خالد
04-10-2006, 02:44 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم عجّل لوليّك الفرج واجعلنا من أعوانه وأنصاره والمستشهدين بين يديه
بعد أن مضت خمس عشرة سنة على أحداث سبتمبر 1941 ، وتربّع الملك البهلوي الثاني على العرش ؛ ولدتُ في قرية نائية من نواحي مدينة گرمسار ، في عهد ، كانت الأرستقراطيّة تعدّ شرفاً فيه والسكن في المدن يحتسب كمالاً للمرء .
لقد خُطّط للشاه أن يجعل من ايران بوّابة للحضارة الغربية ، فنفّذ الكثير من المشاريع من أجل أن يتحوّل البلد إلى سوق استهلاكية أخرى لبضائع الغرب الكمالية ، من دون أن تخطو ايران خطوة في سبيل التطوّر العلمي . لكنّ ثقافة ايران الإسلامية لم تكن لتسمح بتحقّق هذه الهجمة ، و كانت حائلاً دون طموحات الشاه و أسياده الأجانب . و من هنا حاولوا أن يُفقدوا هذه الثقافة أصالتها و رسوخها و أن يخفّفوا من شدّة وطأتها في حياة الشعب ، لتتحقّق تبعيّة إيران للغرب اقتصادياً و سياسياً و ثقافياً يوماً بعد آخر . ونفّذوا من المخطّطات البليدة ما نفّذوا وأضفوا على المدن جمالاً وازدهاراً زائفين ، فاتّسمت تلك السنين بسنوات هجرة القرويّين نحو المدن . و لقد زاد الطين بلّة ما يسمّى بسياسة الإصلاحات الأرضيّة فساءت حالة القرى والأرياف وانخدع القرويّون المساكين بمظاهر المدن واستقطبتهم وهاجروا إليها من أجل الحصول على ما يسدّون به رمقهم . وإذا بهم يقطنون الضواحي و الضياع المحيطة بدلاً من استقرارهم في المدن نفسها .
واشتدّت الوطأة على أسرتنا ، خاصّة بعد أن ولدت أنا رابع أبناء الأسرة . لم يكن والدي قد درس سوى المرحلة الابتدائيّة ، لكنّه كان حدّاداً كادحاً عركته الحياة ، ذا حظّ من الإيمان بالله و العلم بمعالم الدين الحنيف . وقد شهد المسجد تواجده المستمرّ والدائب في حلقات القرآن الكريم و تدريس أحكام الفقه والشريعة . ولم يسعَ يوماً وراء ملذّات الدنيا وبهارجها ، إلاّ أنّ شظف العيش اضطرّه إلى ترك القرية والسكن في طهران عاماً بعد ولادتي . وفي طهران قطنّا محلّة پامنار ، و عرّفنا الوالد الحاني بالمسجد والمنبر لينأى بنا عن البيئة التي أوجدتها سياسات الشاه المتعسّفة والتي لها ظاهر أنيق متحضّر وهي في الحقيقة ضائعة لا هويّة فيها . و بالنسبة لي فإنّي ما إن كبرت وبدأت مرحلة الطفولة عندي حتى وجدتني على صلة بالمسجد و رجال الدين الشرفاء .
كان والدي يقتني الصحف ويقرأها دوماً . و عندما كنت في الصفّ الأول الابتدائي استطعت بمعونة الكبار أن أقرأ خبر قانون الحصانة ( كابتولاسيون ) في الصحيفة . في وقتها كنت صغيراً لا أدرك معنى الحصانة إلاّ أنّي فهمت من احتجاجات الحوزة العلمية و الإدانات التي أطلقها رجال الحوزة بقيادة الإمام الخميني و من سياسة القمع الشديدة التي انتهجها الشاه في القضاء على أصداء الرفض و المقاومة ، فهمت أنّ الشاه ينوي فتح صفحة أخرى من دفتر حياته السوداء وتمرير سياسة مقيتة يحطّ فيها من شأن الشعب الإيرانيّ تجاه الأجانب . وفي الخامس من حزيران عام 1963م ارتکب الشاه مجزرة مروّعة بحقّ أنصار الإمام الخميني ( رحمه الله ) ولتوّه كان الإمام قد أطلق سراحه من المعتقل .
