في الوقت نفسه، وأضافوا إليهم نبياً آخر من صميم حمير سموه أسعد تبع الكامل بن ملكي كرب بن ج تبع الأكبر ابن تبع الأقرن، و قالوا إنه ذو القرنين الذي قال الله تعالى فيه: "أهم خيرُ أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين". وذكروا إنه كان من أعظم التبابعة وأفصح شعراء العرب، ولذلك قال بعض العلماء فيه ذهب ملك تبع بشعره، ولولا ذلك لما قدم عليه شاعر من العرب وقالوا: نهى النبي عن سبه، لأنه آمن به قبل ظهوره بسبع مئة عام، وليس ذلك إلا بوحي من الله عز وجلّ. وهو أول من كسا اليت، وجعل له مفت*********ً من ذهب. وأوردوا له أشعاراً لإثبات إيمانه بالرسول تمنى فيها لو أدرك أيامه إذن لآمن به، ولكان له وزيراً وابن عم، ولألزم طاعته كل من على الأرض من عرب وعجم، ورووا له أبياتاً في البيت الحرام، وكيف كان يقصده فيمكث فيه تسعة أشهر، وكيف كان ينحر في العام سبعين ألفاً من البدن. وزعموا فوق هذا كله إنه تنبأ بعودة ملك حمير حيث يظهر المهدي منهم، وهو رجل حميري سبئي الأبوين، يعيد الملك إلى حمير بالعدل، في هذه الأبيات التي رواها عُبَيْد بن شَرْيَةَ الجُرهمي: ومن العجـائب أن حـم ير سوف تعلى بالقهور ويسودها أهل الـمـوا شي من نضير أو نضر يعني النضر بن كنانة، وهو قريش. ويثيرها المنصور مـن جنبي أزال كالصقور وهو الإمام المرتجى الم ذكور من قدم الدهور وأنه قال: بمنصور صير الـمـرتـجـى يعود من الملك ما قـد ذهـب ويرجع بالعدل سلـطـانـهـا على الناس في عجمها والعرب و قالوا إن المنصور هو لقب القائم المنتظر الذي سيظهر ليعيد ملك حمير المسلوب. وذكروا إنه كان في جملة ما قاله من شعر قوله: واعلم بنيَّ بأن كـل قـبـيلة ستذل إن نهضت لها قحطان إ لى غير ذلك من أشعار نسبت إليه وإلى غيره من التبابعة تتحدث عن حقد القحطانيين على العدنانيين، وعن ألمهم الشديد لفراق ملكهم وانتقال الحكم منهم إلى المكيين، وقد كانوا من أتباعهم بالأمس. فعللوا أنفسهم بالتحدث عن الماضي، ثم صبروا أنفسهم بالحديث عن ملك سيعود، وعن دولة ستأتي، وعن مهدي يأخذ بالثأر، كالذي يفعله المغلوبون. وجعلوا ذا القرنيين الذي ورد اسمه في سورة الكهف منهم، فقالوا: هو الهميسع بن عمرو بن زيد ابن كهلان، أو الصعب بن عبد الله بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الأصغر، أو تبع الأكبر بن تبع الأقرن، أو تبع الأقرن، وكان مؤمناً عالماً عادلاً، ملك جميع الأرض وطافها، ومات في شمال بلاد الروم حيث يكون النهار ليلاً إذا انتهت الشمس إلى برج الجدي. وقد كان يقول الشعر، وهو الذي بشر بالنبي في شعره، وطبيعي أن يكون واضعو هذه الأشعار أناساً من الأنصار ومن بقية فروع قحطان. وتعلق متعصبو اليمانية بالأبنية الفخمة وبالمدن الكبرى، فجعلوها من أبنية ملوكهم أو من أبنية أسلافهم العرب العاربة. وقد ذكر المسعودي إن من اليمانية من يرى أن الهرمين الذين في الجانب الغربي من فُسطاط مصر، هما قبرا "شداد بن عاد وغيره من ملوكهم السالفة الذين غلبوا على بلاد مصر في قديم الدهر، وهم العرب العاربة من العماليق وغيرهم". و نسبوا لملوكهم الفتوحات الفخمة في الشرق والغرب. وأضافوا إليهم لقمان الحكيم، زعموا إنه لقمان الحميري، وقالوا إنه كان حكيماً عالماً بعلم الأبدان والأزمان، وهو الذي وقّت المواقيت، وسمى الشهور بأسماء مواقيتها، وزعموا أن ياسر ينعم ملك بعد سليمان بن داوود، وسمي ينعم، لأنه ردّ الملك إلى حمير.بعد ذهابه، وان الضحاك ملك من الأزد كان في وقت إبراهيم فنصره. وبذلك كانت للقحطانيين منة قديمة على إبراهيم وعلى العدنانيين بصورة خاصة. وقالوا أشياء أخرى كثيرة، قد يخرجنا ذكرها من صلب هذا الموضوع من أعمال وفتوحات لشمر يرعش وغيره من التبابعة. وقد إوّن العدنانيون تأريخهم، واستعانوا بالشعر، فوضعوا منه ما شاءوا في الرد على القحطانيين. قال ابن سلام "نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام"، و عقبوا على الروايات القحطانية. فلما ادعى اليمانيون مثلاً إن تبعهم "أيا كرب" فتح العراق والشام والحجاز، وانه امتلك البيت الحرام، ونكل بالعدنانيين شر تنكيل، |
وانه قال شعراً،منه: لست بالتبع الـيمـانـي إن لـم تركض الخيل في سواد العراق
أو تؤدي ربيعة الخرج قـسـراً أو تعذني عـوائق الـعـواق قال العدنانيون: نعم، وقِد كانت بين تبع هذا وقبائل نزار بن معد وقائع وحروب، واجتمعا عليه معد من ربيعة ومضر وإيراد وأنمار، فأنتصرت عليه، وأخذت الثأر منه، وفي ذلك قال أبوُ دوَاد الإبادي: ضربنا على تبعّ حـربـه حبال البرود وخرج الذهب وولى أبو كـرب هـاربـاً وكان جباناً كثير الرهـب وأتبعته فهوى للـجـبـين وكان العزيز بها من غلب إلى غير ذلك من القصص والحكايات التي وضعها الرواة في الإسلام حين احتدم الخلاف بين الانصار وقريش، سجلت في الكتب، ورويت للناس، وانتشرت بينهم على إنها أمور واقعية، وان العرب كانوا من أصلين: قحطان و عدنان. وقد كان لكل فريق رواة وأهل أخبار يقصون عد الناس قصصاً وأخباراً في أخبار النزاع القحطاني العدناني. فوضع "عُبيد بن شَرية الجُرهمي" كثيراً من القصص من والأشعار عن العرب الأولى وعن القحطانيين، وضع ذلك لمعاوية ابن سفيان، وكان معاوية مغرماً بسماع أساطير الأولين وأخبار الماضين، كما سبق أن أشرت إلى ذلك. ووضع "يزيد بن ربيعة بن مفرغ" المتوفى سنة "69" للهجرة، وهو شاعر متعصب لليمن، قصص "تبع". جاء في كتاب الأغاني: "سئل الأصمعي عن شعر تبع و قصته ومن وضعهما، فقال: ابن مفرغ. وذلك إن يزيد بن معاوية لما سيره إلى الشام وتخلصه من عبيد الله بن زياد، أنزله الجزيرة وكان مقيماً برأس عين، وزعم إنه من حمير، ووضع سيرة تبع وأشعاره. وكان النمر بن قاسط يدعي إنه منهم". وظهرت كتب ضمت أخبار التبابعة وقصصهم، أشار إليها المسعودي، دعاها ب "كتب التبابعة". وقد وقف عليها ونقل منها، وهي كما يظهر من نقله ومن نقل غيره منها من هذه الأساطير المنسوبة إلى عبيد ووهب ويزيد ابن المفرغ وأمثالهم من أصحاب القصص والأساطير. وكان بين العدنانيين والقحطانيين جدل وكلام في لغة "إسماعيل"، فاليمانيون ومنهم "الهيثم بن عدي الطائي" كانوا يرون أن لسان "إسماعيل" الأول هو اللسان السرياني، ولم يعرف العربية. فلما جاء إلى مكة وتصاهر مع جرهم، أخذ لسانهم وتكلم به، فصار عربيا. أما النزارية، فكانت تنقي ذلك نفياً قاطعاً، وترده رداً شديداً، وتقول لو كان الحال كما تزعمون: "لوجب أن تكون لغته موافقة للغة جرهم أو لغيرها ممن ننزل مكة. وقد وجدنا قحطان سرياني اللسان، وولده يعرب بخلاف لسانه. وليست منزلة يعرب عند الله أعلى من منزلة إسماعيل، ولا منزلة قحطان أعلى من منزلة إبراهيم، فأعطاه فضيلة اللسان العربي التي أعطيها يعرب بن قحطان". فنفوا النزارية العربية عن قحطان أيضاً وصيروه كإسماعيل سرياني اللسان. وقد عقب "المسعودي" على هذا النزاع النزاري القحطاني بقوله: ولولد نزار وولد قحطان خطب طويل ومناظرات كثيرة لا يأتي عليها كتابنا هذا في التنازع والتفاخر بالأنبياء والملوك وغير ذلك مما قد أتينا على ذكر جمل من حجاجهم و ما أدلى به كل فريق فهم ممن سلف وخلف". ونجد جملاً كثيرة من هذا النوع مبثوثة في كتابيه: مروج الذهب، والتنبيه و الأشراف، تتحدث عن ذلك النزاع المرّ المؤسف الذي وقع بين العرب في تلك الأيام. ولعل هذه العصبية الجاهلية، هي التي حملت جماعة من المتكلمين منهم "ضرار بن عمرو بن ثمامة بن الأشرس" و"عمرو بن بحر الجاحظ" على الرغم إن "النبط" خير من العرب، لأن الرسول منهم، ففضلوهم ذلك على العدنانيين والقحطانيين. وهو قول رد العدنانيون و القحطانيون عليه. قال به المتكلمون متأثرين بآراء أهل الكتاب في أنساب أبناء إسماعيل وبآرائهم الاعتزالية التي تكره التعصب في مثل هذه الأمور. وقد ذكر "المسعودي" شيئاً من الرد الذي وضعه القحطانيون و العدنانيون ضد هؤلاء. العرب العاربة والعرب المستعربة أما مصطلح "العرب العاربة" و "العرب المستعربة"، فهما على ما يتبين من روايات علماء اللغة والأخبار من المصطلحات القديمة التي تعود إلى الجاهلية، ولكننا لو درسنا تلك الروايات خرجنا منها، ونحن على يقين بان الجاهليين لم يطلقونهما يالمعنى الذي ذهب إليه الإسلاميون، بل قصدوا بهما القبائل البعيدة عن أرض الحضارة، والقبائل القريبة منها، فقد عرفت القبائل النازلة ببلاد الشام والساكنة في أطراف الإمبراطورية البيزنطية ب "المستعربة". و "المستعربة" مصطلح أطلق على هذه القبائل و على القبائل النازله في سيف العراق من حدود نهر الفرات إلى بادية الشام، فهو يشمل إذن القبائل النازلة على طرفي الهلال الخصيب وفي طرفي القوس الذي يحيط بحدود الإمبراطوريتين. ومن المستعربة غسان وإياد وتنوخ. وقد فضلت غالبية هذه المستعربة السكنى في أطراف المدن في مواضع قريبة من البوادي والصحارى، عرفت عندهم ب "الحاضر"، فكان في أكثر مدن بلاد الشام حاضر يقيم به العرب من تنوخ ومن غير تنوخ. وقد وجدت في تأريخ الطبري خبراً زعم انه جرى بين "خالد بن الوليد"، وبين "عدي بن عدي بن زيد العبادي"، يفهم منه أن العرب: عرب عاربة وأخرى متعربة. وقد جرى بينهما على هذا النص و: "قال خالد: ويحكم: ما أنتم ? أعرب ? فما تنقمون من العرب ? أوعجم، فما تنقمون من الانصاف والعدل ? فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة. فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا امرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول: أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية". فيفهم من هذا الحديث إن العرب: عرب عاربة و عرب متعربة. وهم أناس تعربوا فصاروا عرباً. وهو كلام معقول مقبول، ولا سيما بالنسبة إلى الحيرة والعراق وبلاد الشمام، حيث تعرب فيها كثير ممن لم يكن عربياً في الأصل فصاروا عرباً، لسانهم لسان العرب. ولا يفهم من هذا الكلام بالطبع ؤتقسيم العرب بالمعنى المفهوم عند أهل لأخبار والتأريخ، أي عرب قحطانيون وعرب عدنانيون. وكل ما قصد به إن صح إن هذا الكلام "و كلام "خالد" وكلام " عدي" حقاً تعنيف وتأنيب لعدي بن عدي بن زيد على وقوفه هو و قومه و أهل الحيرة موقفا معاديا للمسلمين، و تأييدهم للفرس و لدفاعهم عنهم، مع انهم عجم بعيدون عنهم. فكأنه قال لهم: لو كنتم عربا فكيف تؤيدون عجما علينا و نحن عرب? و "عدي" من العرب، و أبوه من تميم كما يقول النسابون. فهو ليس من العرب الاخرى المتعربة، و لكن من العرب العاربة، أي عرب بالاصالة، كما إن خالداً نفسه من العرب العاربة، لأنه عربي اصلا و إن كان عدنانياً. فلم يقصد بالعرب العاربة هنا العرب القحطانيين، و لا بالعرب المتعربة العرب العدنانيين. فالعرب المتعربة اذن هم المتعربون من أهل الحيرة و غيرهم، ممن كانوا من النبط و بني إرم أو غيرهم ثم دخلوا بين العرب و لحقوا بهم فصار لسانهم لسانا عربياً مثل العرب الآخرين و تعربوا بذلك. و يلاحظ إن "غسان" قد أدخلت في المستعربة؛ مع إنها من العرب العاربة، أي من العرب القحطانيين في عرف النسابين. و في ذلك على إن مدلول العرب العاربة و العرب المستعربة لم يكن في الجاهلية و في صدر الإسلام بالمعنى الذي صار عليه عند علماء النسب و أهل الأخبار، و إن تخصيص العرب العربة بالقبائل التي ترجع نفسها إلى اليمن، و العرب المستعربة بالقبائل التي يرجعون نسبها إلى عدنان، قد وقع من النسابين في أيام الأمويين فما بعد. |
الفصل الثاني عشر
طبقات القبائل ورتب علماء الأنساب قبائل العرب على مراتب، هي: شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة. فالشعب النسب الأبعد مثل عدنان وقحطان، والقبيلة مثل ربيعة ومضر، والعمارة مثل قريش وكنانة، والبطن مثل بني عبد مناف وبني مخزوم، ومثل بني هاشم وبني أمية، والفصيلة مثل بني أبي طالب وبني العباس. وجعل "ابن الكلبي" مرتية بين الفخذ والفصيلة، هي مرتبة العشيرة، وهي رهط الرجل. وبني "النويري" طبقات القبائل على عشر طبقات هي: الجِذْم، و الجماهير، والشعوب، والقبائل، والعمائر، والبطون، و الأفخاذ، والعشائر، والفصائل والأرهاط. ورتب "نشوان ابن سعيد الحميري" القبائل على هذا النحو: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الجيل، ثم الفصيلة. وجعل مضر مثال الشعب، وكنانة مثال القبيلة، وقريشاً مثال العمارة، وفهراً مثال البطن، و قصياً مثال الفخذ، وهاشما للجيل، وآل العباس للفصيلة. وأكثر علماء النسب يقدمون الشعب على القبيلة، والظاهر إن هذه الفكرة كانت قد اختمرت في رؤوس الجاهليين الذين عاشوا في الجاهلية القريبة من الإسلام حيث ظهرت عندهم الفكرة القومية بمعنى واسع، وحيث نجد عندهم ظهور الكلمات التي تشير إلى هذا المعنى، مثل اطلاقهم العرب على العرب جميعاً اصطل*********ً، وحيث أخذ الحس القومي يظهر بين القبائل بوجوب التكتل لمكافحة الغرباء? كالذي حدث في معارك اليمن مع الحبش، وفي معارك عرب العراق مع الفرس. وقد قدّم القرآن الكريم الشعوب على القبائل )وجعلناكم شعوباً وقبائل، لِتَعارفوا(. فالشعوب هنا فوق القبائل و تعبر عن هذا المعنى الواسع الذي أتحدث عنه. وزاد بعض العلماء الجذم، بأن وضعوها قبل الشعب، ووضعوا الفصيلة بعد العشيرة، ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة، ثم العترة. ورتبها آخرون على هذه الصورة: الجذم، ثم الجمهور، ثم الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم العشيرة، ثم الفصيلة، ثم الرهط، ثم الأسرة، ثم العترة، ثم الذرية. وزاد غيرهم في أثنائها ثلاثة، هي: البيت، والحي، و الجماع. والاختلاف الذي نراه من علماء النسب، هو في الترتيب، أي من حيث التقديم والتأخر، وفي إضافة بعض المصطلحات أو في نقصها. أما من حيث العموم، فإننا نجدهم يتفقون في الغالب،ولا يختلفون أبداً في أن القبائل والأنساب كانت على منازل ودرجات. |
ولا بد أن تكون أكثر هذه المصطلحات مصطلحات أهل الجاهلية القريبين من الإسلام. أما بالنسبة إلى الجاهلين البعيدين عنه، فلن يكون حكمنا عليهم علمياً إلا إذا أخذنا مصطلحاتهم من كتاباتهم. ولم نتمكن ويا للأسف من الحصول على مادة منها تفيدنا في هذا الباب. فليس لنا إلا الصبر والانتظار.
