سكون
25-03-2007, 11:41 PM
الوشم/ قصة مترجمة للكاتب الياباني تانيزاكي جونيشورو
جرت وقائع هذه القصة في زمن كانت فيه عادة اللهو مزدهرة عند النبلاء. آنذاك لم تكن أعباء الحياة تتطلب نضالا قاسيا لتأمينها. كذلك لم تكن وجوه الأرستقراطيين الشباب والإقطاعيين قد إكفهرت بعد, وكانت جواري الشرف والمحظيات في البلاد مبتسمات دائما. حتى أن مهنتي المهرج وظرفاء المقاهي كانتا موضع تقدير كبير. لقد كانت الحياة مرحة ومبهحة. وأما الجمال والقوة فكانا يعرضا على المسرح, ويذكران في كتابات العصر متلازمين تلازما لا ينفصم. فالكمال الجسماني كان هدفا من أهداف الحياة الرئيسية, لذا كان الناس يشمون أجسامهم بخطوط وألوان متألقة تنساب إنسيابا راقصا. وعندما كانوا يريدون زيارة أماكن المرح, يختارون لحمل المحفّات رجالا وشموا أجسامهم بمهارة. وكانت محظيات يوشيوارا وتاتسومي يمنحن قلوبهن للرجال الذين نقشت أجسامهم بوشم جميل. ورواد المقامر والتجار,ومرافقوا النبلاء وأتباعهم إلى الوشامين.
آنذاك كان ثمة شاب يدعى سيكيشي ذو موهبة مميزة يتابع الموضة, وقد فاقت شهرته عظماء الوشامين. وأشتهر بأصالة رسومه وسماتها الشهوانية, وكانت رسومه تفوز بالجوائز الرفيعة , فتمنى معظم المعجبين بهذا الفن أن يصبحوا من زبائنه, لكنه كان يعزف عن تنفيذ أعماله على الذين لا تروق له جلودهم أو لا تجذبه أجسامهم, ويشترط على الزبائن الذين يقبلهم أن يوافقوا على التصميم الذي يختاره لهم وأن يدفعوا السعر الذي يطلبه منهم, وأن يكونوا مستعدين لتحمل ألم إبره الموجعة جدا لمدة شهر أو شهرين.
وكانت تكمن في قلب هذا الوشام الشاب عواطف ومسرات غريبة, إذ يسر عندما يتورم لحم الزبون وينزف منه الدم القرمزي من وخز الإبرة. وكلما إنخفضت قدرته على تحمل الألم إزدادت صرخاته إرتفاعا, كانت مسرة الفنان أعظم. وكانت تبهجه التصاميم القرمزية المشهورة بشكل فائق, لأنها أكثر أنواع الوشم إيلاما. وبعد أن يتلقي زبونه لتنفيذ هذا الوشم خمسمائة أو ستمائة وخزة, يستحم بماء حار جدا لتغدو الألوان أكثر حيوية. وغالبا ما كان الزبون ينهار عند قدمي سيكيشي وهو بين الحياة والموت.
فيلقى نظرة راضية من طرف عينيه على وجه الضحية المبلل بالدموع. ثم يتابع عمله دون أدنى مبالاة بما حل به.
كانت صبوة طموحه منذ سنين عديدة, أن يخضع لإبرته جلدا صقيلا لفتاة جميلة. ولطالما تمنى بوشم روحه على مثل هذا الجلد. وقد رسم في خلده أوصاف تلك المرأة الخيالية, من الناحيتين الجسمية والنفسية, فلا يكفيه أن يكون وجهها جميلا وجلدها ناعما رقيقا. وكلما طال بحثه عنها عبثا بين المحظيات الشهيرات, تزداد رغبته بها تأججا.
وذات أمسية من أمسيات الصيف, حينما كان يتمشى جذب انتباهه قدم أنثوية باهرة البياض, تختفي صاحبتها خلف ستائر المحفة.