لست أنسى كلمات الإمام في تلك الأيام ، كانت تشدّ الجميع إليها ويفوح منها عطر الإيمان بالله وتدعو الناس إلى الإسلام الحقيقي . كان يدعو الناس والحکومة إلى التوحيد والعدل وإزالة الظلم والفتنة من العالم . كان شجاعاً يتحدّث باقتدار ، والصدق والبساطة تسطعان من كلامه . وما أنفذ إرشاداته إلى قلوب الناس وأعماق الضمائر!. بهذه الخصال الحميدة ازدادت شعبيّته وأحبّه الشعب شباباً وشيباً وفي المقابل وجد عليه النظام الشاهنشاهي وأسياده الأميركيّون . واللطيف أنّ أعداءه أيضاً كانوا يكنّون له الاحترام ويجلّونه .
وشيئاً فشيئاً ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ولم يعودوا يحتملون وجود الإمام ، لكن أنّى لهم القضاء عليه ؟ فهم يعرفون حقّ المعرفة أنّ قتل الإمام سيؤدي إلى انتفاضة دامية لا تُحتوى ، فقرّروا إقصاءه ليحولوا بينه وبين أنصاره زاعمين أنّ ذلك سيخمد لهيب الثورة الوشيكة .
وفي ليلة ظلماء أقصي الإمام واستمرّ إقصاؤه 14 عاماً . عندما كان الإمام بعيداً عن الوطن تشبّعتُ من أفكار الإمام في الدروس التي حضرتها لدى تلامذته ، وكلّما تعرّفت إلى هذا الرجل الربّاني ونظرياته كلّما ازددت شوقاً إليه وشعرت بألم فراقه وصعوبة البعد عنه . قد يكون الأعداء نجحوا في إبعاده عن وطنه وشعبه ؛ إلاّ أنّه كان قد حلّ في قلوب الناس وأرسى مكانته فيها .
وفي أيام دراستي الثانوية بدأت السلطة احتفالاتها الموسومة بألفين وخمسمائة عام من الملكيّة الإيرانية . في تلك السنوات كان الفقر المدقع يلقي بكاهله على أعتاق الناس . فتكاليف احتفالات السلطة وبذخ العائلة المالكة وأبناء الأشراف وضيوفهم الأجانب قد قصمت ظهور الناس ، وجميع وسائل الاحتفالات استوردت في طائرات خاصّة من الخارج بحيث يمكنني أن أزعم أنّ هذ الاحتفال المشؤوم كان أبهظ احتفال عرفته البشرية في تاريخها .
وللحديث شؤون وشجون ؛ في تلك الظروف لم تعد مطرقة والدي وسندانه لتسدّان حاجة الأسرة ، فاضطررت للعمل في ورشة جار لنا أكبس الصفائح لقنوات التبريد ، من أجل تأمين حاجات الدراسة وإعانة الوالد على مخارج الأسرة . ورغم أنّي كنت حركاً كثير اللعب إلاّ أنّني لم أغفل الدراسة وأهمّيّتها وكنت أحسب بضمن الأوائل والمجتهدين في المدرسة . منذ تلك السنوات أحببت مهنة التدريس وكنت ألبّي طلبات من يستمدّون العون منّي فأدرّسهم في صفوف دراسيّة في البيت أو المسجد . وفي السنة الأخيرة من الثانوية استعددت لامتحان الكنكور ( امتحان الدخول إلى الجامعات ) بمعونة بعضٍ من كتب الاختبارات الموضوعيّة وسهر الليالي الطوال ومن دون أن يكون لي حظّ في حضور دروس الكنكور المكلفة . لم تصرفني تلك السنوات اللاهبة ولا نشاطاتي السياسية المختلفة ، عن الدراسة وميادين العلم والمعرفة فاستطعت أن أحافظ على مستواي العلمي طيلة سنوات الثانوية .
و كنت واثقاً في صبيحة الامتحان أنّ مرتبتي في الاختبار لن تزداد على رقم واحد ، لكن شاءت الأقدار أن أصاب بنزيف في الأنف أثناء أداء الامتحان . فکان تسلسلي ، المرتبة 132 في فرع الرياضيات وهكذا نجحت في فرع أحبّه هو فرع الهندسة المعمارية في جامعة العلم والصناعة وذلك قبل اندلاع الثورة الإسلامية المجيدة بثلاث سنوات .