والقبيلة: الجماعة تنتمي إلى نسب واحد، ويرجع ذلك النسب إلى جدّ أعلى، أو إلى جدّة وهو في الأقل. ولا تزال اللفظة حية مستعملة يستعملها العرب في كل مكان في المعنى الاصطلاحي المستعمل عند النسابين. والقبيلة هي المجتمع الأكبر بالنسبة إلى أهل البادية، فليس فوقها مجتمع عندهم. وهي في معنى "شعب" عندنا وفي مصطلحنا الحديث. و تتفرع من القبيلة فروع وأغصان، هي دون القبيلة، لأنها في منزلة الفروع من الشجرة. ثم اختلفوا في عدد الفروع المتفرعة من القبيلة، فجعل بعضهم بعد القبيلة العمارة ثم البطن، ثم الفخذ ثم الفصيلة، وجعل بعض آخر ما دون القبيلة: العَمارة ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، وزاد بعض آخر قبل الشعب الجِذم، وبعد الفصيلة العشيرة. ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة، ثم العترة. ورتب بعض النسابين طبقات النسب على هذا النحو: جذم، ثم جمهور، ثم شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم عشيرة، ثم فصيلة، ثم رهط، ثم أسرة، ثم عترة، ثم ذرية. وزاد بعضهم في أثنائها ثلاثة، وهي: البيت و الحي، و الجماع. ويدل اختلاف النسابين في ضبط أسماء ما فوق القبيلة أو ما تحتها،واضطرابهم في الترتيب على أن هذا الترتيب لم يكن ترتيباً جاهلياً أجمع الجاهليون عليه، وإلا لما تباينوا هذا التباين فيه، ولما اختلفوا هذا الاختلاف في سرده، إنما هو ترتيب اجتهادي أخذه العلماء من افواه الرواة ومن الأوضاع القبلية التي كانت سائدة في أيامهم ومن اجتهادهم أنفسهم، فرتبوها على وفق ذلك الاجتهاد. وأكثر هذه المصطلحات لم ترد لا في الكتابات الجاهلية ولا في الشعر المنسوب إلى الجاهلين، لذلك يصعب على الإنسان أن يبدي رأياً علمياً مقبولاً فيها، وأعتقد أن خير ما يمكن فعله في هذا الباب هو استنطاق الكتابات الجاهلية وتفليتها وتفلية الشعر الجاهلي للبحث عما فيه من مصطلحات تتعلق بالنظم القبلية وعندئذ نتمكن من تكوين رأي قريب من الصواب والصحة في هذا الموضوع. ومن أجل ذلك قال "روبرتسن سمث" إن البطن والحي هما أساس أقدم أشكال المجتمعات السياسية عند الساميين. كما استدل من أسماء بعض القبائل التي تحمل أسماء بعض الحيوانات، مثل: بني أسد، وبني كلب، وبني بدن، وبني ثعلب، وبني ثور، وبني بكر، وبني ضب، وبتي غراب، وبني فهد، وما شاكل ذلك من أسماء جماعة من القبائل، وبعضها عمائر، وبعضها بطون أو فصائل على وجود "الطوطمية" عند العرب، وعلى أن هذه الأسماء هي من ذكريات "الطوطمية" القديمة. وقد تأثر بنظريته هذه جماعة من العلماء. وعدّ بعض العلماء نظرية "الطوطمية" مفت*********ً يوصل إلى حل كثير من المسائل الغامضة من تأريخ البشرية القديم. هذا وقد رجع "ابن حزم" جميع قبائل العرب إلى أبو احد، سوى ثلاث قبائل، هي: تنوخ، والعتق، وغسان، فإن كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون. وقد نص غيره من أهل النسب على أن تنوخاً اسم لعشر قبائل، اجتمعوا وأقاموا بالبحرين، فسموا تنوخاً. وذكر ب بعض آخر إن غسان عدة بطون من الأزد، نزلت على ماء يسمى غسان، فسميت به. فترى من هنا إن تنوخاً والأزد حلف في الأصل، وقد صار مع ذلك نسباً عند كثير من أهل الأخبار في الدفاع عنه. ولما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادة القبائل، أصبحت من أهم العوائق في تكوين الحكومات المدنية الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية قبل الإسلام. وينطبق ما قلته عن تنظيم القبيلة وبناء الأنساب عليه على أهل الحضر أيضاً. فالحضر، ولاسيما حضر الحجاز، وان استقروا وأقاموا غير أنهم لم يتمكنوا م ن ترك النظم البدوية الاجتماعية القائمة على مراعاة قواعد النسب وفقاً للتقسيمات المذكورة. وهي تقسيمات أوجدتها طبيعة الحياة في البادية، تلك الحياة الشحيحة التي لا تتحمل طاقاتها تقديم ما يحتاج إليه مجتمع كبير مستقر من مأكل وماء، ولذلك اضطرت المجتمعات الكبرى، وهي القبائل،على التشتت والانقسام والانتشار كتلا تختلف درجات حجمها حسب طبيعة الأرض التي نزلت بها، من حيث الكرم و البخل، و لما استقر بعض هؤلاء البدو وتحضروا في أماكن ثابتة مثل مكة ويثرب و الطائف، حافظوا على نظمهم الاجتماعية المذكورة الموروثة من حياة البادية، وعاشوا في مدرهم أحياءً وشعاباً عيشة قائمة على أساس الروابط الدموية والنسب، كما سأتحدث عن ذلك في الحياة الاجتماعية. والنسب عند العرب، هو نسب يقوم إذن على الطبقات المذكورة، كما أن الطبقات المذكورة قائمة على دعوى النسب، فبين النسب وبناء المجتمع، صلة وارتباط، ولا يمكن فك أحدهما عن الآخر، ولهذا نجد شجرات الأنساب تتفرع وتورق وتزهر على هذا الأساس. وأنا لا أستثني المجتمع العربي في الجنوب، الذي تغلب عليه حياة الاستقرار والسكن والاستيطان من هذا التنظيم. فنحن وإن لم نتمكن حتى الآن من الحصول على كتابات كافية تقدم لنا صورة واضحة عن الأنساب وعن تنظيمات المجتمع عند المعينيين والسبئيين وغيرهم من العرب الجنوبيين، غير أن في بعض الكتابات التي وصلت إلينا إشارات تفيد وجود هذا التنظيم عند العرب الجنوبيين. والعرب الجنوبيون وإن غلبت عليهم حياة السكن والاستقرار، غير أن زمانهم لم يتمكن من تحرير نفسه من قيود الحياة القبلية، ولم يكن من الممكن يالنسبة لهم الابتعاد عن الاحتماء بالعصبية القبلية وبعرف القبيلة، فالطبيعة إذ ذاك طبيعة حتمت على الناس التمسك بتلك النظم لحماية أنفسهم وللدفاع عن أموالهم حيث لا حق يحمي المرء غير حق العصبية القائم على أساس النسب والدم. |
ويعبر عن القبيلة بلفظة "شعيم" و "شعبن" في العربيات الجنوبية. أي "قبيلةٌ" و "القبيلة"1 أما لفظة "القبيلة" فلم أعثر على وجود لها في كتابات المسند. فلعلها من الألفاظ الخاصة بأهل الحجاز ونجد. وأما ما دون "الشعب"، أي القبيلة في اصطلاحنا، فلم أقف على مسمياتها بالنحو الذي يذكره أهل الأنساب. و إنما تجد العرب الجنوبيين يقسمون القبيلة إلى أقسام، مثل "ربعن" أي "ربع" و "ثلثن" أي ثلث. ويريدون بذلك، ربع قبيلة وثلث قبيلة. وربما كانوا يقسمونها إلى أقسام أخرى، لم تصل أسماؤها الينا، ولعل الأيام ستزودنا بما كان العرب الجنوبيون يستعملونه من مصطلحات في النسب عندهم، وذلك قبل الإسلام بزمان طويل، وبالمصطلحات التي كانوا يطلقونها على فروع القبيلة في تلك الأوقات.
وبينما نجد أهل الأنساب ينسبون أهل الوبر وأهل المدر إلى أجداد، عاشوا وماتوا، نجد المعينيين مثلاً، يستعملون جملة: "أولدهو ود"، أي "أولاد ودّ"، و "ودّ" هو إلَه شعب معين الأكبر، كما نجد السبئيين يطلقون على أنفسهم "ولد المقه"، اي أولاد الإله "المقه". والمقه كما سنرى فيما بعد، هو إله سبأ الأول. ونجد القتبانيين يدعون أنفسهم "ولد عم"، أي أولاد عم. ومعنى هذا، إن كل قبيلة من القبائل المذكورة، نسبت نفسها إلى إلهها الخاص بها واحتمت به، تماماً كما فعل العبرانيون وغيرهم، إذ نسبوا أنفسهم ، إلى إلَه قومي اعتبروه إلههم الخاص بهم، المدافع عنهم، والذي يرزقهم وينفعهم. وقد يعدّ هذا نسباً. أما نسب على النحو الذي يقصده و يريده أهل الأخبار، أي جد عاش ومات وله أولاد وحفدة، فهذا لم يصل خبره إلينا في كتابات المسند، بل في كل ما وصل إلينا من كتابات جاهلية حتى الآن. الأنساب وأقرب تفسير إلى أنساب العرب في نظري هو إن النسب، ليس بالشكل المفهوم المعروف من الكلمة، و إنما هو كناية عن "حلف" يجمع قبائل توحدت مصالحها، واشتركت منافعها، فاتفقت على عقد حلف فيما بينها، فانضم بعضها إلى بعض، واحتمى الضعيف منها بالقوي، وتولدت من المجموع قوة ووحدة، وبذلك حافظت تلك القبائل المتحالفة على مصالحا وحقوقها. قال البكري: "فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة، وتنافس الناس في الماء والكلأ، والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضاً على البلاد والمعاش، واستضاف القوي الضعيف، انضم الذليل منهم إلى العزيز، وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالّهم، و انتشر كل قوم فيما يليهم". لقد حملت الضرورات قبائل جزيرة العرب على تكوين الأحلاف، للمحافظة على الأمن و للدفاع عن مصالحا المشتركة كما تفعل الدول. و إذا دام الحلف أمداً، وبقيت هذه الرابطة التي جمعت شمل تلك القبائل متينة، فإن هذه الرابطة تنتهي إلى نسب، حيث يشعر أفراد الحلف أنهم من أسرة واحدة تسلسلت من جد واحد، وقد يحدث ما يفسد هذه الرابطة، أو ما يدعو إلى انفصال بعض قبائل الحلف، فتنظم القبائل المنفصلة إلى أحلاف أخرى، وهكذا نجد في جزيرة العرب أحلافاً تتكون، وأحلافاً قديمة تنحل أو تضعف. لم يكن في مقدور العشائر أو القبائل الصغيرة المحافظة على نفسها من غير حليف قوي، يشد أزرها إذا هاجمتها قبيلة أخرى، أو أرادت الأخذ بالثأر منها. لقد كانت معظم القبائل داخلة في هذه الأحلاف، إلا عدداً قليلا من القبائل القوية الكثيرة العدد، يذكر أهل الأخبار إنها كانت تتفاخر لذلك بأنفسها، لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها، بل كانت تأخذ بثأرها وتنال حقها بالسيف. و يشترك المتحالفون في الغالب في المواطن، وقد تنزل القبائل على حلفائها، وتكون الهيمنة بالطبع في هذه للقبائل الكبيرة. وقد عرفت مثل هذه الأحلاف عند سائر الشعوب السامية كالعبرانيين مثلاً، وطالما انتهت كما انتهت عند العرب إلى نسب، حيث يشعر المتحالفون انهم من أسرة واحدة يجمع بينهم نسب واحد. ويقال للحاف أيضاً "تحالف"، وضد اليمانين "تكلع". ويرى "كولدتزيهر" إنه لفهم الأنساب عند العرب، لا بد من معرفة الأحلاف والتحالف فإنها أساس تكوّن أنساب القبائل، فإن هذه الأحلاف التي تجمع شمل عدد من البطون والعشائر والقبائل هي التي تكوّن القبائل والأنساب، كما إن تفكك الأحلاف وانحلالها يسبب تفكك الأنساب وتكوين أنساب جديدة ويرى أيضاً إن الدوافع التي تكوّن هذه الأحلاف لم تكن ناشئة عن حس داخلي بوجود قرابة وصلة رحم بين المتحالفين وشعور بوعي قومي، بل كانت ناشئة عن المصالح الخاصة التي تهم العشيرة كالحماية والأخذ بالثأر وتأمين المعيشة. ولذا نجد الضعيف منها يفتش عن حليف قوي، فانضمت "كعب" مثلاً إلى "بني مازن" وهم أقوى من "كعب"، وانضمت "خزاعة" إلى "بني مدلج"، كما تحالفت "بنو عامر" مع "اياد" وأمثلة أخرى عديدة. ولما كانت المصالح الخاصة هي العامل الفعال في تأليف الأحلاف، كان أمد الحلف يتوقف في الغالب على دوام تلك المصالح. وقد تعقد الأحلاف لتنفيذ شروط اتفق عليها، فمتى نفذت أو تلكأ أحد الطرفين في التنفيذ انحل الحلف. وتعد هذه الناحية من النواحي الضعيفة في التأريخ العربي، فإن تفكير القبائل لم يكن يتجاوز عند عقدهم هذه الأحلاف مصالح العشائر أو القبائل الخاصة، لذلك نجدها تتألف للمسائل المحلية التي تخص القبائل، ولم تكن موجهة للدفاع عن جزيرة العرب و لمققاومة أعداء العرب. ولا يمكن أن نطلب من نظام يقوم على العصبية القبلية أن يفعل غير ذلك. فإن وطن القبيلة ضيق بضيق الأرض التي تنزل فيها، فإذا ارتحلت عنها و نزلت في أرض جديدة، كانت الأرض الجديدة المواطن الجديد، الذي تبالغ القبيلة في الدفاع عنه. و لما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادة ا لقبائل، أصبحت من أهم العوائق في تكوين الحكومات المدنية الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية قبل الإسلام. |
خذ اختلاف النسابين في نسب بعض القبائل وتشككهم فيه، فأنه في الواقع دليل قوي يؤيد هذا الرأي، فقد اختلف في نسب "أنمار" مثلاً. فمنهم من عدها من ولد "نزار"، ومنهم من أضافها إلى اليمن. والذين يضيفونها إلى "نزار" يقولون إن انماراً من نزار، وأنمار هو شقيق ربيعة ومضر وإياد، فهو أحد أبنا نزار. دخل نسله في إليمن، ر فأضيفوا إليه، ومن هنا حدث هذا الاختلاف. أما اليمانية، فانهم يرون إن أنماراً هو منهم، وقد كان أحد ولد "سبأ" العشرة. فهو عندهم شقيق لخم وجذام وعاملة وغسعان وحمير والأزد ومذحج وكنانة والأشعرين ويرون أن بجيلة، وخثعماً من أنمار. ويستدلون على ذلك بحديث ينسبونه إلى الرسول.
وأما الذين يرجعون نسبه إلى "نزار" فيستدلون على نسبه هذا بحديث ينسبونه إلى الرسول أيضاً. وفي الجملة لا يهمنا هنا موضوع نسب "انمار" أكان في اليمن أم كان في نزار، و إنما الذي يهمنا أن الأحلاف تؤثر تأثيراً كبيراً في نشوء النسب، فلولا دخ ول أنمار في اليمن ونزولها بين قبائل يمانية، لما دخل نسبها في اليمن. ولولا د********* أنمار في قبائل عدنانية وتحالفها معهما لما عدها النسابون من نزار، ولما عدّوا انماراً ابناً من أبناء نزار الأربعة. فاختلاط "انمار" في اليمن وفي نزار وترددها بين الجماعتين هو الذي أوقع النسابين في مشكلة نسبها. وطالما دفعت الحروب القبائل المغلوبة على الخضوع لسيادة القبائل الغالبة وقد تتحالف معها وتدخل في جوارها،و إذا دام ذلك طويلاً، فقد يتحول الحلف و الجوار إلى نسب. ثم إن تقاتل القبائل بعضها مع بعض يؤدى أحياناً إلى ارتحال بعض هذه القبائل المتقاتلة إلى مواطن جديدة فتنزل بين قبائل أخرى، وتعقد معها حلفاً وتجاورها ومنى طال ذلك صار نسباً، كالذي ذكره أهل الأنساب من نزوح قبائل عدنانية إلى اليمن بسبب تقاتلها بعضها مع بعض، مما أدى إلى د********* نسبها في اليمن، و كالذي ذكروه أيضاً من نزوح قبائل يمانية نحو الشمال واختلاطها بقبائل عدنانية مما أدى إلى د********* نسبها في نسب تلك القبائل. ونجد في كتب الأنساب والأخبار أمثلة كثيرة على اختلاط أنساب قبائل معروفة في عدنان وفي قحطان، كما رأيت فعل السياسة في تكييف النسب في مصدر الإسلام وفي عهد الدولة الأموية وتنظيمه، كما رأيت كيف أن بعض النسابين ينسبون قبيلة إلى أب قحطاني على حين ينسبها بعض آخر إلى أب عدناني، وكيف أن نسابي القبيلة كانوا يرون رأي آخر. وقد رأيت كيف أن بعض مم رجع نسب ثقيف إلى "ثمود" بغضاً للحجاج الذي كان من ثقيف، ورأيت أيضاً اختلاف النسابين فيما بينهم في رسم شجرات الأنساب. والطوطمية نظرية وضعها "ماك لينان" "م كلينان" المتوفى سنة 1881 م، خلاصتها: 1 - إن الطوطمية دور مرّ على القبائل البدائية، وهي لا تزال بين أكثر الشعوب إغراقاً في البدائية والعزلة. 2 - إن قوامها اتخاذ القبيلة حيواناً أو نباتاً، كوكباً أو نجماً أو شيئاً. أخر من الكائنات المحسوسة أباً لها تعتقد إنها متسلسلة منه وتسمى باسمه. 3 - تعقد تلك القبائل إن طوطمها يحيها ويدافع عنها، أو هو على الأقل لا يؤذيها وان كان الأذى طبعه. 4 - لذلك تقدس القبيلة طوطمها وتتقرب إليه وقد تتعبد له. 5 - الزواج ممنوع بين أهل الطوطم الواحد، ويذهبون إلى الزواج من قبائل غريبة عن قبيلة الطوطم المذكور. وهو ما يعبر عنه ب "Exogamy" في اللغة الإنكليزية. إذ يعتقدون إن التزاوج من بين أفراد القبيلة الواحدة ذو ضرر بالغ، ومهلك للقبيلة، لذلك يتزوج رجال القبيلة نساءً من قبيلة أخرى غريبة، لا ترتبط بطوطم هذه القبيلة، والمخالف لهذه القاعدة، أي الذي يتزوج امرأة من قبيلته يعرض نفسه للعقوبات قد تصل إلى الحكم عليه بالموت. 6 - الأبوة غير معروفة عند أهل الطوطم، و مرجع النسب عندهم إلى الأم. 7 - لا عبرة عندهم إلى العائلة، والقرابة هي قرابة الطوطم، فأهل الطوطم الواحد اخوة و أخوات يجمعهم دم واحد. والطوطمية "Totemism"، لفظة أخذت من كلمة "Ototemom"، وهي من كلمات قبيلة "Ojibwa" من قبائل هنود أمريكا. اشتق منها "لانك" "J. Lang" كلمة "توتم" "Totem"، ومنها أخذ اصطلاح "طوطمية" "توتميسم" "Totemism" الذي يعني اعتقاد جماعة بوجود صلة لهم بحيوان أو حيوانات تكون في نظرها مقدسة، ولذلك لا يجوز صيدها أو ذبحها أو قتلها أو أكلها أو إلحاق أذى بها. وتشمل الطوطمية النباتات كذلك، فلا بجوز لأفراد الجماعة التي تقدسها قطعها أو إلحاق الأذى بها. وقد يتوسع بها فتشمل بعض مظاهر الطبيعة مثل المطر والنجوم والكواكب. وهم يؤمنون بأن "الطوطم" لا يؤذي أتباعه. فلا يخافون منه، حتى وإن كان من الحيوانات المؤذية، التي تلحق الأذى بالإنسان، كالحية أو العقرب أو الذئب. وهم يعتقدون أيضاً انه يدفع عنهم، وأنه ينذر أتباعه إن أحس بقرب وقوع خطر على أتباعه، وذلك بعلامات و إشارات على نحو ما يقال له الزجر والطيرة والفأل. وهم يتقرب ون إلى طوطمهم، محاولة منهم في كسب رضاه، فيقلدونه في شكله ومظهره، وقد يلبسوا جلده أو جزءاً من جلده، أو يعلقون جزءاً منه في أعناقهم أو أذرعهم على نحو من التعاويذ. لأنه يحميهم بذلك ويمنع عنهم كل سوء. كما يحتفلون وبالمناسبات مثل مناسبات الولادة أو الزواج أو الوفاة بنقش رمز الطوطم على ظهر المولود، أو دهن الجسم بدهن مقدس من دهان ذلك الطوطم إلى آخر ما هنالك من أعراف وتقاليد. ويؤلف المعتقدون بالطوطم جماعهّ تشعر بوجود روابط دموية بين أفرادها، أي بوجود صلة رحم بينها. والرابط بينها هو ذلك الطوطم الذي تنتمي الجماعة إليه وتلتف حوله، ليكون حاميها والمدافع عنها في الملمات. ومن أصحاب هذا المذهب من لا يذكر اسم الطوطم، بل يُكنى عنه. ويجوز أن يكون ذلك خوفاً منه، أو احتراماً له. وقد يرسم له شعار تحمله الجماعة وأفرادها. ولها قوانين وآراء في موضوع الزواج الذي تترتب عليه قضية القرابة وصلات الرحم. و للعلماء نظريات وآراء في الطوطمية. وفي منصبّة على دراسة الناحية الاجتماعية منها، من حيث كون " الطوطمية " نظاما اجتماعياً يقوم على أساس مجتمع صغير مبني على العشيرة أو القبيلة. أما الدراسات الدينية للطوطمية، فهي بعد هذه الدراسة من حيث التوسع والتبسط في الموضوع. وأكثر هذه الدراسات أيضاً عن قبائل هنود أمريكا الشمالية و عن قبائل اوستراليا ثم أفريقية. أما اثر الطوطمية عند الشعوب القديمة مثل اليونان والشعوب السامية فإن بحوث العلماء في المراحل الأولى من البلاد، وهي مستمدة بالطبع من الإشارات الواردة في الكتابات أو المؤلفات أو من دراسات الأسماء. ومن أشهر أصحاب النطريات في موضوع الطوطمية "تيلر" "Sir E. B. Tylor" و "سير جيمس فريزر" "Sir J. G. Frazer"، و هذا الأخير يرفض نظرية الذاهبين إلى إن الطوطمية في شكلها الأول هي ديانة؛ لأن الطوطم لا يعبد كما يقول على صورة صنم. |
ومن أسماء الحيوانات التي تسمت بها البطون والعشائر: كلب، وذئب، ودبّ، وسلحفاة، ونسر، وثعلب، و هرّ، وبطة، وثور، وغير ذلك من أسماء حيوانات تختلف بحسب اختلاف المحيط الذي تكون فيه.عبدة الطواطم. يضاف إلى ذلك أسماء أشجار ونباتات أخرى وطائفة من أسماء الأسماك. وقد ذكر "بيتر جونس Peter Jones" أربعين بطناً من بطون قبيلة ال "Ajibwa" لها أسماء حيوانات.