لقد كان يعتقد أن القدم كالوجه تفصح عن سمات متنوعة, فالأصابع مثالية الشكل, والكعب مدورة, والجلد أبيض مغسول بماء قراح من جدول جبلي. صفات نادرا ما تجتمع لتجعل من القدم كاملة التصميم تحرك قلب رجل وتطأ على روحه.
سرعان ما أدرك سيكيشي أن هذه القدم هي للمرأة التي يبحث عنها.
فلحق بها مبتهجا عله يلمح وجهها. لكنه بعد أن تبعها في شوارع عدة أضاعها عند أحد المنعطفات. ومنذ ذلك الحين تحول ما كان في نفسه شوقا غامضا إلى رغبة من أعنف العواطف تأججا.
ذات صباح بعد أن مر عام, إستقبل سيكيشي في منزله فتاة أرسلتها إليه صديقة من صديقاته الراقصات. قالت الفتاة: أعذرني ياسيدي لقد طلبت مني سيدتي أن أسلمك هذا المعطف, لتتلطف برسم صورة الممثل ثواي توجاكو على بطانته. ثم ناولته رسالة ومعطفا ملفوفا بورقة تحمل صورة الممثل.
كتبت الراقصة في رسالتها إلى سيكيشي: أنها تريد أن تقدم رسولتها التي تبنتها أخيرا, لأول مرة للمجتمع كفتاة من الجيشا في مطاعم العاصمة. لذلك تسأله أن يفعل ما يستطيع, ليساعد هذه الفتاة على أن تمضي في مسار حياتها الجديدة. نظر سيكيشي بإمعان إلى وجه الفتاة, فرأى نضوجا غريبا, على الرغم من أنها لم تتجاوز السابعة عشر من عمرها. ورأى في عينيها إنعكاس أحلام الجميلات في هذه المدينة, التي تتجمع فيها كل فضائل البلاد ورذائلها. تحولت نظرة سيكيشي إلى قدميها الرقيقتين المنتعلتين قبقابا مغطى بضفائر من القش, ثم سألها عما إذا كانت تلك الفتاة التي غادرت مطعم هيراسي, في محفة في يونيو المنصرم؟
اجابته الفتاة ضاحكة من سؤاله الغريب: نعم يا سيدي: أنا هي. كان والدي حينذاك لا يزال حيا. وكان يأخذني من حين إلى آخر إلى مطعم هيراسي.
قال سيكيشي: إنني أبحث عنك منذ خمس سنين... مع أنني لم أرى وجهك من قبل, ولكن سبق لي أن رأيت قدمك بارزة من تلك المحفة, فعرفتني بك.
ثمة شئ أريدك أن تشاهديه. هيا تفضلي إلى الداخل... لا تخافي... أمسك بيد الفتاة المترددة المتوجسة, وقادها إلى غرفة في الطابق العلوي تطل على النهر الكبير, ثم أحضر لفافتين كبيرتين وفتح إحداهما أمامها, ظهرت لوحة لموهسي الأميرة المحببة لإمبراطور اليابان القديم تشاور القاسي, تصور الأميرة: متكئة بتكاسل على إفريز شرفة تطل على حديقة. وذيل ثوبها الموشى بزخارف كثيرة يستقر على درجات السلم المؤدي إلى الحديقة, ورأسها الصغير لا يكاد يقدر على حمل تاجها المثقل بالأحجار الكريمة الزرقاء وباللازورد والمرجان. ترفع بيدها اليمنى كأسا وهي تلقي نظرة باردة ليس فيها شئ من الشفقة, على سجين موثوق اليدين والقدمين إلى وتد, يقبع تحتها في الحديقة, على وشك أن يطاح برأسه. لقد أبدع الفنان برسمه ما يعبر عن نفس وأفكار كل من الأميرة والمحكوم عليه بالإعدام بمهارة فائقة, جعلت اللوحة فنا كاملا من الدرجة الأولى.