كان الشاه يحاول إشاعة الفساد والفحشاء بين طلبة الجامعات ، ليقتلع بزعمه جذور الحوافز الدينية والإسلامية عندهم ويحول بذلك دون انخراطهم في تيارات الثورة الإسلامية . ورغم سقوط البعض القليل فريسة لهذه المصيدة الأثيمة ، ورغم الجهود المضنية التي بذلتها السلطة في تمرير هذه السياسة ، إلاّ أنّ الجامعة أضحت قاعدة من قواعد الكفاح الثوريّ المتصاعد . وكان ثمة خطر آخر يهدّد الثوريّين من الطلاب وهو انحراف البعض منهم نحو الشيوعية وأحزابها . لكن تعاليم الإمام الخميني نوّرت العقول وتعلّم الشباب الرسالي المؤمن أنّ الأوهام المفروضة والزائفة لابدّ أن تتبدّد وأن يبحثوا عن الحقائق الناصعة . إنّ ذكاء هذه الشريحة من الطلاب ووعيهم قد أدّى إلى ظهور تيار جديد في الجامعات ؛ غير متأثّر بالأفكار المستوردة ، شعاره الانصياع إلى أوامر الإمام والكفاح من أجل ظهور التوحيد وإعلاء كلمة الحقّ وإرخاص نفوسنا في سبيل ذلك . وتمكن هذا التيار من تبيين الحقائق وتحديد المواقف وتعرية التنظيمات الزائفة فبانت الوجوه الكالحة التي تقف وراء الكواليس وتسعى لتحوير الكفاح عن مسيره الصحيح . وإذا بالنشاطات السياسية تتخذ صبغة دينية يوماً بعد آخر ، وإذا بالشعب الإيراني يتمسّك بالقيم الدينية ويجعلها منطلقاً لمواجهة النظام الشاهنشاهي ، فحبّ الشهادة خير وسيلة للوقوف أمام رصاص الشاه وتحمّل التعذيب في غياهب سجونه . ولولا إيمان الشعب الإيراني الباسل واتكاله على الله واعتقادهم الراسخ بأهل البيت وامتثالهم التامّ لتعليمات الإمام لكانت جذور الثورة قد جفّت إثر عمليات القمع والتعذيب الشرس التي مارسها النظام الشاهنشاهي .
وقد سرت دماء الأمل في عروق الشعب بعدما لاحت في الأفق تباشير النصر الإلهي المؤزّر .
عاد الإمام من منفاه بعد 15 عاماً . ولقد أثبت التاريخ ولاء الشعب الإيراني للإمام الخميني من خلال الاستقبال الحافل الذي جوبه به . فلقد هبّت ايران بأسرها لاستقبال الإمام . وعجز المراقبون عن التعليق على هذه المشاعر الجيّاشة أو تحليل الملحمة التي سطرها الشعب .
وانتصرت الثورة الإسلامية في إيران بعد سنوات طويلة من الصبر والاستقامة على طريق الحقّ وتقديم قوافل الشهداء . أجل انتصرت الثورة وأذهلت الخبراء والمحلّلين السياسيّين وأجهزة المخابرات الاستكبارية في الشرق والغرب . لم يكن لثورتنا من نظير فشعب أعزل لا يملك سوى سلاح الإيمان بالله يطيح بالملك العميل للولايات المتحدة بقيادة شيخ طاعن في السن جاوز الثمانين ، ويذلّ دول الاستكبار العالمي .
رغم أنّ الحكومة التي يطمح الإمام الخميني في إقامتها كانت واضحة المعالم منذ انطلاق النهضة ، إلاّ أنّه أصرّ على اجراء استفتاء عامّ لتحديد معالم الحكومة الجديدة في إيران ، وذلك ليعرف الجميع أنّ الحكومة الإسلامية قد قامت على مبادئ الشرع وإرادة الشعب . كانت نتيجة الاستفتاء واضحة وما من حاجة إلى إجرائه ، إلاّ أنّ وعي الإمام ودرايته السياسية سدّا الطرق في وجه المتذرّعين وأتمّ الاستفتاء الحجّة على الجميع . وكان للاستفتاء وتفاعل الشعب معه ، الأثر البالغ في فشل التنظيمات العميلة للقوى الكبرى ، فانتهجوا سياسة الإرهاب واغتيال الزعماء الدينيّين وقتل الأبرياء من الناس بأوامر أربابهم الزائفين ، خاصّة أميركا ، ظانّين أنّ بمقدورهم القضاء على دوحة الثورة الفتيّة . لكن أنّى للشعب أن يتغاضى عن منجزات الثورة الإسلامية العظيمة ؟ فتحمّل الصعاب ودافع عن ثورته وطرد التنظيمات الإرهابيّة في آخر المطاف . وعلى الرغم من أنّ هذه المجموعات الإرهابية مازالت ترفل في ظلال الاستكبار ذليلة مهانة إلاّ أنّها لن تنسى الصفعة التي تلقّتها من أبناء الشعب الإيراني الأبيّ .