وقد لاحظ "روبرتسن سمث" "Robertson Smith" إن في أسماء القبائل عند العرب أسماء كثيرة هي أسماء حيوان أو نبات أو جماد. فاتخذ من هذه الأسماء دليلاً على وجود "الطوطمية" عند العرب، و على أثرها في الجاهليين. فاًسماء مثل: بني كلب، وبني كليب، والنمر، والذئب، والفهد، والضبع والدب، والوبرة، والسيد، والسرحان، و بكر، وبني بدن، وبني أسد، وبني يهثة، وبني ثور، وبني جحش، وبني ضبّة، وبني جعل، وبني جعدة، وبني الأرقم، وبني دُئل، وبني يربوع، و قريش، وعنزة، وبن حنش، وبن غراب، وبني فهد، وبني عقاب، وبرني أوس، وبني حنظلة،، وبني عقرب، و بني غنم، وبني عفرس، وبني كوكب، وبني قنفذ، وبني الثعلب، والسيد، وبي قنفذ، وبني عجل، وبني انعاقه، وبني هوزن، وبني ضب، وبني قراد، وبني جراد، وما شاكل ذلك من أسماء، لا يمكن في نظره إلا أن تكون أثراً من أثار الطوطمية، ودليلاً ثابتاً واضحاً على وجودها عندهم في القديم. وقد لاقى تطبيق روبرتسن سمث نظربة "الطوطمية" على العرب الجاهليين، ترحيباً عند بعض المستشرقين، كما لاقى معارضة من بعضهم. وقد رد عليه "جرجي زيدان" في كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي"، وبيّن أسباب اعتراضه على ذلك التطبيق. دور الأمومة واتخذ "روبرتسن سمث" من تسمي بعض القبائل بأسماء مؤنثة مثل: "مدركة" "وطابخة" و "خندف" و "ظاعنة" و "قيلة" و "جديلة" و "مُرّة" و "عطيّة"، وأمثالها، دليلاً على وجود ما يسمى ب "دور الأمومة" عند العرب. وهو دور لم يكن للنساء فيه أزواج معيّنون، لأن الزواج لم يكن فيه بالمعنى المفهوم من الزوجية عندنا، بل كان الرجل بجتمع بالمرأة ثم يتركها ليجتمع بامرأة أخرى، و هكذا تكون المرأة قد اتصلت بجملة رجال، كما يكون الرجل قد اتصل بجملة نساء. و إذ كانت المرأة لم تكن تعرف زوجها الذي نَجَلَ مولودها، ولا يعرف المولود والده نُسب، إلى أمه و عرف بها. وبهذا التفسير، فسمر "روبرتسن سمث" ومن ذهب مذهبه من علماء علم الاجتماع، وجود الأسماء المؤنثة عند العرب وعند العبرانيين وعند بقية الساميين. واتخذ "روبرتسن سمث" من وجود بعض الكلمات في تسلسل أنساب القبائل مثل: البطن و الفخذ والصلب والظهر والدم و "رحم"، دليلاً آخر على وجود "دور الأمومة" عند العرب، لأن هذه الألفاظ صلة بالجسم، ولهذا كان إطلاقها عند قدماء العرب - على حد قوله - علاقة بجسم الأم. ولا سيما أنهم استعملوا لفظة "الحي" كذلك. ولهذه الفظة علاقة بالحياة وبالدم. و إطلاق الألفاظ في نظره ورأيه على معان اجتماعية، دليل على الصلة التي كانت للام في المجتمع لذلك العهد. وقد بحث "روبرتسن سمث" بحثاً مفصلاً في الحي، إذ هو في نظره وحدة سياسية واجتماعية قائمة بذاتها. ويطلق على "الحي" لفظة "قوم" و"أهل". وينظر أبناء الحي الواحد بعضهم إلى بعض نظرة قرابة كأنهم من نسل واحد يربط بينهم دم واحد. وقد استدل "روبرتسن سمث" من معنى "الحي" على وجود معنى الحياة في الكلمة في الأصل، كما هو الحال في اللغات السامية، ورأى لذلك إنها يمثل رابطة قرابة وصلة دم عند سائر العرب السامية. ويكون أعضاء الحي الأحرار "صرحاء"، وفي العبرانية "أزراح" 0 أما الذي ينتمون إليه بالولاء، فهم "الموالي" يستجيرون به أو بالقبائل أو الأفراد، فييلقون حماية من يستجيرون بهم، ويكون "الجار" في رعاية مجيره. و "البطن" في نظر "روبرتسن سمث" هو أقدم أوضاع المجتمع السامي القديم، ويقوم على أساس الاعتقاد بوجود القرابة والروابط الدموية. ويرى أن مفهومه عند قدماء الساميين كان يختلف اختلافاً بّيناً عنه عند العرب المتأخرين، أو عند العبرانيين" أو غيرهم. وقد فهم من اللفظة معنى المجموع الأكبر عند العرب، أي معنى "شعب" أو "جذم" أو قبلية، ورأى إن هذا المعنى هو المعنى القديم للكلمة عند العرب. أما المعاني التي تذكرها علماء اللغة والأدب والأخبار،فهي في نظره معان متأخرة وضعت في الجاهلية القريبة من الإسلام، ومن جملة هذه المعاني اختصاصها بالأماكن التي تقيم فيها القبيلة أو العشرة، وتتألف من جملة عدد من الدور. وقد استدل "روبرتسن سمث" من لفظ ة "البطن" و "الفخذ" وأمثالهما على مرور العرب في دور الأمومة، وعلى أن القبائل كانت قد أخذت أنسابها القديمة وأسمائها من الأمومة ومن "الطومية". ورأى أن كلمة "البطن" في الأصل كانت تعني معنى آخر غير الذي يذهب إليه علماء الأنساب، ودليله على ذلك استعمال "رحم". |
ول "روبررتسن سمث" بجوث في طرق الزواج عند قدماء العرب، سأتحدث عنها في موضوع الزواج والطلاق عند الجاهليين في القسم الخاص بالحياة الاجتماعية عند العرب و بالتشريع.
وقد أشار "نولدكه" Noeldeke إلى أهمية تأنيث أسماء القبائل، فاتخذ القاثلون بنظرية "الأمومة" من هذه الأسماء دليلاً على أهمية هذا العهد في التأريخ الجاهلي القديم. وقد وافق "ويلكن" "G.A. Wilken" على بعضأراء "روبرتسن سمث"، و خالفه في بعض الآراء. ومن واضعي نظرية الأمومة العالم الألماني السويسري "باخ أوفن" "Johann Jakob Bachofen" "1815- 1887م"، و هو من علماء القانون ومن مؤسسي "علم القانون المقارن"، وكان معروفاً بأبحاثه عن الأشياء الخفية التي تؤثر في حياة الإنسان. وقد ذهب إلى أن تأريخ العالم صراع بين الروح والمادة، بين الذكر والأنثى، وأن الحياة الأرضية مزيج من هذين الكفاحين. وقد لفت نظره إلى الزواج باعتبار إنه ناحية من النواحي القانونية، وتعرض لمباحث الزواج عند الإنسان القديم، و لفوضوية الزواج، حيث كان الرجل يتناول المرأة بغير عقد، كما تفعل الحيوانات، ولاشتراك عدد من الرجال في امرأة واحدة، "Hetarische Gynaikokratie"، فلا يعرف فيه النسل من أي أب هو، و إذا بقي في رعاية أمه، فنسب إليها: وهو زواج مرَّ على جميع الشعوب. كما بحث عن الأديان البدائية وعلاقتها بأمثال هذا الزواج. ويحب أن نضيف إلى تلك الفوضوية فوضوية أخرى، هي فوضوية الغزو وتقاتل الإنسان مع الإنسان و إباحة المدن والقرى للجيوش الغازية المنتصرة، يعيثون فيها وفي أهلها فساداً، يؤدي إلى انتهاك الحرمات واستباحة الأعراض وتوالد أطفال ليس في مقدور أمهاتهم معرفة آبائهم، فلا يبقى لهم من مجال إلا الانتساب إلى الأمهات. ودور الأمومة عند أصحاب هذه النظرية، هو أقدم أنواع الزواج. و أما "الأبوة" أي دور الزواج الذي عرف النسل فيه آباءهم فهو عندهم أحدث عهداً من الأمومة، وقد زعموا أن هذين الدورين مرّ ا على البشرية جمعاء، وفيهم العرب. وفي دور الأمومة تكون القرابة فيه لصلة الرحم، أي إلى الأم، فهو الرباط المقدس المتين الذي يربط بين الأفراد ويجمع شملهم، وهو نسبهم الذي إليه ينتمون. في هذا الدور لا يمكن أن يعرف فيه الانتساب إلى الأب، لسبب عادي هو عدم إمكان معرفة الأب فيه. ولهذا كان نسب النسل في " حتماً للأم. وكان نسب الجماعات فيه أيضاً للأم. ومن هذه الجماعات القبائل. وهم يرون أن تسمي القبائل بأسماء رجال، بأن تجعلهم أجدادا وآباءً، هي تسميات محدثة ظهرت بعد ظهور دور الأموة، و تطور الزواج من زواج الفوضى أو زواج تعدد الرجال إلى زواج حدد فيه على المرأة التزوج برجل واحد ليس غير، يكون فيه بعلها الذي تختص به. ومن هنا اندثرت الأسماء القديمة، أي أسماء الإناث في الغالب، و حلت محلها أسماء الذكور. وسيأتي الكلام على موضوع أشكال الزواج عند العرب في موضعه من هذا الكتاب. هذا، وقد بحث "جرجي زيدان" في نظرية "الأمومة" عند العرب وردّ عليها بتفصيل. أصول التسميات وقد الف "ابن دريد الأزدي" كتاباً في اشتقاق الأسماء عند العرب، سماه "كتاب الاشتقاق"، تحدث فيه عن أصول الأسماء واشتقاقها، وذلك رداً على من زعم إن العرب تسمي بما لا أصل له في لغتهم، فذكر اشتقاق تلك الأسماء. وقد قال في مقدمته له: "كان الأميون من العرب... لهم مذاهب في أسماء أبنائهم وعبيدهم وأتلادهم. فاستشنع قوم إما جهلاً وإما تجاهلاً تسميتهم كلباً، وكليباً، وأكلب، وخنزيراً، وقرداً، وما أشبه ذلك مما لم يستقص ذكره. فطعنوا من حيث لا يجب الطعنن، وعابوا من حيث لا يستنبط عيب.. وكان الذي حدانا على إنشاء هذا الكتاب، إن قوماً ممن يطعن على اللسان العربي وينسب أهله إلى التسمية بما لا أصل له في لغتهم، وإلى ادعاء ما لم يقع عليه اصطلاح من أوليتهم وعدّوا أسماء جهلوا اشتقاقها، ولم ينفذ علمهم في الفحص عنها".. إلى إن قال: "واعلم إن للعرب مذاهب في تسمية أبنائها فمنها ما سموه تفاؤلاَ على أعدائهم نحو: غالب، وغلاب، وظالم، وعارم، ومنازل ومقاتل، ومعارك، وثابت و نحو ذلك. وسموا في مثل هذا الباب مسهراً، ومؤرقاً، ومصبحاً، ومنبهاً، وطارقاً. ومنها ما تفاءلوا به للأبناء نحو: نايل، ووايل، و ناج، و مدرك، و درّاك، وسالم، وسليم، ومالك، وعامر، وسد، وسيد، ومسعدة، وأسعد، وما أشبه ذلك. ومنها ما سمي بالسباع ترهيباً لأعدائهم نحو: أسد، وليث، وفراس، وذئب، وسيد، وعملس، وضرغام، وما أشبه ذلك. ومنها سمي بما غلظ وخشن من الشجر تفاؤلاً ايضاً، نحو: طلحة، وسمرة، وسلمة، وقتادة، وهراسة، كل ذلك شجر له شوك و عضاة. ومنها ما سمي بما غلط من الأرض. وخشن لمسه وموطئه، مثل: حجر، وحجير، و صخر، وفهر، وجندل، و جرول، وحزن، وحزم. ومنها إن الرجل كان يخرج من منزله وامرأته تمخض فيسمي ابنه بأول ما يلقاه من ذلك، نحو: ثعلب، وثعلبة، وضب، وضبة، و خزز، و ضبيعة، و كلب، و كليب، وحمار، و قرد، و خنزير، و جحش، وكذلك أيضاً يسمى بأول ما يسنح أو يبرح من الطير، نحو: غراب، وصرد، وما أشبه ذلك.. خرج وابل بن قاسط وامرأته تمخض، وه و يريد أن يرى شيئاً يسمي به، فإذا هو ببكر قد عرض له، فرجع وقد ولدت اه غلاماً، فسماه بكراً، ثم خرج خرجة أخرى وهي تمخض، فرأى عنزاً من الظباء، فرجع وقد ولدت غلاما فسماه، عنزاً.. ثم خرج خرجة أخرى، فإذا هو بشخيص قد ارتفع له ولم يتبينه نظراً، فسماه الشخيص.. ثم خرج خرجة أخرى، وهي تمخض، فغابه أن يرى شيئاً، فسماه تغلب.. خرج تميم بن مرّ وامرأته سلمى بنت كعب تمخض، فإذا هو بواد قد انبثق عليه لم يشع ر به، فقال: الليل والسيل، فرجع وقد ولدت غلاماً، فقال: لأجعلنه لإلهي، فسمّاه زيد مناة، ثم خرج خرجة أخرى، وهي تمخض، فإذا هو بمكاء يغرد على عوسجة قد يبس نصفها وبقي نصفها، فقال لئن كنت قد أثريتِ وأسريتِ لقد أجحدت وأكديت، فولدت غلاماً فسماه الحرث"... |
قيل لأبي الدقيش الاعرابي: "لم تسمون أبناكم بشر الأسماء نحو كلب وذئب، وعبيدكم بأحسنها نحو مرزوق ورباح?"، فقال: "إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا". وتعرض الجاحظ لهذا الموضوع أيضاً، فقال: "والعرب إنما كانت تسمي بكلب وحمار وحجر وجعل وحنظلة وقرد على التفاؤل بذلك. وكان الرجل إذا ولد له ذكر، خرج يتعرض لزجر الطير والفأل، فإن سمع إنساناً يقول حجر أو رأى حجراً، سمى ابنه به وتفاءل فيه الشدة والصلابة والبقاء والصبر وانه يحطم ما لقي، وكذلك إذا سمع إنساناً يقول ذئب أو رأى ذئباً تأول فيه الفطنة والمكر والكسب، وإن كان حماراً تأول فيه طول العمر والوقاحة والقوة والجلد، وان كان كلباً تأول فيه الحراسة واليقظة وبعد الصوت والكسب". ويظهر مما تقدم أن موضوع التسميات عند العرب كان من الموضوعات التي لفتت إليها الأنظار، لما في كثير منها من غرابة وخروج على المألوف، فانبرى بعض العلماء في شرح الأسباب التي أدت بالعرب إلى اتخاذ تلك التسميات، وإلى ذكر العلل التي دفعتهم عليها كالذي نراه في بحث "ابن دربد" في كتابه "الاشتقاق"، حيث ذكر في مقدمته كل الأسباب التي رآها وتوصل إليها في بحثه عن هذا الموضوع، الذي أثار جانباً منه "رويرتسن سمث" وغيره من المستشرقين.
كما سموا بعبد العزى، و عبد ود وعبد مناة وعبد اللات و عبد قسي و نحو ذلك، مما فيه إضافة العبودية لأحد الأصنام. والمتعارف عليه في الإسلام، هو إرجاع النسب إلى الأب. أما الانتساب إلى الأم،فانه قليل الوقوع. ولهذا يعد الرجل عربياً إذا كان والده عربياً، لا يؤثر فيه نسب أمه إن كانت أعجمية. أما قبل الإسلام، فإن النسب وإن كان تابعاً لنسب الأب، إلا أنه قد يلاحق الولد بالأم. وبالرغم من هذا العرف، فإن العرب في الماضي وفي الحاضر يقيمون وزناً كبيراً لدم الأمهات، بل قد تزيد أهميته عندهم على أهمية دم الأب. والمثل العراقي العامي "ثلثين الولد على الخال"، خير تعبير عن وجة نظرهم تلك، فإنه يمثل نزعة عرق الخال. وهي من النزعات التي أقام لها الجاهليون وزناً كبيراً عندهم. أما وجهة نظر العلم الحديث، فإن لدم الأبوين أثراً متساويا في المولود. وهذا فان موضوع النسب إلى الأب أو الأم، موضوع لا يعالج عنده بالعرف والعادة، بل يعالج وفق قواعد العلم المقررة لديه. وبناءً على ذلك يجب أن نقيم وزناً لموضوع التزاوج المختلط بين العرب والغرباء، وقد كان معروفاً وشائعاً في الجاهلية أيضاً، إذ تزوجوا من الرقيق، ولاسيما الرقيق الأبيض ونسلوا منه، كما سكن في جزيرة العرب آلاف من الغرباء قبل الإسلام واندمجوا في أهلها. وتركوا أثراً في دماء أهلها، يختلف باختلاف مقدار الاختلاط. ويتبين ذلك وضوح في سحن سكان السواحل، لأنهم أكثر عرضة للاختلاط من أبناء البواطن والنجاد. ولا تختلف أسماء القبائل العربية في طبيعتها عن طبيعة أسماء القبائل عند الشعوب الأخرى، ولا سيما قبائل الشعوب المسماة: الشعوب السامية. فهي أسماء آباء وأجداد ترد غالبا في شكل أسماء ذكور، وترد في الأقل في صورة أسماء نساء، وتعدّ عندئذ أسماء أمهات، أي أمهات قبائل، وهي كما قلت قبل قليل ليست أسماء أعيان بالضرورة، فبينها أسماء مواضع نسب سكانها إليها، فصارت بمرور الزمن جداً، وأباً، أو أماً. وبينها أسماء آلهة و اصنام، تعلق المؤمنون بها حتى نسبوا إليها، وبينها أسماء طواطم. ونجد بن أسماء القبائل العربية أسماء ترد عند العبرانيين وعند غيرهم من الشعوب السامية أعلاماً لقبائل كذلك، وقد يكون من المفيد جداً دراسة هذه الأسماء ومقابلتها بعضها ببعض، ودراسة أسماء القبائل العربية دراسة مستفيضة لمعرفة أصولها وتطورها ومراجعة الموارد الأعجمية والكتابات الجاهلية للعثور على تلك الأسماء فيها وتعيين زمن ظهور الاسم فيها لأول مرة. |
الفصل الثالث عشر
تأريخ الجزيرة القديم ليس من السهل بقاء العاديات، التي تتألف من موادَّ منزلية وأدوات ضرورية لحياة الإنسان، مدةَ طويلة في أرضين مكشوفة سهلية، وفي مناطق صحراوية لا حماية فيها لتلك الأشياء. وليس من السهل أيضاً احتفاظ مثل هذه التربة بجدث الإنسان وبعظام الحيوان أمداً طويلاً. وهي معرضة لحرارة شديدة قاسية ولرياح عاصفة قاسية. ولهذا لا يطمع الباحثون في الحصول على كنوز غنية من المناطق السهلة المكشوفة التي تغلب عليها الطبيعة الصحراوية والتي تؤلف أكبر قسم من جزيرة العرب. ومن هنا سيتجه أمل، الباحثين عن الآثار إلى الأودية التي تتوافر فيها الوسائل الكفيلة بنشوء المجتمعات على اختلاف أشكالها، وإلى السهول التي تبعث النهيرات والينابيع والابار الحياة فيها، وإلى الهضاب والجبال حيث توجد المياه وتتساقط الأمطار وتتوافر الكهوف والصخور،وهي من العوامل المساعدة على نشوء الحضارة وحفظ الآثار، للاستفادة منها في الحصول على آثار تحدثنا عن تأريخ جزيرة العرب في آلاف السنين الماضية قبل الميلاد. نشوء الحضارة وحفظ الآثار، للاستفادة منها في الحصول على آثار تحدثنا عن تأريخ جزيرة العرب في آلاف السنين الماضية قبل الميلاد. وليس في استطاعتنا في الزمن الحاضر التحدث عن جزيرة العرب في العصور الجليدية، لعدم وجود بحوث علمية عن هذه العصور في هذه البلاد. كذلك لا نستطيع أن نتحدث عن بلاد العرب في العهود الحجرية، لعدم وجود موارد كافية تساعدنا في الكشف عنها كشفاً علمياً، نعم، عثر على أدوات حجرية في موضع يقال له "الدوادمي" "Dawadami"، وهو يبعد "375" ميلا عن الخليج، عثر عليها مدونة في الأرض، وكان بينها فاس طولها سبع عقد و نصف عقدة، ولها لون يميل إلى الخضرة، وعثر على أدوات حجرية أخرى في أنحاء من جزيرة العرب، وفي جملتها الأحساء وحضرموت، ولكن ما عثر عليه ما زال قليلا، لا يمكن أن يعطينا رأياً واضحاً علمياً في تلك العهود في هذه البلاد. وقد تبين من فحص الأدوات الحجرية التي عثر عليها في الأحساء أنها تتكون من أحجار لا توجد في العروض، وبينها أحجار بركانية أو من حجارة "الكوارتز"، و نن أنواع أخرى من الصخور، إذا رأى فاحصوها إنها أدوات استوردت من العربية الغربية. كما تبين من فحص الأدوات الحجرية التي عثر عليها في إليمن وفي حضرموت إنها من النوع المستورد من فلسطين أو من بلاد الشام، لأنها تشبه الأدوات الحجرية التي عثر عليها هناك. أما الأدوات الحجرية التي عثر عليها في مواضع من حضرموت، فليست محكمةً دقيقة الصنعة، بالقياس إلى ما عثر عليه في فلسطين أو في بلاد الشام أو في إفريقية، وقد عزا بعضهم ذلك إلى طبيعة أحجار هذه المنطقة، وعزاه آخرون إلى تأخر حضارة أهل حضرموت في ذلك العهد بالقياس إلى الحضارات الأخرى. ورأى بعض الباحثين أن أرض، حضرموت كانت في عزلة عن البلاد المتقدمة في الشمال، وأن صلاتها بإفريقية كانت أقوى من صلاتها بشمال جزيرة العرب وبالهلال الخصيب وبحضارة البحر المتوسط، ولذلك صارت الأدوات التي عثر عليها بدائية بعض الشيء بالقياس إلى ما عثر عليه في أعالي جزيرة العرب، حيث كان الاتصال وثيقاً بالحضارات المتقدمة. ومن الأدلة التي تثبت إن اتصال حضرموت بالسواحل الأفريقية المقابلة كان قوياً ووثيقاً في العصور ال "الباليوليثية"، هو عثور المنقبين على فؤوس يدوية في حضرموت تعد من صميم الصناعات التي ظهرت في تلك الأنحاء من أفريقية. ووجودها في حضرموت وعثور المنقبين على أدوات أخرى في من صناعات إفريقية، دليل على شدة العلاقات ومبلغ توثقها بين أفريقية والسواحل العربية الجنوبية ويظن إن الزجاج البركاني، المتكون من فعل البراكين "Obsidian" المتخذ أشكالاً هندسية، مثلثاً أو هلالاً أو مربعاً، الذي يعود إلى الدور المعروف عند علماء الآثار بسور صناعات النصل "Blade Industries"، والذي عثر على نماذج منه في حضرموت، هو من المستوردات التي يرجع أصلها إلى سواحل أفريقية الشرقية. وقد كانت هذه الصناعة مزدهرة في حوض البحر المتوسط وفي أوروبة قبل الألف الثالثة قبل الميلاد. أما في العربية الجنوبية، فيعود عهدها إلى الألف قبل الميلاد. واكتشفت أدوات من العصور الحجرية في "الحملة" ورأس "عوينات علي" "عوينت علي" وجنوب "دخان" من "قطر"، منها فؤوس ومقاشر ونبال وكميات من حجر الصوان. وهذه الصخور هي من العصور "الباليوليثية" و "النيوليثية". وعثر في مواضع متفرقة أخرى من جزيرة العرب على أدوات من عهود مختلفة قبل التاريخ، عثر على أكثرها في مواضع شتى تقع عند الأودية والطرق والمواضع التي تتوافر فيها وسائل الحياة. وسيكون لبحث من يأتي بعدي فيقوم بوضع خارطة أو مخطط للمواضع التي عثر فيها على آلات وأدوات مما قبل التاريخ شأن كبير. ولا شك في الكشف عن مواضع السكنى والحضارة في بلاد العرب قبل التأريخ، |
وفي الكشف عن نظرية تغير الجو في جزيرة العرب ونظرية الهجرات وارتحال السكان من مكان إلى مكان.