وحين حدقت الفتاة في اللوحة الغريبة المفزعة, بدأت عيناها تلمعان وشفتاها ترتجفان. وبالتدرج بدأ وجهها يتحول إلى وجه الأميرة.
إبتهج سيكيشي وهو يحملق في الفتاة وقال لها: هذه اللوحة تعكس روحك.
سألته الفتاة بإستنكار وإستغراب: لم أريتني هذه الصورة المرعبة؟
أجابها: المرأة المرسومة في اللوحة هي أنتِ... دمها يتدفق في عروقك!
ثم فتح سيكيشي اللفافة الثانية فظهرت لوحة عنوانها الضحايا! في مركز الصورة ثمة إمرأة تتكئ على شجرة توت تحملق في أشلاء لرجال, مبعثرة عند قدميها. وقد إرتسم الإعتزاز والرضى على محياها الشاحب. وثمة سرب من الطيور الصغيرة تتقافز بين الجثث مغردة بسعادة, وبدا من المستحيل أن يعرف من يشاهد اللوحة فيما إذا كانت تمثل ساحة معركة, أم حديقة في فصل الربيع!
خاطب سيكيشي الفتاة, وهو يشير إلى وجه الصبية في اللوحة, الذي يشبه وجه زائرته شبها غريبا: هذه اللوحة ترمز إلى مستقبلك... أما الرجال المتساقطون على الأرض, فهم من سيخسرون حياتهم بسببك.
صرخت الفتاة: أتوسل إليك... أبعد هذه اللوحة عني. أدارت ظهرها إلى اللوحة وألقت بنفسها على حصيرة القش, وشفتاها ترتجفان وجسمها كله يرتعش. ثم همست... سيدي, لا بد أن أعترف لك... أنا كما خمنت, أمتلك في داخلي طبيعة تلك المرأة, فأشفق عليّ وأبعد عني هذه اللوحة!
أجابها مؤنبا: لا تتكلمي كالجبناء! لأنه جدير بك أن تتأملي اللوحة وأن تدرسيها بوعي... بعدئذ سيذهب عنك الخوف منها!
لم تستطع الفتاة أن تظهر وجهها بعد أن دسته في ردن الكيمينو خوفا من اللوحة. وراحت تكرر: رجاء سيدي, دعني أعد إلى بيتي. إني خائفة من وجودي معك. أجابها سيكيشي بحزم: عليك أن تبقي هنا لحظة. أنا وحدي الذي يستطيع أن يجعل منك إمرأة جميلة. تناول سيكيشي من على الرف قارورة تحتوي على مخدر قوي.
كانت الشمس تسطع متألقة على النهر, وإنعكست أشعتها كأمواج ذهبية على الأبواب وعلى وجه الصبية النائمه. أغلق سيكيشي الأبواب وجلس إلى جانبها, وراح يتأملها مليا للمرة الأولى. فإستطاع أن يستمتع بجمالها. وخال أن بإمكانه أن يظل جالسا يتملاها سنين طويلة. ولكن إندفاعه لإنجاز تصميمه غلبه بعد لحظات. فأحظر أدوات الوشم, وكشف جسد الفتاة, وبدأ يعمل على ظهرها. وبالتدريج صارت روحه تحل في الوشم الذي يرسمه على جلدها الصافي, وكأن كل قطرة من الصباغ القرمزي الذي يحقنه في جلدها, قطرة من دمه تسري في جسم الفتاة.