كان الاستكبار قد قرّر هزم الثورة الإسلامية في ايران وکسر شوکتها مهما بلغ الثمن لأنّه كان يخشى تأسّي سائر الشعوب في المنطقة والعالم ، بالنموذج الايراني . و من جهة أخرى كان لابدّ له من استعادة سمعته المهدورة ، فأثار عميله صدام التكريتي ليشعل فتيل الحرب ضدّ ايران . لقد قدّرت الدوائر الاستكبارية الفاسدة آنذاك أنّ ايران مازالت في بداية عهدها الثوري ولم تستقرّ حكومتها الإسلامية بعد و أنّ جيشها يعاني التمزّق والتدهور وليس لديها ما يكفيها من الذخيرة والعتاد وأمّا صدام فإنّنا سنمدّه بكلّ ما يلزمه لخوض هذه الحرب المدمّرة ، فسيكون الغالب المنتصر في الحرب ولا ريب . وبينما کانت نشوة الدعم المالي و العسكري الذي تلقّاه من أميركا وسائر الدول الغربية تملؤه ، أعلن صدام أنّه سيغزو طهران في غضون ثلاثة أيّام . واستمرّت الحرب المفروضة على ايران ثمانية أعوام بدل الأيام الثلاثة وكان مآلها أنّ صدّام وحماته الغربيّين لم ينالوا شبراً واحداً من أراضي ايران .
في هذه السنوات الثمان فتح صدام جبهتين للحرب ، إحداها ضدّنا والأخرى ضدّ الشعب العراقي المظلوم . كان يقصف مدننا بالقنابل الكيمياوية وتطال حملاته هذه ، قرى العراق وأريافه أيضاً . وكانت ايران الإسلامية تتجنّب مقابلته بالمثل حفاظاً على الشؤون الإنسانية والإسلامية وترجئ الردّ إلى الحرب التقليدية في جبهات القتال لا غير . ولم تكن قوى الشرّ والمراقبون السياسيّون ليستوعبوا هذه السياسة أيضاً .
كان عمري عند اندلاع الحرب 25 عاماً . كانت أمّي وزوجي كسائر الأمّهات والأزواج اللائي ذهب رجالهنّ إلى جبهات القتال يهتمن صابرات ، بإعداد جيل مقاوم ، شجاع ومؤمن . وما شبابنا الرسالي المقتدر اليوم إلاّ قطوف المساعي الشاقّة واستسهال الصعاب في تلك الأيام العصيبة .
وتبدّلت جبهات القتال إلى جامعة تخرّج رجالاً اختصاصهم الإنسانية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان . كانت تجربة العيش بين الموت والحياة في آن واحد ، جعلتنا نعيش في جنّة بين الدنيا والآخرة ، إذ ما من نطق أو سمع أو فعل إلاّ لله الواحد المتعال .
الأخوّة والمحبّة ، الجدّ والاجتهاد ، التعبّد والمعنويّات ، الشوق والفرح ، التضحية والشجاعة ، كلّ هذه كانت تثبت لنا أنّ الدنيا والآخرة ليسا بمتضادّين في نطاق الدين ، بل يكمل أحدهما الآخر . والشهادة ... كانت ومازالت أمنية مجاهدينا الشجعان .
وفي عام 1988 ، أي سنة قبل وفاة الإمام الخميني ، وافق رحمه الله على قرارٍ لمجلس الأمن مكرهاً ، وأعلن أنّه تجرّع كأس السمّ بالموافقة على هذا القرار . ووضعت الحرب أوزارها في ظروف كانت المنظّمات الدولية فيها تغطّي على جرائم صدّام وتحرّف حقائق اعتدائه على ايران وكونه البادئ في الحرب ، ولم تتوانَ في تقديم أنواع الدعم له . وكان هذا السلوك يُعَدّ غريباً لمن لا علم له بحقيقة هذه المنظمات وصلتها بالدول الاستكبارية العظمى .
نرجئ الحديث عن هذا الأمر إلى فرصة قادمة ، حيث طال الحديث في حلقتنا الأولى . وأحاول أن أكتب باختزال أكثر وأسلوبٍ أسهل .
وفي نيّتي أن أمرّ بهذا الموقع مرّة أو مرّتين في الأسبوع لتحديثه بإذن الله وذلك في غضون الدقائق الخمس عشرة التي سأخصّصها لهذه القناة من ارتباطي بالآخرين . وأقدّم اعتذاري سلفاً عن أيّ تأخير في الموضوعات الجديدة التي سأقدّمها .