وعثر على آثار متنوعة من العصور ال "الباليوليثية" "Palaolithikum" "Palaeolithic" وال "النيوليثية" "Neolithikum" "Neolithic" في الكويت والبحرين وحضرموت ومواضع أخرى من العربية الجنوبية واليمن. وقد ذهب "فيلد" "H. Field" إلى أن اليمن وعدن كانتا مأهولتين بالسكان في العصور "النيوليثية"، ثم هاجر قسم من الناس إلى عمان والخليج، وهاجر قسم آخر بطريق باب المندب إلى الصومال و "كينيا" "Kenya" و "وتنجانيقا"، و هاجر فريق آخر بطريق مأرب ونجران إلى شبه جزيرة سيناء و فلسطين و الأردن. وعثر على آثار من العصور المذكورة في مواضع من المملكة العربية السعودية تتمد من الأحساء "الهفوف" إلى الحجاز، ومن مدائن صالح إلى نجران. وقد عثر على أدوات حجرية في "تل الهبر". وقد كان الصيادون في عصور ما قبل التأريخ يتنقلون باتجاه الأودية من مكان إلى مكان حيث كان الأحوال فيها خير مما عليه الآن. وقصد ترك هؤلاء الصيادون ثم الرعاة بعض الآثار في الأمكنة التي حلّوا بها ما برح السياح وخبراء شركة "أرمكو" وغيرهم يعثرون على قسم منها بين الحين والحين. ووجدت في "كلوة" "Kelwa" التي تقع على سفح "جبل الطبيق" آثار من العهود "الباليوثيكية" القديمة: "Chelleen" وال "Acheuleen" والي "Levalloisien". وقد قدر بعض الباحثين تأريخ السكنى في هذا الموضع إلى الألف الثامنة قيل الميلاد. وقد اكتشف هذا الموضع "هورسفيلد" "G.. Horsfieled" و "كلويك" "N. Glueck"، فوجد آثاراً وصوراً على الصخور، قدّر إنها ترجع إلى آلاف من السنين قبل الميلاد من مختلف العصور. وعثر على كهوف وقد صورت على جدرانها صور حيوانات وصور الشمس، و الهلال و ذلك على طريق التجارة القديمة في العربية الجنوبية، بين وادي يبعث و وادي عرمة. و هي تشبه في أهميتها من دراسة الناحية الاثرية، الصور المتقدمة التي عثر عليها في "كلوة" في الأردن. %533 و قد ذهب بعض الباحثين إلى إن جزيرة البحري ن كانت مأهولة بالناس أيام العصور الجليدية المتأخرة في اوربة، أي قبل خمسين ألف سنة، و أن ساحل الخليج، و لا سيما المنطقة الواقعة بين "الدوامي" و شمال القطيف، كان مزدحماً بالسكان في المحصي ر البرنزية، أي حوالي "3000-2500 ق. م"، كما عثر على أدوات من العصور "الباليوثيكية" في موضع "رأس عوينت علي" "عوينات علي" في شبه جزيرة "قطر". وقد ذهبوا أيضاً إلى أن جو" البحرين آنذاك - أي أيام العصور الجليدية - كان يشبه جوّ بلاد اليونان في الوقت الحاضر. وأن أرضي البحرين كانت مخصبة خضراء، مغطاة بكساء من الغايات. ولعلها كانت متصلة إذ ذاك بالأرض الأم - أرض جزيرة العرب - أما سكانها فقوم من الصيادين. عاشوا على ما يقتنصونه من حيوانات، وفي مقدمتها الأسماك. وقد عثر على أدوات من حجر الصوان، استخدمها أولئك الصيادون في صيدهم وفي تقطيع لحوم الفرائس التي يوقعها سوء حظها في أيديهم. عثر عليها في مواضع متعددة من البحرين، وبعدد كبير أحياناً، مما يدل على أن تلك الأماكن كانت مستوطنة آهلة بالناس. وليس في هذه الأدوات الصوانية ما يشير إلى أصل أصحابها، أو إلى أسمائهم وأسماء المواضع التي كانوا فيها. وكل ما يستفاد منها إنها من أواسط العصور "الباليوثيكية" "Paleothitic"، وذلك بدليل مشابهتها لأدوات من الصوان ترجع إلى هذا العهد عثر عليها في شمال للعراق وفي فلسطين في شمال غربي الهند. وقد عثر في البحرين أيضاً على عدد من رؤوس حراب وسكاكين صنعت من الصخور الصوانية. قدّر بعض الباحثين عمرها يتراوح بين عشرة آلاف واثني عشر ألف سنة. وهي ترجع إلى أواخر أيام الرعي وابتداء عهد الاستيطان والاستقرار والاشتغال بالزراعة. وبين ما عثر كل عليه من هذه الأدوات، أحجار سنّت وشذبت لكي تكون بمثابة آلات لحصد المزروعات ولقطع الحشائش واجتثاثها من الأرض وفي العربية الغربية والعربية الجنوبية جبال ترصعها كهوف، اتخذها الإنسان مساكن له، فأقام فيها قبل الميلاد بأمد طويل، لا نستطيع تقدير زمانه، واتخذ بعضها معابد ومواضع مقسهة، وأماكن للخلوة والتأمل الروحي والعبادة،و بعضها مقابر يودع فيها أجداث آبائه وأجداده وأهله، ولكن أكثر هذه الكهوف قد عبث بها الزمن، وعبثت بها أيدي الإنسان، أكثر من عبث الطبيعة بها، فانتزعت منها ما نبحث الآن عنه من بقايا عظام وتركات سكنى، وآثار فن، فحرمنا بذلك الوقوف على حياة الإنسان في جزيرة العرب في تلك الأيام. وقد أشار الكتبة "الكلاسيكيون" إلى سكان الكهوف في بلاد العرب. وعثر السياح على بقايا تلك الكهوف التي كانت منازل ومساكن آهلة بالناس. ولا يزال الناس يسكنون الكهوف في حضرموت وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد يكون من بينها كهوفاً كانت منازل الأجداد النازلين بها اليوم منذ آلاف من السنين. ولما كانت زيارات السياح هذه الكهوف زيارات سريعة خاطفة، لم يتعمق السائحون فيها في داخل الكهف، ولم تتناول ما على جدر الكهوف من رسوم أو زخارف،وقد يأتي يوم يعثر فيه الباحثون على كنوز من فن سكان الكهوف، ومن مخلفات لهم وعظام تكدست تحت أطباق الثرى، نستخرج منها وصفاً لحياة الإنسان في تلك المناطق من جزيرة العرب، وقد تفيدنا في دراسة الصلات والعلاقات التي كانت بين أهل الجزيرة وبين بقية أنحاء العالم في تلك العهود السحيقة. فيتبين من هذه الآثار القليلة إن بلاد العرب كانت مأهولة بالناس منذ العصور "الباليوثية" "Palaeolithic"، أي العهود الحجرية المتقدمة، وان من أقدم الآثار التي عثر عليها آثاراً من أيام العصور المعروفة ب "Chellian" بين علماء الآثار، أي الأدوار الأولى من أدوار حضارة العصر الحجري، وانه قد عثر على أدوات من الصوان في الربع الخالي وفي حضرموت من عهد ال "Neolithic" والعصور "البرنزية". وعثر على أدوات من الصوان من عصور ال "Chalcolithic" هي من النوع الذي عثر عليه في جنوب فلسطين. ولم يوفق الباحثون للعثور على هياكل كاملة لإنسان ما قبل التأريخ، لا في جزيرة العرب ولا في "سيناء". وللعثور عليها أهمية كبيرة بالنسبة إلى البحث في تأريخ ظهور الإنسان وتطوره، للوقوف على الزمن الذي عاش فيه في بلاد العرب. والجماجم والعظام مادة مفيدة جداً في دراسة التأريخ، ولكن الباحثين لمّا يتمكنوا من الحصول على مقدار كاف منها يكوّن عندهم فكرة علمية عن العصور التي ترجع إليها وعن أشكال أصحابها. |
وقد عثر رجال شركة "أرمكو" للبحث عن البترول في العربية السعودية على بقايا عظام وأسنان لبعض الحيوانات "الحلمية" "Mastodon" وعلى قسم من جمجمة حيوان قديم في موضع يبعد تسعين ميلاً إلى الغرب من "الدمام" ووجد مثل هذه البقايا الحيوانية في أنحاء أخرى من جزيرة العرب، ولكن ما عثر عليه لا يزال قليلاً، لا يكفي لإعطاء آراء علمية عن الحياة في جزيرة العرب في التأريخ القديم.
وقد تعرضت تلك المقابر لعبث الطبيعة ولعبث الطامعين بما فيها من أشياء ثمينة، لذلك أصاب أجسام الموتى التلف، ولم يبق منها غير بقايا من جسيم، إلا ما كان من مقابر البحرين، فقد أعطت الباحثين هيكلن كاملين لم يصبهما أي سوء أو تلف. فقد تبين من فحصهما إن أهل الميت وضعوا جسمي الميتين على الجانب الأيمن ووجهوا الوجهين نحو المشرق، وأمدوا رجلي الميتين. ويبعث وضع الميتين على هذه الصورة الاحتمال بأن أهل البحرين كانوا يتبعون هذه العادة في دفن موتاهم، وهي عادة كانت عند آهل العراق أيضاً، في الألف الثالثة قبل الميلاد. وقد عثر في مواضع من جزيرة العرب على مقابر تبين إنها من نوع المقابر التي يقال لها "تمولي" "Tumuli"، التي عثر عليها في البحرين في نهاية القرن التاسع عشر. أما مقابر البحرين، فهي تلال تكونت من قطع من الصخور، وضع بعضها فوق بعض، لتكون غرفة أو غرفتين، تكون احداهما فوق الأخرى في الغالب، تتخذ قبراً يوضع فيه الموتى، وتكون سقوف الغرف من ألواح الصخور. وبعد إغلاق باب القبر يهال التراب على الصخور، حتى تتخذ شكل تلال. وقد عثر على بقايا خشب فيها، مما يدل على استعمال الخشب في بناء.هذه القبور التي يصل قاعدة بعضها إلى حوالي خمسين ياردة في العرض وحوالي ثمانين قدماً في الارتفاع. ويقدر الباحثون الذين بحثوا عن هذه المقابر عادها بزهاء خمسين ألف تل، وبزهاء "100" ألف تل في تقدير بعض آخر، أي خمسين ألف قبر أو "100" ألف قبر. قبر فيها الإنسان والحيوان جنبا إلى جنب، كما يتبين ذلن من بقايا العظام التي عثر عليها فيها. والغالب أنهم دفنوا الحيوان مع الإنسان، ليستفيد منه الميت في العالم الثاني في عقيدة أهلها يومئذ، وكما نجد ذلك في اعتقاد المصريين واعتقاد غيرهم من الشعوب، ولهذا دفنوا مع الموتى أواني وأدوات بيتية وحلياً وجواهر وفخاراً وغير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان. وقد عثر في هذه المقابر على عدد من الجرار، تشبه الجرار المستعملة في الوقت الحاضر، مما يدل على أن الناس في الوقت الحاضر لا يزالون يسيرون على سيرة أجدادهم الذين عاشوا قيل الميلاد في عمل الجرار وسائر الخزف. وقد صنعت تلك الجرار من الطين، وضعه الخزاف على قرص دولاب يديره برجليه. واستعمل يديه في اكتساب الطين شكل الجرة التي يريدها. ويميل لون هذه الجرار إلى الحمرة. كما عثر على قشور بيض النعام، وقد قطعت بصورة تجعلها كأساً يشرب بها. وعثر على أدوات أخرى، وكل ما عثر عليه غير. مكتوب ولا مؤرخ، لذلك لا نعرف من أمره اليوم ولا من أمر أصحابه شيئاً. وعثر رجال شركة "أرمكو" على عدد كبير من هذه المقابر على حافات جبل "المذرى" الشمالي، قدرها "كورنول" بالألوف، وعثروا كذلك على عدد آخر من هذه المقابر في جبل "المذرى" الجنوبي. وقد حافظت بعض هذه القبور على أشكالها محافظة جيدة، %538 ويشبه بعضها القبور التي عثر عليها "فلبي" في الأقسام الجنوبية الغربية من جزيرة العرب. وولمجد "كورنول" مقابر أخرى في موضع "الرديف" الواقع على بعد "110" أميال من شمال غربي "الدمام"، وفي موضع يقع شمال "عين السبح"، بمسافة أربعة أميال، حيث بلغ قطر أحد تلك المقابر "33" ياردة وارتفاعه "13" قدماً. وقد يمكن من الحصول على هيكل عظمي وعلى فخار وقطع من العاج وقشور بيض للنعام وأسلحة مصنوعة من البرنز. وعثر على مقابر في موضع "المويه" الواقع على "143" ميلاً من شمال شرقي مكة. وقد وصف "فلبي" المقابر التي عثر عليها في "الرويق" وفي مرتفعات "العلم الأبيض" و " العلم الأسود"، فقال: إن أكثرها قد عبث به العابثون، فاًخذوا ما كان داخل الغرف التي كان يوضع فيها الموتى من ذخائر ومواد، وهي مختلفة الأحجام والارتفاع. ويظهر من وجود هذه المقابر في محال صحراوية بعيدة عن مواضع العمران وفي أماكن لا يقيم فيها الناس، أن هذه المناطق كانت مأهولة قبل الإسلام، وأنها كانت ذات تأريخ قديم جداً، ربما يرجع في رأي "فلبي" إلى أيام قدماء "الفينيقيين" وربما كان "الفينيقيون" في رأي "فلبي" أيضاً من الأفلاج والخرج، حيث هاجروا بعدئذ إلى البحرين. وقد سمع "فلبي" بوجود مقابر أخرى من هذا النوع، تعرف بين الناس باسم "الخشبة". وسمع "Thesiger" بمقابر أخرى في موضع "رهلة جهمين". و عثرت شركة "أرمكو" على مقابر عادية كثيرة العدد في "وادي الفاو" و "القرية"، لم تحدد هوية أصحابها حتى الآن. وقد زارها "فلبي" ووصفها، وتبين له أن الموضع وهو "القرية"، كان محاطاً بسور، وجد في داخله آثار بيوت ومقابر، وبين أنقاض المقابر أحجار مكتوبة تدل على إنها كانت شواهد قبور. وعلى مسافة من "القرية" كتابات وصور حيوانات مثل النعامة والأيل، وصور أناس نقشت على الصخر. ويظهر من وصف "جيرالد دي كوري" "Gerald de Gaury" "وفلبي" لمقابر الخرج إنها كثيرة العدد، وأنها في مواضع متعددة من هذه الإيالة عند، "فرزان" و "السلمية" و "السلم"، وهي متفاوتة الأحجام والارتفاع. ولم يتمكن "دي كوري" من تعيين تاًريخها، ولا يمكن التثبت من ذلك بالطبع إِلا بعد القيام بحفريات دقيقة وفحوص للعظام ولمحتويات القبور لمعرفة مكانها في التأريخ. وقد وجد أن أبواب مقابر البحرين قد وضعت في الجهة الغربية، مما يبعث على الظن على أن لهذا الوضع صلة بدين القوم الذين تعود إليهم تلك المقابر. وقد وجد أن المواد والأدوات التي عثر عليها في هذه المقابر تشبه المواد والأدوات التي عثر عليها في المقابر الأخرى التي عثر عليها في المواضع المذكورة من جزيرة العرب. ويظن بعض الباحثين أن أصحاب هذه المقابر كانوا يقيمون في الجهة المقابلة لجزيرة البحرين من الجزيرة، أي على ساحل الخليج، وكانوا قد اتخذوا الجزية مقبرة لهم، فينقلون إليها موتاهم لدفنهم هناك. ومنهم من يرى أن تلك المقابر هي مقابر رؤساء الفينيقيين وأشرافهم الذين كانوا يقطنون البحرين، وأن عهد تلك المقابر يرجع إلى ما بين 3000-1500 سنة قبل الميلاد. وقد عثرت البعثة الدانماركية في سنة "1959 م" في البحرين جنوب طريق "البديع" على أربع مقابر تبين من فحصها إنها ترجع إلى العصور الحجرية. وعثر السياح على تلال في مواضع متعددة من عمان وقطر، تبين إنها مقابر لعهود سبقت الميلاد. وليست لدينا الآن دراسة علمية شاملة عن هذه المقابر: مقابر البحرين، ومقابر المواضع المذكورة من جزيرة العرب، إلا أن آراء من زاروها ورأوها، تكاد تتفق في القول بوجود ترابط في الزمن فيما بينها، ويرجعون أيامها إلى عصر ال "Chalcolithic" أو إلى العصر البرنزي. ومنهم من يرى إنها من العصر البرنزي المتأخر، ويرى أن المقابر المقامة على المرتفعات هي مقابر جماعة من الصيادين أو الرعاة. أما المقابر المقامة على السهول المنبسطة فيرون لنها مقابر قوم مزارعين مستقرين. %541 |
و يظن إن المقابر التي عثر عليها في جزيرة "أم النار" في "أبي ظبي" هي مقابر أقوام عاشوا في الألف الثالث قبل الميلاد، وقد عثر فيها على هياكل عظمية و على خرز و فخار عليه رسوم. و قد كسيت هذه المقابر و غطيت بحجارة منحوتة، حفرت عليها صور ثيران و جمال و أفاعي و حيوانات أخرى. و قد نحتت واجهة الحجر المحيطة بالصور لتظهر الصور بارزة عالية. وبظهر من دراستها إنها من عمل أيد أتقنت مهنتها، وأجادت في فنها بالقياس إلى تلك الأزمنة. وهي تحتاج إلى دراسة لمعرفة مدى تأثرها بفنون الشب الأخرى التي كان لها اتصال بهذه البلاد.