لم يكن يحس بمرور الزمن. حانت الظهيرة وإنقضت, ثم جرّ النهار الربيعي الهادئ أذياله نحو المغيب ولكن يده ظلت تتابع عملها بشغف ودون أن توقظ الفتاة من نومها. ومع أن القمر صار معلقا في قبة السماء, لم يكن قد أنجز نصف رسمة الوشم. توقف سيكيشي عن عمله ليشعل المصباح. ثم جلس ثانية يتابع عمله دون أدنى كلل. وكانت كل وخزة من إبرة يغرسها في جلد الفتاة, تحتاج إلى جهد, فكان يطلق بين الفينة والفينه تنهيده, وكأن قلبه كان يحس بالوخز. وبدأت تظهربالتدريج معالم عنكبوت ضخم. ومع دخول نور الفجر الباهت إلى الغرفة, تجلى هذا الحيوان ذو الهيئة الشيطانية, فاردا أرجله الثمانية على ظهر الفتاة. أخيرا, أنجز سيكيشي الوشم, تنحى جانبا, وأمعن النظر في أنثى العنكبوت الضخمة المرسومة على ظهر الفتاة, فشعر أنه قد عبر في عمله عن جوهر حياته كلها, لكنه بعد أن أنجز العمل, سرعان ما شعر أن في داخله فراغا هائلا!!
ثم خاطب الفتاة: كي أمنحك الجمال المطلق, سكبت روجي كلها في هذا الوشم, ومن الآن, لن تنافسك إمرأة في اليابان! ولن تعرفي الخوف أبدا, كل الرجال سيكونون ضحاياك. ما أن سمعت كلماته حتى صعدت على شفتيها آنة وإرتجفت أطرافها.
ثم بدأت تعود إلى وعيها تدرجيا.
وبينما كانت ممتدة على بطنها تتنفس بعمق, كانت أرجل العنكبوت تتحرك على ظهرها كأنها أرجل حيوان حي, فأعلمها سيكيشي: لابد أن تعاني... لأن العنكبوت يعانق جسمك بإحكام. فتحت عينيها نصف فتحة عن نظرة بلا معنى. ثم بدأ البؤبؤان يشعان ألقا, يضاهي نور القمر المنعكس على وجه سيكيشي, فأجابته الفتاة: سيدي... لأنك منحتني روحك, فلابد أنني قد أصبحت غاية في الجمال! تكلمت كما لو كانت في حلم, ومع ذلك كان في صوتها نبرة ثقة وقوة. أمرها سيكيشي: عليك أولا أن تستحمي, كي تلمعي الألوان. ثم أضاف: سيكون ذلك مؤلما, مؤلما جدا... هيا تشجعي! أجابته الفتاة: سأتحمل أي ألم من أجل أن أصبح جميلة. ثم هبطت بضع درجات إلى الحمام, وما أن غطست في الماء الحار حتى لمعت عيناها آلما, وراحت تتأوه وتصرخ: إنه كالجمر, حارق جدا, إبتعد عني يا سيدي... لا أحب أن يراني رجل وأنا أتألم... إنتظرني في الطابق العلوي, سألحق بك عندما أكون جاهزة. لكنها عندما خرجت من الحمام, لم تكن قادرة على تنشيف نفسها, ثم تهاوت على الأرض, فإنساب شعرها الطويل على جسدها وبدأت تئن. وبعد أن هدأت, صعدت إلى الطابق الثاني مرتدية ثيابها بعناية. وقد تدلى شعرها الرطب على كتفيها. أما فمها الرقيق وحاجبيها المقوسان, فلم يبدو عليهما أي آثار للمحنة التي خاضتها. لقد بدأت هادئة وفي عينيها وميض بارد! وعلى الرغم من صغر سنها, ظهرت عليها سمات إمرأة قضت سنوات في المقاهي, فإكتسبت خبرة أسرت قلوب الرجال. حدق سيكيشي مندهشا بالتغيرات, التي لحقت بالفتاة التي كانت خجوله ووجله يوم أمس, ثم ذهب إلى الغرفة الثانية وعاد باللوحتين وقال لها: أهديك هاتين اللوحتين, وكذلك الوشم طبعا, قالت له الفتاة بلهجة هادئة باردة: سيدي. الآن قد تحررت من كل خوف... أنت... أنت ستكون ضحيتي الأولى!!
فأجابها: أريد أن أرى الوشم... أريني وشمك. أمالت رأسها صامته. ثم رتبت ثوبها... فسقط نور الصباح على الفتاة اليانعه, وبدأ الوميض الذهبي يشعل العنكبوت!!