والسلام
موقع نجاد الرسمي (http://www.ahmadinejad.ir/)
اللهم عجّل لوليّك الفرج واجعلنا من أعوانه وأنصاره والمستشهدين بين يديه
بعد أن مضت خمس عشرة سنة على أحداث سبتمبر 1941 ، وتربّع الملك البهلوي الثاني على العرش ؛ ولدتُ في قرية نائية من نواحي مدينة گرمسار ، في عهد ، كانت الأرستقراطيّة تعدّ شرفاً فيه والسكن في المدن يحتسب كمالاً للمرء .
لقد خُطّط للشاه أن يجعل من ايران بوّابة للحضارة الغربية ، فنفّذ الكثير من المشاريع من أجل أن يتحوّل البلد إلى سوق استهلاكية أخرى لبضائع الغرب الكمالية ، من دون أن تخطو ايران خطوة في سبيل التطوّر العلمي . لكنّ ثقافة ايران الإسلامية لم تكن لتسمح بتحقّق هذه الهجمة ، و كانت حائلاً دون طموحات الشاه و أسياده الأجانب . و من هنا حاولوا أن يُفقدوا هذه الثقافة أصالتها و رسوخها و أن يخفّفوا من شدّة وطأتها في حياة الشعب ، لتتحقّق تبعيّة إيران للغرب اقتصادياً و سياسياً و ثقافياً يوماً بعد آخر . ونفّذوا من المخطّطات البليدة ما نفّذوا وأضفوا على المدن جمالاً وازدهاراً زائفين ، فاتّسمت تلك السنين بسنوات هجرة القرويّين نحو المدن . و لقد زاد الطين بلّة ما يسمّى بسياسة الإصلاحات الأرضيّة فساءت حالة القرى والأرياف وانخدع القرويّون المساكين بمظاهر المدن واستقطبتهم وهاجروا إليها من أجل الحصول على ما يسدّون به رمقهم . وإذا بهم يقطنون الضواحي و الضياع المحيطة بدلاً من استقرارهم في المدن نفسها .
واشتدّت الوطأة على أسرتنا ، خاصّة بعد أن ولدت أنا رابع أبناء الأسرة . لم يكن والدي قد درس سوى المرحلة الابتدائيّة ، لكنّه كان حدّاداً كادحاً عركته الحياة ، ذا حظّ من الإيمان بالله و العلم بمعالم الدين الحنيف . وقد شهد المسجد تواجده المستمرّ والدائب في حلقات القرآن الكريم و تدريس أحكام الفقه والشريعة . ولم يسعَ يوماً وراء ملذّات الدنيا وبهارجها ، إلاّ أنّ شظف العيش اضطرّه إلى ترك القرية والسكن في طهران عاماً بعد ولادتي . وفي طهران قطنّا محلّة پامنار ، و عرّفنا الوالد الحاني بالمسجد والمنبر لينأى بنا عن البيئة التي أوجدتها سياسات الشاه المتعسّفة والتي لها ظاهر أنيق متحضّر وهي في الحقيقة ضائعة لا هويّة فيها . و بالنسبة لي فإنّي ما إن كبرت وبدأت مرحلة الطفولة عندي حتى وجدتني على صلة بالمسجد و رجال الدين الشرفاء .
كان والدي يقتني الصحف ويقرأها دوماً . و عندما كنت في الصفّ الأول الابتدائي استطعت بمعونة الكبار أن أقرأ خبر قانون الحصانة ( كابتولاسيون ) في الصحيفة . في وقتها كنت صغيراً لا أدرك معنى الحصانة إلاّ أنّي فهمت من احتجاجات الحوزة العلمية و الإدانات التي أطلقها رجال الحوزة بقيادة الإمام الخميني و من سياسة القمع الشديدة التي انتهجها الشاه في القضاء على أصداء الرفض و المقاومة ، فهمت أنّ الشاه ينوي فتح صفحة أخرى من دفتر حياته السوداء وتمرير سياسة مقيتة يحطّ فيها من شأن الشعب الإيرانيّ تجاه الأجانب . وفي الخامس من حزيران عام 1963م ارتکب الشاه مجزرة مروّعة بحقّ أنصار الإمام الخميني ( رحمه الله ) ولتوّه كان الإمام قد أطلق سراحه من المعتقل .