إن هذه المقابر تستحق الدراسة حقاً، لأنها تتحدث عن وجود روابط فكرية مشتركة بن أصحابها، وعن احمتال ارتباطهم بعقيدة دينية واحدة. ولا يستبعد أن تكشف بعض القبور السالمة التي لم تعبث بها أيدي البشر العاتية، عن كتابات مطمورة في غرفها، أو عن صور و نقوش ورموز تتحدث إلينا عن هوية أصحابها وعن مكانتهم في التاريخ وفي الحضارة البشرية بالنسبة إلى الأيام التي عاشوا قيها. وعندئذ نكون قد انتقلنا إلى مرحلة جديدة من مراحل تاريخ العرب القديم، لا نعرف اليوم من أمرها إلا هذا النزر اليسير الذي نتحدث عنه. ولست أستبعد أيضاً احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار أصحاب هذه المقابر في مواضع لا يمكن أن تكون بعيدة عنها، إذ لا يعقل أن يكون ذوو أرحام الموتى قد سكنوا في مواضع قصية نائية عنها. وأن قوماً لهم هذه المهمة في عمل هذه القبور، لا بد أن يكونوا على درجة من الحضارة. والمخلفات للتي عثر عليها في بعض هذه القبور هي خير شاهد على ذلك. فقد عثر فيها على حلي وكل أوان من الفخار وعلى آثار أضرى مصنوعة تظهر براعة في الصنعة والإتقان. ولا يستبعد العثور على أمثالها في مستوطناتهم متى عليها. هذا، وقد عثر بعض السياح على قبور جاهلية في حضرموت وفي اليمن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب، إلا أن هذه المقابر هي أحدث عهداً من تلك، ثم إنها قبور نحتت في الصخور نحتا، ولم تعمل على هيأة تلال على النحو الذي وصفناه. ول "كارل راتجن" "Carl Rathjens" وصف مفصل لمقابر منحوتة زارها تقع على مقربة من مدينة "كوكبان" في اليمن. وهي كثيرة منحوتة في جانب الجبل، منها المنفردة المنعزلة ومنها ما نحتت بعضها فوق بعض. وقد وجد أن أكثرها قد لعبت بها الأيدي، فأخذت ما كان فيها، فخلت من كل شيء. وقد عثر على كتابة سبئية عند أحد أبواب هذه المقابر، مما يدل على إنها كانت لقوم من سبأ. ولا يستبعد بالطبع أن يكون أولءك الناس قد توارثوا هذا النوع من القبور من أسلاف لهم كانوا قد نحتوها. وعلمنا بأحوال جزيرة العرب في العصور "البرنزية"،لا يزيد على علمنا بالعصور الحجرية فيها. فهي ضحلة يسيرة، لأن ما عثر عليه من مخلفات تلك العصور ليس بشيء يذكر ولا يكفي لاستنباط آراء منه. ولا يستبعد بالطبع احتمال عثور المنقين في المستقبل على آثار قد ترجع إلى هذه العصور ستهتك الحجب التي تحول الآن بيننا وبين التعرف على تلك الحقب القديمة من تأريخ الجزيرة وقد وجدت "البعثة الدانماركية" التي نقبت في جزيرة "فليكا" من جزر الكويت على آثار من هذه العصور، إلا إن ما عثر عليه لا يكفي لإعطاء رأي علميا كاف عن العصور البرنزية في هذه الأرضين. وقد عثر في جزيرة "فيلكا" على آثار سكنى وبقايا أبنية وهياكل يرجع عهدها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد تبين أن هذه الجزيرة والجزر الأخرى الواقعة في الخليج كانت ملاجىء يلجا إليها أصحاب السفن والتجار في تلك الأزمنة للاستراحة ولشراء ما يجدونه عند أهل السواحل المقابلة، وللتمون بما يحتاجون إليه من ماء وزاد. ولأهميتها هذه اهتمت بها وبالسواحل المقابلة لها حكومات العراق، فاستولى عليها الأكاديون والأشوريون واليونان. |
وقد عثر على مواد مصنوعة من حديد من العصر الحديدي، غير إنها قليلة لا يمكن أن تكوّن لنا رأياً واضحاً من العصور الحديدية في جزيرة العرب.
وعثر على بقايا جماجم بشرية في "الظهران" تبين من دراستها وفحصها على إنها من العصور "البرنزية". وتدل الأدوات المكتشفة على قلتها على أن شعوب جزيرة العرب حتى في الأزمان البعيدة عن الميلاد كانت على اتصال بالعالم الخارجي ولا سيما العراق وبلاد الشام وحوض البحر المتوسط والقارة الإفريقية،وإنها كانت تستورد منها ما تحتاج إليه من مواد وتبيع لها ما عندها من سلع خام أو من سلع تستوردها من السواحل الإفريقية أو الهند، وأنها لم تكن في يوم من الأيام بمعزل عن بقية العالم. والعراق وبلاد الشام، أي الأرضون التي يقال لها "الهلال الخصيب" في الزمان الحاضر، هي مهن الناحية الطبيعية وحدة لا يستطاع فصلها عن جزيرة العرب، وامتداد طبيعي لها. وليست البادية الواسعة التي يملا باطن الهلال إلا جزءاً من جزيرة العرب، وامتداداً لها، لا يفصلها عنها فاصل، ولا يحد بينها حدّ، و إذا ما تنقلت من بادية الشام إلى بوادي المملكة العربية السعودية، فلا تجد أمامك شيئاً يشعرك بوجود فروق بين طبيعة هذه الأرضين الواسعة، أو وجود حواجز يمنع سكانها من الهجرة نحو الشمال أو إلى الجنوب. وهذا كان من الطبيعي تنقل الناس في هذين الأرضين منذ وجدوا فيها وظهروا عليها بكل حرية، وبحسب الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية. وتأريخ ظهور العرب في بادية الشام وفي أطراف الهلال الخصيب، تاريخ قديم جداً، ولكننا لا نستطيع تحديد مبدئه، ولا تثبيته، لأننا لا نملك أدلة علمية تعينه وتحدده. ثم إن كلمة "العرب" لم تكن تعنى عند الشعوب التي عاشت قيل الميلاد، غير معنى "أعراب"، وكانت إذا ما ذكرت لفظة "عرب" تقصد البدو على نحو ما ذكرت في الفصل الأول في تحديد معنى هذه اللفظة. أما العرب المستقرون، أو شبه الحضر، فقد عرفوا عندهم بأسمائهم، ولهذا اشتبه أمرهم علينا، وعثر على العلماء تعيين هوياتهم، لعدم نص الكتابات أو الكتب القديمة علا انهم عرب بمعنى جنس للسبب المذكور، فصرنا في حيرة من أمرهم، وفي التوراة أسماء قبائل كثيرة، نسبت إلى آباء وأجداد، يجبّ أن تعد من العرب، ولكن التوراة لم تطلق عليها لفظة "عرب"، لأنها لم تكن قبائل بدوية وليست اللفظة فيها إلا بهذا المعنى، فحار العلماء في تعيين أصل كثير منها، وما زالت حيرتهم هذه حتى اليوم. وليس من المستبعد أن يكون بين الشعوب القديمة شعوب عربية، إلا إنها لم تعد من العرب لأن اللفظة لم تكن علماً على جنس قبل الميلاد. تعد من العرب لأن اللفظة لم تكن علماً على جنس قبل الميلاد. و إذا ما أخذنا بنظرية القائلين إن جزيرة العرب هي مهد الساميين، جاز لنا أن نقول عندئذ إن معظم أهل الخصيب والبادية هم من معمل تفريخ الجنس السامي الكائن في تلك الجزيرة، وان ذلك المعمل هو الذي أمدّ هذه الأرضين الممتدة من إيران إلى البحر المتوسط بسلالات الساميين. فصلة جزيرة العرب بالهلال الخصيب صلة قديمة ترجع إلى الأيام الأولى من أيام الساميين، على هذه النظرية، وربما ترجع إلى أقدم س تلك الأيام. وسنرى فيما بعد أن حكام العراق كانوا قد استولوا على العروض في الألف الثالثة أو قبلها قبل الميلاد، وانهم نزلوا في البحرين وفي جزر أخرى من جزر الخليج، وان أصل الفينيقين هو من البحرين في رأي كثير من العلماء، منها هاجروا إلى أرض "فينيقية" وسواحلها، وما كان ذلك ليتم لو كانت جزيرة العرب بمعزل عن الهلال الخصيب أو عن بادية الشام، أو إن الهلال والبادية كانا بمعزل عن جزيرة العرب. وقد ذكر إن جماعة من تجار "أور" كانوا يتاجرون في حوالي السنة 2000ق.م مع البحرين. وكانوا قد انشأوا أسطولاً لنقل التجارة. ويقال إن "سرجون" الأكادي استولى في حوالي السنة "2300 ق. م." على البحرين وقطر، وان البحرين كانت في حوالي السنة "1750 ق. م." في يد قبيلة اسمها "كاروم" "أجارم" "Agarum"، وهو اسم قريب من "أجرم"، و إنها كانت تدفع الجزية إلى الملك "اسرحدون". وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "Agarum" هم أهل مدينة "هجر" التي هي الأحساء. وقد كانت العلاقات التجارية مستمرة دوماً بين البحرين وبين العراق. إذ كانت "دلمون" محطة مهمة جداً للتجارة بين المهند وإفريقية وسواحل الخليج والعراق. تستورد الأخشاب من الهند ومن إفريقية كما تستورد الحاصلات الأخرى وتنقل النحاس من عمان، فتبيع ذلك إلى جنوب العراق، وربما حملت تلك التجارات بسفن يملكها أهل "أور" أو غيرهم خلال نهر الفرات، لنقلها من هناك إلى بلاد الشام ومنها إلى البحر المتوسط لبيعها إلى أهل اليونان وبقية أرجاء "أوروبة". وقد تبين من الأخبار التي تعود إلى أيام الأسرة الثانية من أسر "أور" إن سفن ذلك الوقت "2200 - 2100 ق. م" كانت تقوم برحلات منتظمة فيما بين البحرين و "أور"، وذلك نقل ما يرد إلى هذه الجزيرة من نحاس ومن أحجار ثمينة من عمان، و من ذهب وأخشاب وأفاويه ومواد أخرى ثمينة من الهند. |
وقد نزلت جاليات عراقية في البحرين، كما هاجرت جاليات من البحرين إلى العراق فسكنت به. وما الإلَه "انزاك" "Inzak" الذي عبد في جنوب العراق وشيدت المعابد بأسمه، إلا علامة على هجرة أهل البحرين إلى العراق، وتأثر أهل العراق به. فهذا الإلهَ هو إله أصله من آلهة أهل إلبحرين. و إنتقال عبادته إلى العراق دليل على تأثر العراقيين بثقافة أهل البحرين، ونقل أهل البحرين له معهم إلى وطنهم الجديد.
وقد كانت البحرين ترتاح كثيراً عند انشغال أهل العراق بالتحارب فيما بينهم، أو بانشغال الحكومات المهيمنة عليه بمحاربة جيران العراق من الدول القوية الكبرة، إذ تلهيهم تلك الحروب عن التفكير في السيطرة على البحرين وابتزاز الأموال من أهل الجزيرة، وتكون مل هذه الظروف فرصة ثمينة للدلمونيين، إذ يجدون أسواقاً رائجة تشتري منهم ما يأتون به إلى جنوب العراق، كما يجدون الحكومات مشغولة في معالجة مشكلاتها فلا تشتط كثيراً في أخذ الضرائب من أولئك التجار. والكتابات الآشورية،هي أقدم سجل، لا شك في ذلك، يشير إلى وجود "العرب" في الأرضين الواسعة الممتدة من الفرات إلى مشارف بلاد الشام. ولكن العرب فيه هم أعراب، لا أقل من ذلك ولا أكثر: أعراب متنقلون في الغالب، هائمون في البادية حيث الماء والكلأ والارتزاق من الغارات على الآشوريين وعلى غيرهم. وإلى هذه الغارات يعود، ولا شك، فضل اضطرار الآشوريين إلى الإشارة إليهم في تلك الكتابات، ولولاها لما ذكروا فيها ولا أشير إليهم. وقد وجد هؤلاء الأعراب قبل زمان هذا التسجيل بأمد طويل من دون ريب، و من يدري? فقد يعثر على كتابات جديدة من زمن سحيق، يسبق زمن الكتابات الآشورية، يرد فيها شيء من الأعراب فترتفع بذلك معارفنا عنهم إلى زمن أبعد من هذا الزمن المنصوص عليه في كتابات الآشوريين. أما الموارد الإسلامية، فقد اضطربت في تعيين الزمن الذي ظهر فيه العرب في بادية الشام ومشارقها وفي العراق، ولكنها كلها لا تعرف تأريخاً يسبق التاريخ المذكور في النصوص الآشورية. وما ذكروه عن ظهور العرب في هذه البلاد، فهو مأخوذ من قصص إسرائيلي. ويظهر من رواية "لهشام بن محمد الكلبي" أن العرب كانوا في أرض العراق في أيام "بختنصر"، وانهم كانوا تجاراً يقدمون العراق للتجارات، وذلك في أيام "معد بن عدنان"، وان "بختنصر" جمع ذمن كان في بلاده من العرب حين هم " بغزو العرب في جزيرتهم، إذ نزل وحي من الله على "برخيا"، فبنى لهم "حيراً" على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه، ووكل بهم حرساً وحفظةً، ثم نادى في الناس بالغزو. وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فأنزلهم "بختنصر" السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا عسكرهم بعد، فسموه "الأنبار". وخلّى عن أهل الحرة، فاتخذوها لهم منزلا. فهذا كان مبدأ نزول العرب في العراق. ويظهر من رواية أخرى "لابن الكلبي" كذلك إن الذي أنزل العرب في العراق هو "تبع"، فالعرب الذين نزلوا الحرة و الأنبار هم قوم يمانون. و "تبع" هذا حكم - على زعمه - بعد "ياسر أنعم"، الذي حكم بعد بلقيس، وهو "تبان أسعد"، وهو "أبو كرب بن ملكي كرب بن تبع ابن زيد بن عمرو بن تبع"، وهو "ذو الأذعار بن أبرهة تبع ذي المنار ابن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ"، وكان يقال له "الرائد". وقد خرج من اليمن حتى نزل على جبليْ "طيء" "جل شمّر"، ثم سار يريد "الأنبار". فلما انتهى إلى "الحيرة" ليلاً، تحير فأقام مكانه، فسمي ذلك الموضع "الحيرة". ثم سار، وخلف به قوماً من "إلأزد" و "لخم" و "جذام" و "عاملة" و، "قضاعة"، فبنوا وأقاموا به، ثم انتقل اليهم بعد ذلك ناس من طيء وكلب والسكون و "بلحارث بن كعب" و "إياد"، ثم توجه إلى "الأنبار" ثم إلى "الموصل"، ثم إلى "أذربيجان"، فلقي الترك، ثم انكفأ راجعاً إلى اليمن. وأقام العرب في العراق. " ففيهم من قبائل العرب كلها من بني لحيان وهذيل وتميم وجُعْفي وطيء وكلب". فهذا كان مبدأ نزول العرب السواد من أرض العراق. وحكى "الطبري" رواية أخرى عن "ابن الكلبي" متممة للرواية الأولى عن نزول العرب أرض العراق، خلاصتها: أن العرب الذين أسكنهم "بختنصر" الحيرة، انضموا بعد وفاة هذا الملك إلى أهل "الأنبار"، و بقيت الجزيرة خرابا. فلما كثر أولاد "معد بن عدنان" ومن كان معهم من قبائل العرب وملأوا بلادهم من تهامة وما يلهم، فرقتهم حروب وقعت بينهم، وأحداث حدثه فيهم، فخرجوا يطلبون المتسع والريف فيما يليهم من بلاد اليمن ومشارف الشام، وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين، وبها جماعة من "الأزد" كانوا نزلوها في دهر "عمران بن عمرو" من بقايا "بني عامر"، فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على "التنوخ"، وهو المقام، وتعاقدوا على التآزر و التناصر، فصاروا يداً على الناس، وضمهم اسم "تنوخ". وتطلعت أنفس من كان بالبحرين من العرب إلى ريف العراق، وطمعوا في غلة الأعاجم على ما يلي بلاد العرب منه، أو مشاركتهم فيه، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم على المسير إلى العراق، ووطن جماعة ممن كان معهم على ذلك، فكان أول من طلع منهم "الحيقار بن الحقيق" في جماعة قومه وأخلاط من الناس ثم أعقبتهم موجات أخرى استقرت في الحيرة و الأنبار وغيرها من الأماكن بعد أن تغلبوا على "الأرمانيين". وروي عن "ابن الكلبي" أن "أردشير" لما استولى على الملك بالعراق، كره كثير من "تنوخ" أن يقيموا في مملكته، وان يدينوا له، فخرج من كان منهم من قائل "قضاعة" الذين كانوا أقبلوا مع "مالك وعمرو ابني فهم" و "مالك بن زهر" وغيرهم، فلحقوا بالشام إلى هنا ا من قضاعة. ثم وصلت إليهم جموع أخرى من قبائل العرب، فكونوا ممالك وأمارات، سوف أتحدث عنها. |
هذا ما وصل إليه علم الأخباريين عن العرب في الهلال الخصيب وهو علم لا يستند بالطبع إلى نصوص عربية جاهلية، و إنما أخذ من روايات شفوية، وأخبار وردت على ألسنة الإخباريين ومن روايات أهل الكتاب.