جرت وقائع هذه القصة في زمن كانت فيه عادة اللهو مزدهرة عند النبلاء. آنذاك لم تكن أعباء الحياة تتطلب نضالا قاسيا لتأمينها. كذلك لم تكن وجوه الأرستقراطيين الشباب والإقطاعيين قد إكفهرت بعد, وكانت جواري الشرف والمحظيات في البلاد مبتسمات دائما. حتى أن مهنتي المهرج وظرفاء المقاهي كانتا موضع تقدير كبير. لقد كانت الحياة مرحة ومبهحة. وأما الجمال والقوة فكانا يعرضا على المسرح, ويذكران في كتابات العصر متلازمين تلازما لا ينفصم. فالكمال الجسماني كان هدفا من أهداف الحياة الرئيسية, لذا كان الناس يشمون أجسامهم بخطوط وألوان متألقة تنساب إنسيابا راقصا. وعندما كانوا يريدون زيارة أماكن المرح, يختارون لحمل المحفّات رجالا وشموا أجسامهم بمهارة. وكانت محظيات يوشيوارا وتاتسومي يمنحن قلوبهن للرجال الذين نقشت أجسامهم بوشم جميل. ورواد المقامر والتجار,ومرافقوا النبلاء وأتباعهم إلى الوشامين.
آنذاك كان ثمة شاب يدعى سيكيشي ذو موهبة مميزة يتابع الموضة, وقد فاقت شهرته عظماء الوشامين. وأشتهر بأصالة رسومه وسماتها الشهوانية, وكانت رسومه تفوز بالجوائز الرفيعة , فتمنى معظم المعجبين بهذا الفن أن يصبحوا من زبائنه, لكنه كان يعزف عن تنفيذ أعماله على الذين لا تروق له جلودهم أو لا تجذبه أجسامهم, ويشترط على الزبائن الذين يقبلهم أن يوافقوا على التصميم الذي يختاره لهم وأن يدفعوا السعر الذي يطلبه منهم, وأن يكونوا مستعدين لتحمل ألم إبره الموجعة جدا لمدة شهر أو شهرين.
وكانت تكمن في قلب هذا الوشام الشاب عواطف ومسرات غريبة, إذ يسر عندما يتورم لحم الزبون وينزف منه الدم القرمزي من وخز الإبرة. وكلما إنخفضت قدرته على تحمل الألم إزدادت صرخاته إرتفاعا, كانت مسرة الفنان أعظم. وكانت تبهجه التصاميم القرمزية المشهورة بشكل فائق, لأنها أكثر أنواع الوشم إيلاما. وبعد أن يتلقي زبونه لتنفيذ هذا الوشم خمسمائة أو ستمائة وخزة, يستحم بماء حار جدا لتغدو الألوان أكثر حيوية. وغالبا ما كان الزبون ينهار عند قدمي سيكيشي وهو بين الحياة والموت.
فيلقى نظرة راضية من طرف عينيه على وجه الضحية المبلل بالدموع. ثم يتابع عمله دون أدنى مبالاة بما حل به.
كانت صبوة طموحه منذ سنين عديدة, أن يخضع لإبرته جلدا صقيلا لفتاة جميلة. ولطالما تمنى بوشم روحه على مثل هذا الجلد. وقد رسم في خلده أوصاف تلك المرأة الخيالية, من الناحيتين الجسمية والنفسية, فلا يكفيه أن يكون وجهها جميلا وجلدها ناعما رقيقا. وكلما طال بحثه عنها عبثا بين المحظيات الشهيرات, تزداد رغبته بها تأججا.
وذات أمسية من أمسيات الصيف, حينما كان يتمشى جذب انتباهه قدم أنثوية باهرة البياض, تختفي صاحبتها خلف ستائر المحفة.