ومن الخطأ بالطبع أن نتصور أن وجود العرب في بادية الشام وشاطئ الفرات وأطراف دمشق يرتقي إلى أيام الآشوريين، أو قبل ذلك بقليل. فوجود العرب في هذه الأرضين هو أقدم من هذا العهد بكثير. و إذا كنا قد أشرنا إلى وجودهم في المواضع المذكورة في هذا العهد، فلان الكتابات الآشورية هي أقدم كتابة وصلت إلينا ووردت فيها إشارة إلى العرب،وإلا فإن العرب هم في هذه الأرضين قبل هذا العهد بكثير. في عهد لا نستطيع بالطبع تعيين ابتدائه، لأن هذه الأرضين هي امتداد لأرض جزيرة العرب، والتنقل بينها وبين جزيرة العرب هو تنقل حرّ ليس له حاجز ولا حدود، فلا نستطيع إذن أن نقول متى سكن العرب بادية الشام. وقد لاقت القبائل العربية مقاومة شديدة وعنتاً شديداً من الحكومات التي حكمت العراق والحكومات التي حكمت بلاد الشام، فقد وقفت تلك الحكومات منذ الدهر الأول لها بالمرصاد، وأبت أن تسمح لهه بالتوغل في داخل أرضها التي نحكمها حكماً فعلياً، ذلك لأنها كانت كًاب الأعراب و تخشى من البداوة، إذ لم يكن من السهل على البدو تغيير سنهم و اقتباس سنن الحضر، ثم إنهم كانوا يغيرون على الحضر وعلى الحدود لأخذ ما يجدونه أمامهم. وقد ترك غزو الأعراب للحدود أثراً سيئاً راعباً في نفوس الحكام جعلهم لا يتسامحون في د********* البدو إلى أرض الحضارة، ما دامت للحكام قوة، ولم يتماهلوا معهم إلا بالوصول إلى حدود الحضارة ومشارفها، وذلك لأنهم نصبوهم حرساً لهم، يمنع القادمين الجدد من البادية من الدنو من أرض الحضارة، ويدافع عن الحدود ساعة الخطر، ويهاجم مع القوات النظامية للحكومة الحاكمة أرض العدو في الحروب، وفي أيام السلم لإلقاء الرعب والفزع في نفس العدو وإكراهه على تنفيذ مطلب يراد منه. وقد اضطرت الحكومات إلى دفع أ دَ وطعم وهبات وعطايا سخية لسادات القبائل الحرّاس في مقابل قيامهم بحراسة الحدود. إذ لم يكن في استطاعة تلك الحكومات القيام بها بنفسها، ولا سيما في تعقب الأعراب وملاحقتهم في البوادي وغزو أعراب العدوّ، فصارت لسادات القبائل جعالات سنوية وهدايا وألطاف وبعض امتيازات لاسترضائهم وإسكاتهم ما داموا أقوياء أعزاء، وجعلت معهم في بعض الأحيان حاميات من قوى تلك الحكومات عليها سياسيون وقادة لمراقبة اعمال سادات القبائل والحدّ من غلوائهم، ولمساعدتهم عند ظهور سيد آخر قوي منافس في الميدان يريد مهاجمة الحدود أو انتزاع الرئاسة من سيد القبيلة صاحب الامتيازات. والحكومات هم عادة إلى جانب سادات القبائل ما دام السادات أقوياء أعزاء. فإذا بدا الوهن عليهم، وتبين أن الأمر قد أفلت من أيديهم، وان سادات جدداً أصحاب كفايات وقُدَر ورؤساء أقوى من رؤساء القبائل القديمة قد برزوا في الميدان، وقد أخذوا على أيدي السادات القدامى، وأن المصلحة تقتضي الآن التحول من القديم إلى الجديد، تحولت تلك الحكومات إلى السادات الجدد، واتفقت معهم على شروط مرضية، للقيام بأداء المصالح والواجبات المذكورة حتى يظهر منافس جديد، يتطاول على القديم فيأخذ مكانه. وهذا هو سر تعدد حكم سادات القبائل، وانتزاع قبيلة الحكم من قبيلة أخرى، و تغير حكم "آل فلان" و "آل فلان"، وحلول حكم قبلي محل حكم قبلي سابق. وسادات القبائل هم على هذه السنة أيضا، فكانوا إذا وجدوا ضعفاً في الحكومة المهيمنة على العراق أو على بلاد الشام وأدركوا إنها في وضع حرج، تقدموا إليها بمطالب جديدة وبشروط جديدة، تكون متناسبة مع حراجة الموقف. فإذا لم تجب قام سيد القبيلة بتهديد مصالح الحكومة وبغزو أرضها أحياناً، وقد يفاوض العدو للاتفاق معه عليها، وقد يثور ويخرج عن طاعتها، ويظل هذا شأنه حتى تجاب مطالبه، أو يتفق معها على شروط يرضى عنها. وبنطبق هذا الوضع على الأعراب الذين يجاورون الحضر، فعلى الحضر دفع جعالة إلى سيد الأعراب في مقابل حمايتهم لهم ومنع القبائل الأخرى المجاورة من الإغارة على أولئك الحضر. ويتقيد هؤلاء السادة بعهودهم مع الحضر ما دامت في مصالحهم. أما إذا رأوا أن الحضر في وضع حرج وأن الحكومة التي ترعاهم، أو حكومة المدينة ضعيفة غير قادرة على الدفاع عن نفسها، فإن الأعراب يفرضون على الحضر مطالب جديدة، ويأخذون منهم امتيازات إضافية مثل حق الارتواء من الآبار ومن مجاري الماء، وحق رعي ماشيتهم في زرع الحضر، إلى غير ذلك من شروط، يضطر الحضر إلى الموافقة عليها للمحافظة على حياتهم وأموالهم، وإلا تعرضوا للغزو ولكوارث أخرى قد تنزل بهم أضراراً تزيد على ما يطلبه الأعراب منهم بكثير. وللسيطرة على حركات الأعراب ولضبطهم، أقامت حكومات العراق وبلاد الشأم لما "مسالح"، أي مواضع حصينة تعسكر فيها قوات نظامية في البادية، يترأسها ضباط، وضعت فيها كل ما يحتاج إليه من سلاح ومؤن وذخائر وقوات كافية للقيام بمثل هذه المهمات الخطيرة في البوادي. وقد حفرت لها آباراً للارتواء منها ونصب ضباط هذه الحصون أنفسهم حكاماً يتحكمون في البوادي التي يشرفون عليها، يفضون مشكلات القبائل، ويحافظون على الأمن، ويراقبون تحركات الأعراب وتنقلاتهم، ليكونوا على حذر منهم و من غزواتهما المفاجئة للحدود. وقد بقيت هذه "المسالح" إلى أيام فتوح المسلمين للعراق و لبلاد الشام. وكان من واجبات هذه الحصون توزيع الأرزاق على الأعراب أيام الشدة والضيق، والتقرب إلى سادات القبائل، وعقد صداقات معهم ليستفاد منهم في كبح جماح أتباعهم، و يحولوا دون تحرشهم بهم، ولئلا يقوموا بمهاجمة الحدود. وكان أقصى مكان سمح للعرب بالوصول إليه هو الشاطىء الغربي لنهر الفرات، وحدود الحضارة لبلاد الشام وأعالي البادية، أي قصر البادية الأعلى. أما ما وراء. ذلك، فكان من الصعب على العرب الوصول إليه، لتشدد الحكومة في منعهم من الدنو منه، وتصلب الحضر تجاههم. ولم يدخله من العرب إلا أفراد أو جماعات تنكرت للبادية ولسننها، وكفرت بسنة الغزو، ورأت في الزراعة وفي احتراف الحرف شرفاً لا يقل عن شرف رعي الإبل والتنقل بها من مكان إلى مكان. أما الذين وتفوا عند هذه الحدود، وهم السواد الغالب، فقد يقوا على سنن البادية، مخلصين لها مؤمنين بحق الغزو والقوة، إلا من اشتم رائحة الحضارة وتنفس قليلاً من ريح الحضارة، وجاور الفرات ومشارف الشام، حيث تلوح معالم الحضر، فقد طوّر نفسه بعض التطور، واستقر في الأرض بعض الشيء وصار وسطاً بين الحضارة و البداوة، لا هو حضري كل الحضري، ولا هو أعرابي تام الأعرابية، و إنما وسط بين بين، ومنزلة بين المنزلتين. ولم يكن من الممكن للأعرابي أن يدرك قيمة الزرع والغرس وحياة الاستقرار لأن الماء وهو جوهر الزرع غير متوافر لديه، ولأن الأمن غير موجود عنده، فهو متى زرع واستقر وكون مجتمعاً حضرياً صغيراً، هاجمه من هم على شاكلته من أهل البادية وسلبوه كل ما لديه. و مجتمعه مجتمع صغير لا يستطيع الاعتماد على نفسه والركون إلى قوته في صد عادية الغزاة، لذلك حالت هذه الظروف دون السكنى والزرع والاستقرار. إلا في الأماكن التي وجدت فيها مياه، وتوافرت لديها القوة، كما لم يكن من السهل على سادات القبائل. إكراه أتباعهم على الاستيطان والسكنى في بيوت من مدر، ذلك لأفهم هم أنفسهم أبناء بادية، وآراؤهم آراء أعرابية ولا يفكر في هذه الشؤون إلا من كان حضرياً مستقراً ومن ولد ونشأ وتثقف في أرض الحضارة. ثم إن تنفيذها يستدعي وجود مال وأمن وقوة رادعة تمنع الأعراب من إفساد ما تقوم به الحضري من عمل مجهد، ولم تكن هذه متوافرة عند سادات القبائل، ولم يكن في وسع سيد القبيلة الذي يجب أن يكون محترساً يقظاً حتى لا يفاجئه منافس طامع من آهل البادية فيأخذ مكانه، أن يأمر قومه بالاستيطان، ووضعه على هذه الحالة من القلق وعدم الاستقرار. لذلك قضت طبيعة هذه البيئة على غالبية الأعراب التي جاءت إلى هذه الأماكن بان تعيش عيشة أعرابية أو عيشة رعي، تعيش على ماشيتها بدلا من الاستقرار استقراراً دائماً والاشتغال بالزراعة والاتجار بالزرع |
لقد كانت القبائل العربية قد توغلت في "طور سيناء." منذ القدم. ولا بد أن تكون هذه القبائل قد نزلت مصر أيضاً، فمن يصل إلى "طور سيناء" يكون قد طرق أبواب مصر. ذهبت تلك القبائل إلى مصر تحمل إليها ما عندها من سلع، وفي جملتها البخور والمر والحاصلات الأخرى التي عرف العرب بالاتجار بها، غير أننا لا نملك و يا للأسف نصوصاً تأريخية نستطيع أن نعتمد عليها في إثبات ذلك الاتصال. نعم، عثر على صور ومدوّنات مصرية للسلالات الملكية الأولى، تشير إلى البدو، والبدوي هو "عمو" في اللغة المصرية. غير أننا لا نستطيع أن نؤكد أن أولئك البدو، هم أعراب من أعراب طور سيناء، أو . من بدو مصر أو من أعراب جزيرة العرب.
والذين يتحدثون اليوم عن صلات السلالات الملكية المصرية القديمة بالعرب وببلاد العرب، إنما يتحدثون عن حدس وتخمين، لا عن وثائق ونصوص أشير فيها صراحة إلى العرب وإلى بلاد العرب، وإن كنا لا نشك كما قلنا بوجوب وجود صلات قديمة جداً ربطت بين مصر وبلاد العرب، لا سيما أن مصر متصلة فعلاً بجزيرة العرب من ناحية البر عن طريق "طور سيناء"، ثم إنها على الساحل المقابل للجزيرة، فلا بد أن يكون هناك اتصال بري وبحري قديم بين العرب والمصريين. ولا يستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار قد تتحدث عن هذا الاتصال. يظهر من أقوال "هيرودوتس" و "بلينيوس"، وغيرهما من "الكلاسيكيين"، إن الأقسام الشرقية من "مصر"، ولا سيما المناطق المتصلة ب "طور سيناء" كانت مأهولة بقبائل عربية. وقد ذكرت أسماء عدد منها في كتب هؤلاء. ولم تستقر هذه القبائل في أيام هؤلاء "الكلاسيكيين"، بل سكنت قبلهم بأمد طويل كما يظهر ذلك من كتبهم. وقد أطلق "الكلاسيكيون" على البحر الأحمر اسم "الخليج العربي" "Arabici Sinus" "Sinus Arabicus"، وفي هذه التسمية معنى يشير إلى نفوذ العرب وهيمنتهم على هذا البحر. ومعارفنا بصلات العرب بالحكومات العراقية القديمة، مثل حكومة السومريين والأكديين "الأكادبين"، لا تزيد على معارفنا المذكورة بصلات المصريين بالعرب، فهي حتى الآن قليلة ضئيلة، ولكن ضآلة ما لدينا من معلومات لا يمكن أن تكون سببا في الحكم بعدم وجود صلات وثيقة بين سكان الخليج و سكان العراق ولا سيما القسيم الجنوبي منه في أيام السومريين، بل وقبل أيامهم أيضاً، فالعراق هو امتداد طبيعي لتربة ساحل الخليج، وهو جزء طبيعي من جزيرة العرب. وهو من ثم لا يمكن أن يكون بمعزل عن أرض الساحل وعن بقية أرض جزيرة العرب. وقد يكون لاسم أرض "دلمون"، وهي ارض السلامة والنظافة، والأرض التي لا تعرف الموت ولا الأمراض والأحزان، والتي لا ينعب فيها غراب، ولا ترفع الطيور أصواتها بعض مما فوق بعض، والتي لا تفترس أسودها، ولا يأكل ذئب فيها حملاً، الجنة في الأسطورة السومرية، علاقة ب "دلمون" التي هي جزيرة البحرين في لغة قدماء أهل العراق. وقد حوّل الخيال السومري، أو خيال من عاش قبلهم على تلك الأرض إلى أرض مسالمة مثالية لا قتال فيها ولا موت ولا حزن، استمده من تلك الجزيرة المسالمة الواقعة في الخليج. ويحدثنا نص كتب عن فتوحات "لوكال - زبهه - سي" "Lugal-Zagge -Si" "2400 -2371 ق. م."، وهو من رجال السلالة الثالثة من ملوك "الوركاء" "Uruk"، أن فتوحاته كانت قد امتدت من "البحر الأسفل" "الخليج العربي" إلى "البحر الأعلى" "Upper Se"، أي البحر المتوسط. ومعنى هذا إن حكمه كان قد شمل الخليج العربي. و في أخبار "سرجون" الاكدي، المعروف ب "شروكين" "Sharru-kin" "3371 - 2316 ق.م "، أي العادل، أن فتوحاته بلغت "البحر الجنوبي" "البحر التحتاني" "البحر الأسفل"، أي الخليج العربي، وأنه استولى على مواضع منه. و "سرجون"، هو أقدم ملك أكدي، يقص علينا خبر وصول الأكديين إلى تلك الجهات. ويلاحظ أن قدماء العراقيين كانوا يطلقون على البحر المتوسط "البحر الأعلى"، و على الخليج العربي "البحر الجنوبي" "The lower sea". وذهب بعض العلماء إلى أن المراد من "البحر الأعلى بحيرة "وان". وقد أرسل الملك الأكدي "منشتوسو" "Manishtusu" "2306 - 2292 ق. م" حملة عسكرية بحرية، يظهر أنها ر كبت السفن من الجزء الجنوبي الغربي من إيران من "شريكم" "Shirikum"، فعبرت الخليج "البحر الأسفل" إلى الساحل المقابل، أي الساحل الشرقي لجزيرة العرب. ولما وصلت سفنه الساحل، تجمع ملوك "المدن"، وبلغ عددهم "32" ملكاً، وقرروا محاربة جنوده، غير أن جنوده انتصروا -كما يقول ملك أكد- على جنود ملوك المدن، واندحر اهل الساحل، واضطروا إلى الاستسلام والخضوع، وسلمت تلك المدن له. وبذلك فرض، سلطان "أكد" عليها إلى موضع "مناجم الفضة". وقد استولى على الجبال جنوب "البحر الأسفل" و أخذ ما وجد فيها من أحجار، فصنع منها تماثيل قدمها نذراً للإله "انلبل" "Enlil". |
وأغلب الظن أن مراد الملك من الجبال أسفل "البحر الأسفل" هي ارض عمان، وهي أرض متصلة من البحر بالبحرين وبالعراق من البر والبحر، كما أن تحرك السفن من جنوب غربي إيران، أي من الأرض العربية المسماة بي "عربستان" في الزمن الحاضر إلى الساحل المقابل، أي ساحل جزيرة العرب الشرقي، يحمل الذهن إلى إن الجبال التي ذكرها الملك هي جبال عمان، و إذا صح هذا الرأي، يكون هذا الملك الاكدي قد و صل في فتوحاته إلى أرض عمان. و جاء في كتابة مدّونة على تمثال الملك "نرام سن" "نارام سن" "نارام سين" "2291-2255 ق.م". أنه أخضع موضع "مكان" مجان "مفان" "Magan"، و تغلب على ملكه "مانو" "مانيوم" "Manium" "ماندانو" "Mannu-Dannu" و أسره. يظهر أن أهل "مجان" "مكان"، وهم قوم لم يشر إلى اسمهم "منشتوسو" والد "نارام سن" "Naram-Sin"، و هم أهل عمان في رأي أكثر العلماء -كما سأتحدث عن ذلك بعد قليل كانوا قد ثاروا على العرقيين الأكديين الذين أخضعهم لحكمه والد "نارام سن"، وذلك في أيامه أو في أواخر أيام والده، فاًرسل لذلك "نارام سن" حملة تأديبية قضت على ثورتهم وأعادتهم إلى حكم الأكديين، وعاد بذلك ساحل الخليج العربي من عمان إلى أعلاه، إلى مملكة أكد. وقد ورد اسم "مكان" "مجان" في خصوص سومرية وأكادية، نشر بعضها العلماء، منها نص للملك "شلجي" أو "دلجي" أو "ونجي" الملقب ب "ملك سومر وأكاد" أفاد وجود صناعة بناء السفن في هذا المكان. والواقع إن أهل الساحل الشرقي لجزيرة العرب عرفوا بناء السفن منذ القدم، وقد ركبوا البحار، وتاجروا، وتوسطوا في نقل التجارة من مختلف السواحل، ولا تزال صناعة بناء السفن الشراعية معروفة حتى اليوم مع قلة ربحها، وعدم تمكنها من منافسة البواخر، إلا إنها على كل حال مورد رزق لأصحابها لاقتناعهم بالقوت القليل. ويدل، عثور المنقبين على أختام ومواد أخرى من عمل الهند، في "اور" وفي "كيش" و "البحرين" ومواضع أخرى من الساحل العربي الشرقي على أن الاتصال التجاري بالبحر. كان معروفاً في الألف الثالثة قبل الميلاد، وأن حركة الاتصال هذه كانت مستمرة عامرة، وان بعض مواضع الخليج مثل "البحرين" كانت من مراسي السفن الشهيرة في تلك الأيام، تقصدها السفن القادمة من العراق في طريقها إلى الهند، والسفن القادمة من الهند في طريقها إلى العراق. وقد دعيت "مكان" "مجان" في نصوص أخرى "Matu-Ma-Gan-Na" أي "أرض مجان". ويظهر إن الملك "مانيوم" "مانئوم" "مانوم" هو الملك "منودنو" "Mannu-Dannu" نفسه الذي ورد في نص آخر. وقد كتبت على التمثال لفظة "بلو" "Belu" بمعنى "سيد"، أي سيد "مجان"، وهو "مانيوم". وقد جيء بحجر التمثال من "مجان". وتعني كلمة "دنو" "المقتدر"، ولذلك يرى بعض الباحثين إنها صفة ألحقت بالاسم، فهي لقبه، وليست جزءاً من الاسم. وفي أنباء "جوديا" "غوديا" "Godea"، و هو "باتيسي" مدينة "لكش"، إنه جلب الحجر من "مجان"، وذلك لصنع التمائيل، كما جلب الخشب منه ومن "سلون". وذكر مع موضع "مجان" اسم موضع آخر هو "ملوخا". وقد ذكر "جوديا" "غوديا" إنه جلب كميات كبيرة من "حجر أحمر" من "ملوخا". وقد اخذ العلماء في تقصي هذين المكانين اللذين أخذ منهما هذا ال "باتيسي" أحجاره وأخشابه، وكذلك أسماء مواضع أخرى ذكرت مع المكانين |
وقد بحث "ونكلر" عن موضع "مجان"، ويقع على رأيه في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب. وقد نبه على اقتران اسم "ملوخا" باسم "مجان" في الغالب " ويرى انهما اصطل*********ن يقصد بهما في البابلية القديمة بلاد العرب، فيراد من "مجان" القسم الشرقي من الجزيرة من أرض "بابل" إلى الجنوب. وآما "ملوخا"، فيراد بها القسم الشرقي من جزيرة العرب. ويرى أيضاً إن ما وقع في جنوب المنطقتين عرف باسم "كوش" أي الحبشة، وان البابليين لم يكونوا يتصورون بلاد العرب شبه جزيرة تحيط بها البحار من الشرق والجنوب والغرب، بل تصوروها منطقة واسعة تمتد من الحبشة إلى الهند، وان "كوش" تقابل مصر التي هي القسم الشمالي من جزيرة العرب. فما ذكر عن "كوش" ومصر في التوراة، لا يقصد به الحبشة ومصر، بل يقصد به جزيرة العرب وشمالها. وقد جاء على ذلك بأمثلة من العهد العتيق، ذكر أن من الصعب إن يكون المراد بها مصر والحبشة.
وقد ألف "ونكلر" رسالة سماها "مصري وملوخا ومعين" ونكلر" هذه جدلاً بين العلماء وقوبلت بنقد شديد، لأنها تعارض ظاهرة نصوص التوراة. وذهب آخرون إلى أن "مجان" هي في المنطقة المسماة "Gerrha" عند "الكلاسيكيين"، وهي الأحساء، وأما "ملوخا" فتمتد من المنطقة الواقعة إلى الجنوب من البحرين إلى عمان. وقد اشتهرت "ملوخا" بوجود الذهب فيها. ومنها حصل "جوديا" "Gudea" "غوديا" على الذهب، كما اشتهرت بالخشب الثمين المسمى "Uschhu". وأما "هومل"، فيرى أن "مجان" في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب، وأن "ملوخا" تقع في وسط جزيرة العرب، أو في القسم الشمالي الغربي منها. وذهب "جيسمن" إلى احتمال وقوع "مجان" على مقربة من ساحل الخليج، في موضع في الرمال جنوب "يبرين"، فيه بئر جاهلية، قال إن اسمها قريب من "مجان" "Magan"، ويعرف هذا المكان باسم "مجيمنة". وقد عارض "فلبي" رأي "جيسمن" هذا، لأن الموضع المذكور يقع في منطقة صحراوية بعيدة عن ساحل البحر، ولا توجد فيه آثار عاديات تشعر إنه كان من المواضع الجاهلية العتيقة، ولا صخور من نوع "الديوريت" الذي صنع منه تمثال "نرام - سين" ولا أي نوع آخر من الصخوِر، يبعث على الظن إنه المكان الذي نقلت منه الحجارة إلى العراق. وقد رأى "فلبي" أن موضع "مجن"، الواقع على مقربة من الساحل عند مصب في وادي "شهبة"، هو أقرب إلى "مجان" من الموضع الذي اختاره "جيسمن"، ولهذا ظن إنه هو المكان المقصود. ويرى "موسل" أن من الصعب جداً الاتفاق على تعيين موضعي "مجان" و "ملوخا"، لأن مدلولي الاسمين قد تغيرا تغيرا مراراً. فالذي يفهم من نصوص الألف الثالثة قبل الميلاد، أنهما يقعان في جزيرة العرب على سواحل الخليج و على سواحل المحيط الهندي. ف "مجان" في نص "نرام-سين" أرض تحد إقليم "بابل"، أو هي لا تبعد عنه كثيراً. وهي كذلك في كتابة "جودية" "جوديا" "غوديا". و في بعض النصوص التي عثر عليها في "أور" حيث أشير إلى طريق قوافل يوصل من "السوس" إلى "مجان". و هذا مما يبعث على الظن أن أرض "مجان" و "ملوخا" المذكورتين في نصوص الألف الثالثة قبل الميلاد تقع على الخليج، في الارضين التي سكن فيها ال "Gerrhaens". وقد كان سكان هذه السواحل يتاجرون منذ القديم مع الهند و ايران و السواحل العربية الجنوبية، و مع إفريقية أيضاً. و يرى احتمال شمول اسم "ملوخا" منطقة واسعة تشمل ما يسمى "كوش" في التوراة، و السواحل العربية الجنوبية التي كانت تعرف ب "كوش" كذلك. و يرى "موسل" أن مدلول "مجان" قد توسع في الألف الأول قبل الميلاد فشمل منطقة كبيرة شملت مصر أيضاً، في النصوص الآشورية التي ترجع إلى الألف الأول قبل الميلاد ب "مجان" طور سيناء و الأقسام المتخامة لها من مصر، و إلى هذا الرأي ذهب "مايسنر" كذلك. أما "ملوخا"، فقد قصد بها الحبشة و السودان. و قد توسع مدلول "حويلة" المذكور في التوراة أيضاً، فشمل المنطقة التي تقع غرب "بابل" إلى طور سيناء و السواحل الشرقية الواقعة على خليج العقبة. و لهذا ظن بعض العلماء أنها صارت تعني "ملوخا". وقد ذهب "كيتاني" إلى إن "مجان" هي "مدين"، لأن أرض "مدين" كانت في حوالي خمسة الألف سنة قبل الميلاد كثيفة الأشجار، و كانت تصدر الأخشاب التي تصلح لبناء السفن. و من مدين أخذ البابليون الذهب و النحاس والأخشاب. أما "موسل"، فيعارض هذا الرأي، ويرى أن من الصعب تصور نقل الأكديين والسومرين والبابليين الأخشاب والصخور الثقيلة من مدين على ظهور الجمال إلى بلادهم مع اتساع الشقة وبعد الطريق، ويرى أن من الصعب تصور نقلها في البحر الأحمر فالبحر العربي فالخليج، فإن ذلك يستدعي زمناً طويلاً ومتاعب كثيرة، ثم إن النصوص لم تشر إلى ذلك. فمن المعقول إن تكون "مجان" في العربية الشرقية على ساحل الخليج. ويرى "كلاسر" أن "Magon Kolpos" الذي ذكره "بطلميوس" لا يعني "خليج المجوس" "Magorum Sinus" حتماً، إذ يجوز أن يكون المراد منه "مجان" "Magan"، أي موضع "مجان" الذي نتحدث عنه. ويقع -في رأيه- على ساحل الخليج، وربما كان عند "القطن" "قطن". ويحتمل -في رأيه أيضاً- أن يكون "Maka" المذكور في نص "دارا". |
ويرى "أوليري" أن "مجان" هي "Gerrha"، وتمثلها الأحساء في الزمن الحاضر. أما "ملوخا" "Meluhha"، فتقع - في رأيه - جنوب الأحساء، في عمان. وقد استدل على ذلك بنص دوَّن في عهد "سرجون" "722 -705 ق. م"، جاء فيه أن مملكته بلغت مسيرة 120 "بيرو" من سقي نهر الفرات إلى "ملوخا" على ساحل البحر، وآن موضع "دلمون" "Dilmum" يقع على مسافة 30 "بيرو" من رأس الخليج. فيجب أن يكون موضع "ملوخا" إذن بعد موضع "دلمون". ولما كان موضع "دلمون" هو "تيلوس" "Tylus" في رأي أكثر العلماء، أي البحرين، فإذن تكون أرض "مجان" وأرض "ملوخا" في العرض، وفي المواضع المذكورة. وذهب بعض آخرون إلى احتمال أن يكون "مجان" "مكان" في العربية الشرقية في موضع عمان.
وقد ذكر الملك "شروكين" "Sharrukin" ملك آشور أن في جملة الأرضين التي خضعت لحكمه أرض "تلمون" "Tilmum" و "مجانا" "مجان" "مجنا" "Maganna"، وتقع في البحر الجنوبي، ويريد به الخليج. ويشر إلى إنه فتح هذه الأرضين بيده، وذلك قبل الميلاد بمئات السنين "1985 ? - 948 1 ? ق. م.". وقد رأى "ينسن" "P. Jensen" أن المراد ب "تلمون" جزيرة "قشم"، على الرغم من ذهاب كثر الباحثين إلى إنها البحرين. وأما "مجان" فإنها في نظره أرض "عمان". وجاء اسم "ملوخا" "ملوخه" "Melluhha" واسم "تلمون" "Tilmun" في جملة أسماء الأرضين التي كان يحكمها ملك آشور "توكولتي نينورتا" "Tukulti-Ninurta"، وقد نعت نفسه ب "ملك كردونيش" "Karduniash" وملك سومر وأكاد، وملك سيبار "Sippar" وبابل، وملك تلمون وملوخا، وملك "البحار العالية" و "البحار التحتية"، وقصد بجملة "البحار التحتية" "بحيرة وان" على ما يظهر، وتقع أعلى آشور، وبجملة "البحار التحتية" البحر الذي يقع أسفل مملكة آشور، أي في جنوبها، ويظهر انه أراد به إن الخليج العربي. و معنى ذلك إنه حكم منطقة واسعة امتدت رقعتها من "بحيرة وان" حتى الخليج، وفي ضمنها "البحرين" والسواحل الواقعة إلى غربها، وهي سواحل، "ملوخا" "ملوحا". دلمون وجبرنا الحديث عن "مجان" و "ملوخا" إلى الحديث عن موضع آخر ورد في النصوص "الأكدية" و "السومرية" و "الآشورية"، هو موضع "ني-تك" "Ni-Tuk" "Ni-Tuk-Ki" و هو "دلمون" "Dilmun" أو "تلمون" "Tilmun". وقد اشتهر بتمره وخشبه وبمعادنه مثل النحاس والبرنز، وكانت فيه مملكة يرأسها ملوك. وقد رأينه إن "جوديا" "Gudea" كان قد أشار إليه وإلى موضع "مجان"، وقد ذكر إنه استورد الخشب منه، كما رأينا اسم هذا المكان في ضمن الأماكن المذكورة في نص "سرجون"، وقد ورد أيضاً في نص للملك "آشور بانبال". وفي نص للملك "سنحاريب" "سنحريب"، وقد ذكر هذا الملك إنه بعد أن تمكن من "بابل" ودكها دكاً، عزم على ضم "دلمون" إلى مملكته، فأرسل وفداً إلى ملكها يخبره أمراً من أمرين: إما الخضوع ل "آشور" وإما الخراب والدمار. فوافق ملك الجزيرة على الاعتراف بسيادة "سنحاريب" عليه، وأرسل إليه بجزية ثمينة. وكذلك كانت هذه الجزيرة في عداد الأرضين التي خشعت ل "آشور بانبال". ويظهر من النصوص أن "دلمون" كانت جزيرة تتمتع بقدسية خاصة، كانت تعدّ من الأماكن المقدسة، وقد رويت عنها أساطير دينية، وعبدت فيها آلهةٌ تعبد لها أهل العراق، مما يدل على الاتصال الثقافي المتين الذي كان بين العراق والبحرين. ووجد اسم الإلهَ "انزاك" في كتابة عثر عليها في البحرين، وتشير أسطورة "أنكي" وزوجه "ننخرساك" وملحمة "كلكمش" "جلجامش" "جلجمش"، وأسطورة "ارض الحياة" وغير ذلك من م القصص الشعبي، إلى هذا الاتصال الطبيعي الذي كان بين جنوب العراق والعروض. وذكر "هومل" أن من كبار آلهة "دلمون": "لخامو" "لخامون"، وهو إلهة أنثى. وأشار أيضاً إلى نص أرخ في السنة السابعة من سني "فيلبس" "Philippus" "فيلفيوس" و تقابل سنة "317 ق.م."، و هو نص "بابلي" و رد فيه اسم أرض دعيت "برديسو" "Pardesu"، و تقابل هذه الكلمة "Pildash" "Pardes" بالعبرانية و "فردوس" بالعربية، %563 و تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب، بين "مجان" و "بيت نبسانو" "Bit Napsanu" التي هي جزيرة "دلمون". و قد حملت هذه التسمية بعض العلماء على التفكير في أن ما ورد عن "جنة عدن" في التوراة، إنما أريد به هذه المنطقة التي تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب و على سواحل الخليج. وقد ذهب أكثر العلاء إلى أن أرض " دلمون" هي جزيرة البحرين، أو جزيرة البحرين والساحل المقابل لها، وذلك لأن المسافة التي ذكرت في نص "سرجون" تكاد تساوي بعد البحرين عن فم نهر الفرات، وهذا مما حملهم على القول إن موضع "دلمون" هو جزيرة البحرين. ثم إن الصلات بين العراق والعروض كانت قوية، والأرض هي على امتداد واحد، فلا مواقع ولا حواجز، ولهذا رجحوا كون "دلمون" هي البحرين. |
وعرفت "دلمون" أو البحرين في الكتب "الكلاسيكية" باسم "تيلوس" "Tylus"، و يرى بعض الباحثين إنه حرف عن "تلوون" "Tilwun"، وهو "Dilmun" في الأصل، وورد معه اسم "أرادوس" "Aradus". وقد ذكر "بلينيوس" "Pliny" أن جزيرة "Tylos" "Tylus" معروفة باللؤلؤ، وبها مدينة عرفت بهذا الاسم كذلك. وعلى مقربة منها جزيرة صغيرة. وهي تقابل الساحل الذي يسكنه الي "الجرهائيون" "Gerrhaens"، نسبة إلى مدينتهم "جرها" "Gerrha". و ينطبق وصف "بلينيوس" لجزيرة "Tylos" "Tylus" على جزيرة البحرين كل الانطباق.
وقد ورد في بعض نصوص "أور" "Ur" إنها صدرت الصوف في السفن . إلى "تلمون" "Tilmun"، كما أشير إلى قوافل كانت تذهب من "أور" إلى هذا الموضع، وقد عادت بأرباح كبيرة. ويظهر من هذه النصوص ومن نصوص أخرى أن الاتجار بين "تلمون" و "أور" كان متصلاً مستمراً، وأن جماعة من تجار "أور" كانوا يرسلون قوافل من السفن إلى "تلمون" للاتجار، تحمل إلى هذا الموضع ما بها حاجة إليه من حاصلات العراق ومن الأموال الواردة إلى العراق من الأسواق الخارجية مثل إيران وبلاد الشام وآسية الصغرى وربما من اليونان وأسواق أوروبة فتبيعها هناك، وربما يشتريها تجار "تلمون" أو غيرهم لتصديرها إلى أماكن أخرى بعيدة مثل الهند،أو إفريقية، أو قلب جزيرة العرب. فإذا انتهى هؤلاء التجار من بيع تجارتهم، يعودون ببضائع من البحرين، هي، في الغالب من تجارة الهند أو إفريقية، في جملتها المعادن والأخشاب والعطور والأشياء النفيسة الأخرى التي كانت تباع بأثمان باهظة، فيربح هؤلاء التجار من هذه التجارة ربحاً كبيراً. وقد كان تجار "تلمون" يأتون بسفنهم إلى "أور" يحملون ما استوردوه من تجارات من الهند أو إفريقية أو جزيرة العرب، لبيع في أسواق "أور" ثم يعودون بسلع أسواق أور، من حاصل العراق وما جلب إلى أور من الخارج. وقد كان هؤلاء التجار يدفعون العشر، ضريبة عن هذا الاتجار. وقد عثر على نصوص تبين من دراستها إنها عقود واتفاقيات عقدت بين تجار للاتجار بين "أور" و "تلمسون"، وبينها وثائق تتعلق بتجارة تجار قاموا بأنفسهم. بالاتجار مع "تلمون". ويظهر من دراستها إن أولئك التجار كانوا يستوردون النحاس بمقياس واسع من "تلمون"، لأنه مطلوب في العراق، ولأن أسعاره هناك أرخص بكثير من سعره في أور، وكان في جملة السلع التي استوردوها من "تلمون" الفضة و "عين السمك"، أي اللؤلؤ على ما يظن. ولا بد أن يكون هذا النحاس من جملة المواد المستوردة من مواضع أخرى إلى "تلمون". وقد تكون أرض عمان في جملة الأماكن التي أمدت هذا الموضع به. فقد عثر في عمان على آثار منجم عند مكان يسمى "جبل معدن" يقع على مسافة "75" ميلاً إلى الشمال الغربي من الجبل الأخضر. فلعل هذا المنجم القديم كان مستغلاً في تلك الأيام يستخرج النحاس منه. ولقد عثر في البحرين على مقابر قديمة كثيرة كما ذكرت قبل. وقد وجد بعد فتحها إنها خططت على نمط واحد، وتتجه مداخلها نحو الغرب، وذلك مما يبعث على الظن إن هذا الاتجاه علاقة بشعائر دينية عند" القوم أصحاب المقابر. وقد وجدت فيها كما سبق أن قلت عظام بشرية، منها جمجمتان بشريتان، وعظام حيوانات يظهر إنها دفنت وهي حية مع أصحابها وفق العقائد الدينية التي كانوا يدينون بها. وضر على مصوغاتَ من الذهب وعلى خرز وأحجار زينة. غير إن هذه الأشياء لم تعط الباحثين حتى الآن فكرة يقينية عن تأريخها وعن أيام أصحابها، والرأي الشائع بين الذين عنوا بدراستها وفحصها إنها مقابر "فينيقية"، لأن البحرين كانا الموطن القديم للفينيقيين،وان لم يصدر حتى الآن رأي جازم في هذا الشأن. |
وقد ضر كما ذكر "ولسن" "Wilson" في مقبرة من هذه المقابر على حجر اسود مكتوب بكتابة تشابه الكتابات المسمارية.
ويستشهد العلماء الذين يذهبون إلى أن تلك المقابر هي مقابر "فينيقية"، وان سكان البحرين هم فينيقيون، بما ذكره "سترابون" من أن في جزيرتي "Tylus" "Tyrus" و "Araus"، مقابر تشابه مقابر الفينيقيين، وان سكان الجزيرة يرون إن أسماء جزائرهم ومدنهم هي أسماء فينيقية. وقد قامت بعثة آثارية دانماركنية بالبحث عن الآثار في البحرين، وقد نبشت الأرض في ثلاث مواضع لاستنطاقها والاستفسار منها عن ماضيها القديم. وقد تأكدت البعثة من أن الأماكن التي نقبا فيها تعود إلى مستوطنات العصر البرنزي. وكان في جملة ما عثرت عليه تمثالين صغيرين لثورين، وفخاراً، وأشياء أخرى. وقد عثر المنقبون على آثار معابد في مواضع. من جزر البحرين، تبين من فحصها إنها خربت مراراً، وان الأيدي لعبت بها، وقد انتزعت أحجارها للاستفادة منها في تحويلها إلى أبنية جديدة. وفي جملة ما عثر عليه في أنقاضها بعض التماثيل وبعض الأحجار المثقوبة، وكانت مذابح تذبح عليها القرابين، فتسيل دماؤها من هذه الثقوب إلى حفرة تتجمع فيها الدماء. وقد تبين أن هذه المعابد، هي من معابد العصر النحاسي والعصر البرنزي، وأن تأريخ بعضها يعود إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد. و يرى كثير من الباحثين في التأريخ القديم أن أصل الفينيقين الساكنيين في "فينيقية" بلبنان هو من هذه المنطقة، أ من البحرين و الساحل المقابل له.و قد ذكر "هيرودوتس" إن المشهور في أيامه أن أصلهم من البحر الأحمر. و لكن العلماء يرون أنه قصد الخليج العربي "Sinus Persicus" لا البحر الأحمر. %567 و يذكرون أن الفينيقين تركوا ديارهم هذه، و هاجروا منها سالكين الساحل، ثم وادي الفرات، و من وداي الفرات يتمموا لبنان، حيث استقروا على الساحل في المنطقة التي عرفت بأسمهم، أي "فينيقية" "Phoenicia". إننا لا نستطيع أن نتحدث الآن عن حكومة العروض أو حكومات العروض في عصور ما قبل الميلاد فما لدينا من أخبار هو نزر يسير. نعم، من الجائز أن يكون أهل هذا الساحل قد كوّنوا لهم حكومة واحدة، ومن الجائز أن يكونوا قد أقاموا حكومات عديدة، حكومات مدن، أو حكومات قبائل، على نحو ما نعرفه عن هذه المنطقة إلى عهد ليس ببعيد. وكما نرى في مشيخات وإمارات الخليج في هذا الزمان. ومن الجائز أن يكون أهل العراق قد أخضوا ذلك الساحل وأقاموا حكومات فيه. ونحن لا نستطيع التحدث الآن عن "أرض البحر" "Mat-Tamtim" هل كانت حكومة قوية عاشت في الألف الثالث قبل الميلاد، حكمت كل الساحل إلى أن غزتها حكومات من العراق أو كانت إمارة أو "مشيخة" في اصطلاح هذا اليوم? ولكن ما نراه من سرعة تغلب الأكاديين والسومريين والآشوريين على أهل الساحل، يثير إلى انهم لم يكونوا أصحاب حكومة قوية وانهم إنما كانوا في أغلب الظن رجال بحر وتجارة، لهم حكومات صغيرة أي إمارات و "مشيخات"، وهذا يفسر لنا سر استسلامها لحكومات العراق بسهولة ويسر وأدائها الجزية لها. وهناك من يزعم أن "السومريين" إنما جاءوا إلى العراق من البحرين، جاءوا إليه في حوالي السنة "3100 ق. م". وقد عرفت البحرين باسم "دلمون" "تلمون" "Dilmun" في نصوص السومريين وقد كانت البحرين محطة مهمة ينزل فيها الناس في هجراتهم نحو الشمال، كما كانت محطة للاتجار مع الهند والبلاد البحرية الأخرى. والرأي الغالب اليوم بين علماء التاريخ القديم أن الكلدانيين الذين سكنوا الأقسام الجنوبية من العراق، إنما جاءوا إلى هذه الأرضين من العربية الشرقية، من ساحل الخليج، وذلك في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد، ثم زحفوا نحو الشمال حتى وصلوا إلى بابل، |
وقد وجد بعض الباحثين كتابات كلدانية تشبه حروفها الحروف العربية الجنوبية القديمة، أي حروف المسند، واستدلوا من ذلك على أن أولئك المهاجرين الذين ربما كان أصلهم من عمان هاجروا إلى ساحل الخليج، ثم انتقلوا منه إلى العراق، ونقلوا معهم خطها القديم، الذي تركوه بعد ذلك حيا استقروا في العراق، لتأثرهم بالمؤثرات الثقافية العراقية. والنماذج القديمة من كتاباتهم التي عثر عليها الباحثون، وإن لم تتحدث عن أصل أصحابها، إلا أن خطها المذكور يشير إلى إنه من العربية الشرقية.