لقد كان يعتقد أن القدم كالوجه تفصح عن سمات متنوعة, فالأصابع مثالية الشكل, والكعب مدورة, والجلد أبيض مغسول بماء قراح من جدول جبلي. صفات نادرا ما تجتمع لتجعل من القدم كاملة التصميم تحرك قلب رجل وتطأ على روحه.
سرعان ما أدرك سيكيشي أن هذه القدم هي للمرأة التي يبحث عنها.
فلحق بها مبتهجا عله يلمح وجهها. لكنه بعد أن تبعها في شوارع عدة أضاعها عند أحد المنعطفات. ومنذ ذلك الحين تحول ما كان في نفسه شوقا غامضا إلى رغبة من أعنف العواطف تأججا.
ذات صباح بعد أن مر عام, إستقبل سيكيشي في منزله فتاة أرسلتها إليه صديقة من صديقاته الراقصات. قالت الفتاة: أعذرني ياسيدي لقد طلبت مني سيدتي أن أسلمك هذا المعطف, لتتلطف برسم صورة الممثل ثواي توجاكو على بطانته. ثم ناولته رسالة ومعطفا ملفوفا بورقة تحمل صورة الممثل.
كتبت الراقصة في رسالتها إلى سيكيشي: أنها تريد أن تقدم رسولتها التي تبنتها أخيرا, لأول مرة للمجتمع كفتاة من الجيشا في مطاعم العاصمة. لذلك تسأله أن يفعل ما يستطيع, ليساعد هذه الفتاة على أن تمضي في مسار حياتها الجديدة. نظر سيكيشي بإمعان إلى وجه الفتاة, فرأى نضوجا غريبا, على الرغم من أنها لم تتجاوز السابعة عشر من عمرها. ورأى في عينيها إنعكاس أحلام الجميلات في هذه المدينة, التي تتجمع فيها كل فضائل البلاد ورذائلها. تحولت نظرة سيكيشي إلى قدميها الرقيقتين المنتعلتين قبقابا مغطى بضفائر من القش, ثم سألها عما إذا كانت تلك الفتاة التي غادرت مطعم هيراسي, في محفة في يونيو المنصرم؟
اجابته الفتاة ضاحكة من سؤاله الغريب: نعم يا سيدي: أنا هي. كان والدي حينذاك لا يزال حيا. وكان يأخذني من حين إلى آخر إلى مطعم هيراسي.
قال سيكيشي: إنني أبحث عنك منذ خمس سنين... مع أنني لم أرى وجهك من قبل, ولكن سبق لي أن رأيت قدمك بارزة من تلك المحفة, فعرفتني بك.
ثمة شئ أريدك أن تشاهديه. هيا تفضلي إلى الداخل... لا تخافي... أمسك بيد الفتاة المترددة المتوجسة, وقادها إلى غرفة في الطابق العلوي تطل على النهر الكبير, ثم أحضر لفافتين كبيرتين وفتح إحداهما أمامها, ظهرت لوحة لموهسي الأميرة المحببة لإمبراطور اليابان القديم تشاور القاسي, تصور الأميرة: متكئة بتكاسل على إفريز شرفة تطل على حديقة. وذيل ثوبها الموشى بزخارف كثيرة يستقر على درجات السلم المؤدي إلى الحديقة, ورأسها الصغير لا يكاد يقدر على حمل تاجها المثقل بالأحجار الكريمة الزرقاء وباللازورد والمرجان. ترفع بيدها اليمنى كأسا وهي تلقي نظرة باردة ليس فيها شئ من الشفقة, على سجين موثوق اليدين والقدمين إلى وتد, يقبع تحتها في الحديقة, على وشك أن يطاح برأسه. لقد أبدع الفنان برسمه ما يعبر عن نفس وأفكار كل من الأميرة والمحكوم عليه بالإعدام بمهارة فائقة, جعلت اللوحة فنا كاملا من الدرجة الأولى.
وحين حدقت الفتاة في اللوحة الغريبة المفزعة, بدأت عيناها تلمعان وشفتاها ترتجفان. وبالتدرج بدأ وجهها يتحول إلى وجه الأميرة.