وقد ذهب "سترابو" إلى أن "Gerrha" التي تقع عند "العقير" كانت في الاصل موضعاً للكلدانيين "Chalaer"، وكانت ذات تجارة مع أهل بابل مزدهرة. على كل فالذي يتبن لنا من الأخبار السومرية والأكدية والآشورية وغيرها أن أهل العربية الشرقية كانوا قد كوّنوا لهم حكومات مدن وذلك قبل الألف الثالثة قبل الميلاد، صرفت جل عنايتها نحو التجارة وركوب البحار للاتجار، والاستفادة من البحر لاستخراج ما فيه من سمك و "لؤلؤ"، واستغلال ما في أرضها من ماء للزراعة عليه. والطبيعة هي التي فرضت على أهل هذا الساحل هذا الشكل من الحكم، لأنها لم تمنحهم أمطاراً وافرة نمكنهم من استغلال أرضهم، ولم تعطهم أنهاراً كبيرة طويلة تساعد في نشوء العمران عليها وتكوين حكومات مطلقة، كما في العراق أو في وادي النيل، لذلك انحصرت السكنى في مواضع متناثرة من الساحل، فصعب على السكان تكوين حكومة مطلقة واحدة يكون الحكم فيها حكما مركزاً في أيدي الملوك، لتباعد المدن بعضها عن بعض، لذلك صار الحكم فيها حكم مدن، على المدينة "ملك" أو رئيس يدير شؤون الجماعة، إلاً أن هذا الوضع جعلهم عرضة للغزو إذ طمعت فيهم الحكومات الكبيرة كالذي رأيناه من غزو السومريين والأكديين لهم، وكالذي سنراه فهيما بعد من غزو الآشوريين واليونانيين وغرهم لهذه الأرضين. لقد استورد السومريون والأكديون الذهب والحجارة الصالحة لصنع التماثيل، والأخشاب لبناء المعابد، والأشياء النفيسة الأخرى من "دلمون" ومن "ملوخا" ومن "مكان" "مجان"، وهي أماكن يرى كثير كل من العلماء إنها في العربية الشرقية، وقد تكون تلك المواد من الأموال المستوردة من الهند. على كل حال، فقد توسطت تلك الأماكن في استيرادها وإيصالها إلى العراق، بفضل مهارة سكانها في تسخير البحر وتيسيره، وقد ترك الفتح العراقي فيها أثراً كبيراً يظهر في الآثار العراقية التي استخرجت من باطن الأرض وفي فن العربية الشرقية المتأثر بالفن العراقي. وقد اثر انتقال ثقل الحكم من "أور" ومن القسم الجنوبي من العراق إلى وسطه تأثراً كبيراً في ثراء "اور" واقتصادها، فقد كان في هذه المدينة تجار كوّنوا لهم شركات بحربة لنقل التجارة بين هذه المدينة ومدن الخليج، وربما إلى %570 مدن الهند أيضاً. وقد أثر ذلك فيهم بصوره خاصة حين وضع "حمورابي" أنظمة تحدد الاتجار البحري في ذلك العهد. وقد افتخر ملك "آشور"، الملك "تكولتي - ننورتا" "Tukulti-Ninurta" "1244- 1208ق. م."، بأنه وسّع حدود مملكته في الجنوب، بأن استولى على "سومر" و "أكد"، وثبت حدودها الجنوبية عند "البحر الأسفل حيث مشرق الشمس". ويعني بذلك الخليج، غير إنه لم يشر إلى الأرضين التي استولى عليها في هذا الخليج. هذا كل ما نعرفه اليوم عن تأريخ العرب في العهود القديمة. و هو كما رأينا نزر يسير،أخذ من بحوث أفراد ومن بحوث عرضيةُ حصل عليها عند البحث عن البترول، وأملنا في زيادة علمنا بتلك العهود هو في قيام بعثات علمية بالبحث عن الآثار والعاديات لاستنطاقها عن أحوال تلك العهود. وليس أمامنا بعد هذه المقدمة إلا الد********* في العصور المعروفة التي وصل إلينا بعض أخبارها في الكتابات وفي الموارد الأخرى. وقد كان لأعمال الحفر التي قامت بها شركة "دانماركية" أرسلها متحف ما قبل التأريخ في "Aarhus" بالدانمارك فضل كبير في الكشف عن صفحات مطوية من تأريخ سواحل الخليج. فقد تمكنت هذه البعثة من العثور على آثار من عهود ما قبل العصور التأريخية في البحرين وقطر و "أبي ظي"، كما تعقبت آثار السكنى القديمة في البحرين وعمان وبقية الساحل، وعثرت على معابد قديمة مثل معبد "بربر" "باربار" في البحرين و "تل قلعة البحرين" في البحرين، وتوصك بذلك إلى نتائج قديمة جداً رجعت بتأريخ هذه البلاد إلى عصور بعيدة جدا عن الميلاد، وكان من أعمالها الكشف عن آثار "فيلكا" في الكويت. وقد تبين من دراسة البعثة الدانماركية لآثار معبد "بربر" "باربار" في البحرين، إنه معبد عتيق: يرجع عهده إلى حوالي السنة "3000 ق. م." أو اقدم من ذلك. وأنه كَان معبداً كبيراً به "بئر" مقدسة يستقي منها المؤمنون للتبرك بمائها ولتطهير أجسامهم و لإجراء الشعائر الدينية، ويلاحظ أن الباحثين تمكنوا من العثور على آبار مقدسة في بيوت العبادة الكبرى عند الجاهليين، وهذا يدل على أن معابدهم الكبيرة كانت ذات آبار مقدسة يشربون منها للتبرك والشفاء ولتطهير أجسامهم، شأنهم في ذلك شأن أهل مكة و "زمزم". |
لقد وجدت هذه البعثة تحت أنقاض "تل القلعة" في البحرين بقايا مدينة قديمة يمكن أن تعدّ من مدن الجزيرة الكبيرة أو عاصمتها، يرجع تأريخها إلى حوالي السنة "2500 ق. م.". وكانت مسورة بسور ارتفاعه "16" قدماً عن سطح الأرض، بني باحجارة، وقد بنيت به قلعة لحمايته من هجوم الأعداء، وعثر على باب المدينة، وقد زينت ببناء مربع الشكل. ويقال إن الملك "سرجون" الأكادي كان قد أمر بإحراقها سنة "2300 ق. م."، حتى صارت ركاماً، وبقيت على ذلك طوال أيام "الكاسيين" "الألف الثانية قبل الميلاد"، حتى أعيد بناؤها في القرن السابع قبل الميلاد، فازدهرت وتوافد عليها السكان، وأخذت تتاجر مع العراق. وكانت مزدهرة في أيام "الأخمينيين" و"السلجوقيين"، إلا أن النحس حلّ بها بعد سقوط الحكومة السلجوقية، ولازمها ولم يتركها حتى هجرها الناس.
وفي جملة ما عثرت عليه تلك البعثة آثار مدينة يرجع عهدها إلى منتصف الألف الأولى قبل الميلاد، في مكان يعرف بي "مرب" في القسم الغربي من "قطر". |
الفصل الرابع عشر
العرب في الهلال الخصيب ليس من السهل علينا التعرض في الوقت الحاضر للصلات التي كانت بين العرب الشماليين وبين حكومات الهلال الخصيب في أقدم العهود التأريخية المعروفة التي وقفنا على بعض ملامحها ومعالمها من الآثار، فبينها وليننا حجب كثيفة ثخينة لم تتمكن الأبصار من النفاذ منها لاستخراج ما وراءها من أخبار عن صلات العرب في تلك العهود بالهلال الخصيب. ولعل خبر "نرام - سن" "نرام - سين" "Naram-sin" الأكادي "2270-2223 ق.م."، عن استيلائه على الأرضين المتصلة بأرض بابل والتي كان سكانها من العرب "Aribu" "Arabu"، هو أقدم خبر يصل إلينا في موضوع صلات العرب بالعراق. وهو خبر ينبئك باًن عرب أيام "نرام -سن"، كانوا في تلك المنازل قبل أيامه بالطبع؛ وهي منازل كوّنوا فيها "مشيخات" و "امارات" مثل امارة "الحيرة" الشهيرة التي ظهرت بعد الميلاد. ويحدثنا سفر " القضاة" بأن "المدينيين" والعمالقة وبنو المشرق، كانوا ينتزعون ما بأبدي الإسرائيليين من غلة زراعة، وما عندهم من ماشية، ويغيرون عليهم. كانوا يأتون إليهم بخيامهم "كالجراد في الكرة، وليس لهم ولجمالهم عدد" حتى ذل الإسرائيليون. وأصل المدينيين من جزيرة العرب، استقروا بأرض "مدين" جاءوا إليها من الحجاز، وأخذوا يغزون العبرانيين، ومنها هذه الغزوات التي يرجع بعض الباحثين تاريخها إلى النصف الأول من القرن الحادي عشر قبل الميلاد. أما العمالقة وبنو المشرق، فانهم مثل المدينيين من قبائل العرب. العرب والآشوريون إن أول إشارة إلى العرب في الكتابات الآشورية، هي الإشارة التي وردت في كتابات الملك "شلمنصر الثالث" "شلمناسر" ملك آشور. فقد كان هذا الملك أول من أشار إلى العرب في نص من النصوص التأريخية التي وصلت إلينا، إذ سجل نصراً حربياً تم له في السنة السادسة من حكمه على حلف تألف ضده، عقده ملك "دمشق" وعدد من الملوك الإرميين الذين كانوا يحكمون المدن السورية وملك إسرائيل ورئيس قبيلة عربي، اسمه "جندب". وقد كان هذا النصر في سنة "853" أو "854 ق. م". وقد قصد "شلمنصر" بلفظه "عرب" الأعراب، أي البدو، كما شرحت ذلك في الفصل الأول. أما العرب الحضر، أهل المدر، أي المستقرون، فقد كانوا يدعون كما ذكرت ذلك أيضاً بأسماء الأماكن التي يقيمون فيها أو التسميات التي اشتهروا بها. ذلك لأن لفظة "العرب"، لم تكن قد صارت علماً على جنس، من بدو ومن حضر، بالمعنى المفهوم من اللفظة عندنا. ولم يكن هذا الاستعمال مقتصراً على الآشوريين بل كان ذلك عاماً حتى بين العرب أنفسهم وقد أدى ذلك إلى جهلنا بهويات شعوب ذكرت في النصوص الآشورية وفي النصوص الأخرى وفي التوراة، دون أن يشار إلى جنسيتها، فلم نستطع أن نضيفها إلى العرب للسبب المذكور. وكان ملك "دمشق" "بيرادري" "Bir-Idr"" "Birdri"، المعروف باسم "بنهدد" "Benhaddad" في التوراة، قد هاله توسع الآشوريين وتدخلهم في شؤون الممالك الصغيرة والإمارات، ولم سيما بعد تدخلهم في شؤون مملكة "حلب"، وخضوع هذه المملكة لهم بدفعها الجَزية واعترافهم بسيادة آشور عليها. فعزم على الوقوف أمام الآشوريين، و ذلك بتأليق حلف من الملوك السوريين وسادات القبائل العربية، لدرء هذا الخطر الداهم. وقد انضم إليه "آخاب" ملك إسرائيل، وأمراء الفينيقيين، فكان مجموع من استجاب لدعوته اثنا عشر ملكاً من ملوك سوريا، "وجنديبو" ملك العرب"، |
وقد أمد الحلف بألف جمل وبمحاربين، وكل هؤلاء كانوا قد أصيبوا بضربات عنيفة من الآشوريين وتعلموا بتجاربهم معهم مبلغ قوتهم و غلظتهم على الشعوب التي غلبوها على أمرها، فأرادوا بهذا الحلف التخلص من شرهم و الانتقام منهم والقضاء عليهم.
وعند مدينة "قرقر"، الواقعة شمال "حماة" وعلى مقربة منها، وقعت الواقعة، وتلاقى الجيشان: جيش "آشور" تسيّره نشوة النصر، وجيوش الإرميين والعرب و الفينيقيين ومن انضم إليهم، تجمع بينهم رابطة الدفاع عن أنفسهم، وبغضهم الشديد للآشوريين. لقد تجمع ألوف من جنود الحلفاء في "قرقر" على رواية ملك آشور، لمقاومة الآشوريين و صدّهم مم التوسع نحو الجنوب، واشتركت في المعركة مئات من المركبات. أما النصر فكان حليف "شلمنصر"، انتصر عليهم بيسر و سهولة، وأوقع بهم خسائر كبيرة، وغنم منهم غنائم كثيرة، و تفرق الشمل، وهرب الجميع، وانحل العقد، ورجع ملك آشور إلى بلده منتصراً، مخلداً انتصاره هذا في كتابة ليقف عليها الناس. وإليك بعضَ ما جاء في نص "شلمنصر" عن معركة "قرقر"، لتقف على ما قاله عنها: "قرقر: عاصمته الملكية، أنا أتلفتها، أنا دمرتها، أنا أحرقتها بالنار، 1200 عجلة، 1200 فارس، 20000 جندي لهدد عازر صاحب إرم... ألف جمل لجندب العربي... هؤلاء الملوك الاثنا عشر الذين استقدمهم لمساعدته، برزوا إلى المعركة والقتال، تألبوا عليّ 000". ويلاحظ كثرة عدد العجلات المستخدمة في المعركة بالنسبة إلى تلك الأيام. وهذه الأرقام ليست بالطبع أرقاماً مضبوطة، فقد عودنا الملوك الأقدمون المبالغة في ذكر العدد، والتهويل في تدوين أخبار المعارك والحوادث، للتضخيم من شأنهم وللتعظيم، وتلك عادة قديمة، نجدها عند غير الآشوريين أيضاً. و "جنديبو" اسم من الأسماء العربية المعروفة، هو "جندب". ويكون هنا الاسم أول اسم عربي يسجل في الكتابات الآشورية. ولم يشر "شلمنصر" إلى أرضه والمكان الذي كان يحكم فيه. غير إن القرائن تدل على انها كانت في أطراف البادية، ويرى "موسل" إنها كانت تقع في مكان ما جنوب مملكة "دمشق". وأرى إنه كان ملكاً على غرار الملوك سادات القبائل مثل ملوك الحيرة والغساسنة، حكم على قبائل خضعت لحكمه وسلطانه، وكان يتناول الإتاوات من الحكومات الكبيرة مقابل حماية حدودها من الغارات والاشتراك معها في الحروب. وقد أبلغنا "شلمنصر" الثالث "858 - 824 ق. م." أيضاً، إنه زحف في الجنوب، نحو أرض "كلدو"، أي أرض الكلدانيين، فاستولى عليها وتوغل بعد ذلك نحو الجنوب حتى بلغ "البحر المر" "البحر المالح" "Nar Marratu" أي الخليج العربي، فقهر كل السكان الذين وصلت جيوشه إليهم. ويظهر إنه بلغ حدود الكويت فاتصل بذلك جزيرة العرب وبقبائل عربية ساكنة في هذه الأرضين. |
في السنة الثالثة من حكم "تغلث فلاسر" "تغلاتبلاسر الثالث" "Tiglath Pileser" "745- 727 ق.م." تقريبا، دفعت ملكة عربية اسمها "زيبي" الجزية إلى هذا الملك. و كانت تحكم "أريبي"، أي العرب. و لم يتحدث النص الذي سجل هذا الخبر عن مكان الاعراب أباع "زبيبي".
%577 و قد ذهب "موسل" إلى انه "أدومو" "Adumu"، أي "دومة" "دومة الجندل"، و ذهب أيضا إلى إن الملكة كانت كاهنة على قبيلة "قيدار" "Kedar". و "زبيبي"، هو تحريف لأسم "زبيبة"، و هو من الاسماء العربية المعروفة. و يحدثنا هذا الملك أيضا أنه في السنة التاسعة من ملكه، قهر ملكة عربية أخرى اسمها "سمسي" "شمسي" "Shamsi"، و اضطرها إلى دفع الجزية له بعد أن تغلبت عليها جيوش آشور. و يدعي أنها حنثت بيمينها وكفرت بالعهد الشي قطعته للإلَه العظيم "شماش" "Schamash" بألا تتعرض للآشوريين بسوء، وبأن تخلص لهم، فانتصر عليها، واستولى على مدينتين من مدنها، وتغلب على معسكرها، فلم يبق أمامها غير الخضوع والاستسلام وتأدية الجزية إبلاً: جمالاً ونوقاً. والظاهر إنها انضمت إلى ملك دمشق في معارضته للآشوريين، وتعرضت لقوافل آشور، فجهز الملك عليها حملة عسكرية تغلبت عليها. ولضمان تنفيذ مصالح الآشوريين، قرر الملك تعيين "قيبو" أي مقيم أو مندوب سام آشوري لدى بلاطها، لإرسال تقاريره إلى الحاكم الآشوري العام في سورية عن نيات الملكة واتجاهات الأعراب، وميول قبيلتها، ولتوجيه سياسة الملكة على النحو التي تريده "آشور". وقد ذكر النص الآشوري أن الملكة أصيبت بخسائر فادحة جداً، وهي ألف و مئة رجل، وثلاثون ألف جمل، وعشرون ألف من الماشية، وهي أرقام بولغ فيها جداً، ولا شلك. ويذكرنا اسم الملكة "شمسي" "سمسي" باسم عربي هو "شمس" أو "شمسة". و "شمسة" من الأسماء العربية القديمة التي ما تزال حية. وقد كان في المدينة امرأة نصرانية اسمها "شمسة"، أسلمت على يدي الحسن بن علي بن أبي طالب فحرف الآشوريون الاسم وفْقَ لطقهم وكتبوه على هذا الشكل. وقد صوّر على اللوح الذي ورد فيه خبر الانتصار المذكور، منظر فارسين آشوريين يحملان رمحين، يتعقبان أعرابياً راكبا جملاً، وتحت أعقاب الفرسين وأمامهما جثث الأعراب الذين خروا صرعى على الأرض. وصوّر شعرهم طويلا وقد عقد إلى الوراء، وأما اللحى فكثة، وأما أجسامهم فعارية إلا من مئزر شدّ بحزام. وقد حرص الفنان على تصويره الأعرابي الراكب قريباً جداً من الفارسين" مادّاً يده اليمنى اليهما متوسلاً ومسترحماً ومستسلماً، وصورت الملكة "سمس" "شمسي" "سمسي" حافية، ناشرة شعرها، تحمل جرة من الجرار الاحدى عشرة المقدسة، بعد أن أضناها الجوع والتعب في فرارها إلى "بازو"، وقد خارت قواها المعنوية. وورد في الكتابة الآشورية أن الملكة أرسلت وفداً إلى ملك آشور لمصالحته واسترضائه، ضم عدداً من سادات قبيلتها وأتباعها، منهم "يربع" "يربأ" "Jarapa"، وكان رئيس الوفد، و "تمرنو" "حترنو" "Hataranu" و "جنبو" "Ganabu"، و "تمرنو" "Tamranu".وهي أسماء عربية لا غبار عليها، كتبت بحسب النطق الآشوري. ف "Jarapa" مثلاً، يمكن أن يكون أصله "يرفع" أو "يربع" أو يربوع، و "Hataranu" جائُز إنه "خاطر" أو "خطر"، و "Ganabu" جائز إنه جناب أو "جنب"، و "Tamranu" جائز إنه "يمر" أو "تمار" أو ما شابه ذلك. ولا أرى بنا حاجة إلى ذكر أمثلة عديدة وردت فيها أسماء من مثل "يربوع" "جناب" و "جنب" وأمثال ذلك لدى الإسلاميين. وبعد أداء "شمس" الجزية إلى ملك آشور، دفعت عدة قبائل وشعوب عربية الجزية إليه. وقد جعل بعض الباحثين ذلك في حوالي سنة "738 ق م" وجاء في الترجمة العربية لكتاب "حتي" إن ذلك كان في عام "728 ق م" و إذا كان أداء العرب المذكورين الجزية في السنة التاسعة من حكمه، فيجب أن تكون السنة سنة "736 ق.م." تقريباً، لأن حكم الملك كان في "745 ق.م.". |
الساعة الآن 10:12 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. , Designed & TranZ By
Almuhajir
لا تتحمل منتديات حصن عمان ولا إدارتها أية مسؤولية عن أي موضوع يطرح فيها