إبتهج سيكيشي وهو يحملق في الفتاة وقال لها: هذه اللوحة تعكس روحك.
سألته الفتاة بإستنكار وإستغراب: لم أريتني هذه الصورة المرعبة؟
أجابها: المرأة المرسومة في اللوحة هي أنتِ... دمها يتدفق في عروقك!
ثم فتح سيكيشي اللفافة الثانية فظهرت لوحة عنوانها الضحايا! في مركز الصورة ثمة إمرأة تتكئ على شجرة توت تحملق في أشلاء لرجال, مبعثرة عند قدميها. وقد إرتسم الإعتزاز والرضى على محياها الشاحب. وثمة سرب من الطيور الصغيرة تتقافز بين الجثث مغردة بسعادة, وبدا من المستحيل أن يعرف من يشاهد اللوحة فيما إذا كانت تمثل ساحة معركة, أم حديقة في فصل الربيع!
خاطب سيكيشي الفتاة, وهو يشير إلى وجه الصبية في اللوحة, الذي يشبه وجه زائرته شبها غريبا: هذه اللوحة ترمز إلى مستقبلك... أما الرجال المتساقطون على الأرض, فهم من سيخسرون حياتهم بسببك.
صرخت الفتاة: أتوسل إليك... أبعد هذه اللوحة عني. أدارت ظهرها إلى اللوحة وألقت بنفسها على حصيرة القش, وشفتاها ترتجفان وجسمها كله يرتعش. ثم همست... سيدي, لا بد أن أعترف لك... أنا كما خمنت, أمتلك في داخلي طبيعة تلك المرأة, فأشفق عليّ وأبعد عني هذه اللوحة!
أجابها مؤنبا: لا تتكلمي كالجبناء! لأنه جدير بك أن تتأملي اللوحة وأن تدرسيها بوعي... بعدئذ سيذهب عنك الخوف منها!
لم تستطع الفتاة أن تظهر وجهها بعد أن دسته في ردن الكيمينو خوفا من اللوحة. وراحت تكرر: رجاء سيدي, دعني أعد إلى بيتي. إني خائفة من وجودي معك. أجابها سيكيشي بحزم: عليك أن تبقي هنا لحظة. أنا وحدي الذي يستطيع أن يجعل منك إمرأة جميلة. تناول سيكيشي من على الرف قارورة تحتوي على مخدر قوي.
كانت الشمس تسطع متألقة على النهر, وإنعكست أشعتها كأمواج ذهبية على الأبواب وعلى وجه الصبية النائمه. أغلق سيكيشي الأبواب وجلس إلى جانبها, وراح يتأملها مليا للمرة الأولى. فإستطاع أن يستمتع بجمالها. وخال أن بإمكانه أن يظل جالسا يتملاها سنين طويلة. ولكن إندفاعه لإنجاز تصميمه غلبه بعد لحظات. فأحظر أدوات الوشم, وكشف جسد الفتاة, وبدأ يعمل على ظهرها. وبالتدريج صارت روحه تحل في الوشم الذي يرسمه على جلدها الصافي, وكأن كل قطرة من الصباغ القرمزي الذي يحقنه في جلدها, قطرة من دمه تسري في جسم الفتاة.
لم يكن يحس بمرور الزمن. حانت الظهيرة وإنقضت, ثم جرّ النهار الربيعي الهادئ أذياله نحو المغيب ولكن يده ظلت تتابع عملها بشغف ودون أن توقظ الفتاة من نومها. ومع أن القمر صار معلقا في قبة السماء, لم يكن قد أنجز نصف رسمة الوشم. توقف سيكيشي عن عمله ليشعل المصباح. ثم جلس ثانية يتابع عمله دون أدنى كلل. وكانت كل وخزة من إبرة يغرسها في جلد الفتاة, تحتاج إلى جهد, فكان يطلق بين الفينة والفينه تنهيده, وكأن قلبه كان يحس بالوخز. وبدأت تظهربالتدريج معالم عنكبوت ضخم. ومع دخول نور الفجر الباهت إلى الغرفة, تجلى هذا الحيوان ذو الهيئة الشيطانية, فاردا أرجله الثمانية على ظهر الفتاة. أخيرا, أنجز سيكيشي الوشم, تنحى جانبا, وأمعن النظر في أنثى العنكبوت الضخمة المرسومة على ظهر الفتاة, فشعر أنه قد عبر في عمله عن جوهر حياته كلها, لكنه بعد أن أنجز العمل, سرعان ما شعر أن في داخله فراغا هائلا!!
ثم خاطب الفتاة: كي أمنحك الجمال المطلق, سكبت روجي كلها في هذا الوشم, ومن الآن, لن تنافسك إمرأة في اليابان! ولن تعرفي الخوف أبدا, كل الرجال سيكونون ضحاياك. ما أن سمعت كلماته حتى صعدت على شفتيها آنة وإرتجفت أطرافها.
ثم بدأت تعود إلى وعيها تدرجيا.
وبينما كانت ممتدة على بطنها تتنفس بعمق, كانت أرجل العنكبوت تتحرك على ظهرها كأنها أرجل حيوان حي, فأعلمها سيكيشي: لابد أن تعاني... لأن العنكبوت يعانق جسمك بإحكام. فتحت عينيها نصف فتحة عن نظرة بلا معنى. ثم بدأ البؤبؤان يشعان ألقا, يضاهي نور القمر المنعكس على وجه سيكيشي, فأجابته الفتاة: سيدي... لأنك منحتني روحك, فلابد أنني قد أصبحت غاية في الجمال! تكلمت كما لو كانت في حلم, ومع ذلك كان في صوتها نبرة ثقة وقوة. أمرها سيكيشي: عليك أولا أن تستحمي, كي تلمعي الألوان. ثم أضاف: سيكون ذلك مؤلما, مؤلما جدا... هيا تشجعي! أجابته الفتاة: سأتحمل أي ألم من أجل أن أصبح جميلة. ثم هبطت بضع درجات إلى الحمام, وما أن غطست في الماء الحار حتى لمعت عيناها آلما, وراحت تتأوه وتصرخ: إنه كالجمر, حارق جدا, إبتعد عني يا سيدي... لا أحب أن يراني رجل وأنا أتألم... إنتظرني في الطابق العلوي, سألحق بك عندما أكون جاهزة. لكنها عندما خرجت من الحمام, لم تكن قادرة على تنشيف نفسها, ثم تهاوت على الأرض, فإنساب شعرها الطويل على جسدها وبدأت تئن. وبعد أن هدأت, صعدت إلى الطابق الثاني مرتدية ثيابها بعناية. وقد تدلى شعرها الرطب على كتفيها. أما فمها الرقيق وحاجبيها المقوسان, فلم يبدو عليهما أي آثار للمحنة التي خاضتها. لقد بدأت هادئة وفي عينيها وميض بارد! وعلى الرغم من صغر سنها, ظهرت عليها سمات إمرأة قضت سنوات في المقاهي, فإكتسبت خبرة أسرت قلوب الرجال. حدق سيكيشي مندهشا بالتغيرات, التي لحقت بالفتاة التي كانت خجوله ووجله يوم أمس, ثم ذهب إلى الغرفة الثانية وعاد باللوحتين وقال لها: أهديك هاتين اللوحتين, وكذلك الوشم طبعا, قالت له الفتاة بلهجة هادئة باردة: سيدي. الآن قد تحررت من كل خوف... أنت... أنت ستكون ضحيتي الأولى!!
فأجابها: أريد أن أرى الوشم... أريني وشمك. أمالت رأسها صامته. ثم رتبت ثوبها... فسقط نور الصباح على الفتاة اليانعه, وبدأ الوميض الذهبي يشعل العنكبوت!!