لست أنسى كلمات الإمام في تلك الأيام ، كانت تشدّ الجميع إليها ويفوح منها عطر الإيمان بالله وتدعو الناس إلى الإسلام الحقيقي . كان يدعو الناس والحکومة إلى التوحيد والعدل وإزالة الظلم والفتنة من العالم . كان شجاعاً يتحدّث باقتدار ، والصدق والبساطة تسطعان من كلامه . وما أنفذ إرشاداته إلى قلوب الناس وأعماق الضمائر!. بهذه الخصال الحميدة ازدادت شعبيّته وأحبّه الشعب شباباً وشيباً وفي المقابل وجد عليه النظام الشاهنشاهي وأسياده الأميركيّون . واللطيف أنّ أعداءه أيضاً كانوا يكنّون له الاحترام ويجلّونه .
وشيئاً فشيئاً ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ولم يعودوا يحتملون وجود الإمام ، لكن أنّى لهم القضاء عليه ؟ فهم يعرفون حقّ المعرفة أنّ قتل الإمام سيؤدي إلى انتفاضة دامية لا تُحتوى ، فقرّروا إقصاءه ليحولوا بينه وبين أنصاره زاعمين أنّ ذلك سيخمد لهيب الثورة الوشيكة .
وفي ليلة ظلماء أقصي الإمام واستمرّ إقصاؤه 14 عاماً . عندما كان الإمام بعيداً عن الوطن تشبّعتُ من أفكار الإمام في الدروس التي حضرتها لدى تلامذته ، وكلّما تعرّفت إلى هذا الرجل الربّاني ونظرياته كلّما ازددت شوقاً إليه وشعرت بألم فراقه وصعوبة البعد عنه . قد يكون الأعداء نجحوا في إبعاده عن وطنه وشعبه ؛ إلاّ أنّه كان قد حلّ في قلوب الناس وأرسى مكانته فيها .
وفي أيام دراستي الثانوية بدأت السلطة احتفالاتها الموسومة بألفين وخمسمائة عام من الملكيّة الإيرانية . في تلك السنوات كان الفقر المدقع يلقي بكاهله على أعتاق الناس . فتكاليف احتفالات السلطة وبذخ العائلة المالكة وأبناء الأشراف وضيوفهم الأجانب قد قصمت ظهور الناس ، وجميع وسائل الاحتفالات استوردت في طائرات خاصّة من الخارج بحيث يمكنني أن أزعم أنّ هذ الاحتفال المشؤوم كان أبهظ احتفال عرفته البشرية في تاريخها .
وللحديث شؤون وشجون ؛ في تلك الظروف لم تعد مطرقة والدي وسندانه لتسدّان حاجة الأسرة ، فاضطررت للعمل في ورشة جار لنا أكبس الصفائح لقنوات التبريد ، من أجل تأمين حاجات الدراسة وإعانة الوالد على مخارج الأسرة . ورغم أنّي كنت حركاً كثير اللعب إلاّ أنّني لم أغفل الدراسة وأهمّيّتها وكنت أحسب بضمن الأوائل والمجتهدين في المدرسة . منذ تلك السنوات أحببت مهنة التدريس وكنت ألبّي طلبات من يستمدّون العون منّي فأدرّسهم في صفوف دراسيّة في البيت أو المسجد . وفي السنة الأخيرة من الثانوية استعددت لامتحان الكنكور ( امتحان الدخول إلى الجامعات ) بمعونة بعضٍ من كتب الاختبارات الموضوعيّة وسهر الليالي الطوال ومن دون أن يكون لي حظّ في حضور دروس الكنكور المكلفة . لم تصرفني تلك السنوات اللاهبة ولا نشاطاتي السياسية المختلفة ، عن الدراسة وميادين العلم والمعرفة فاستطعت أن أحافظ على مستواي العلمي طيلة سنوات الثانوية .
و كنت واثقاً في صبيحة الامتحان أنّ مرتبتي في الاختبار لن تزداد على رقم واحد ، لكن شاءت الأقدار أن أصاب بنزيف في الأنف أثناء أداء الامتحان . فکان تسلسلي ، المرتبة 132 في فرع الرياضيات وهكذا نجحت في فرع أحبّه هو فرع الهندسة المعمارية في جامعة العلم والصناعة وذلك قبل اندلاع الثورة الإسلامية المجيدة بثلاث سنوات .
كان الشاه يحاول إشاعة الفساد والفحشاء بين طلبة الجامعات ، ليقتلع بزعمه جذور الحوافز الدينية والإسلامية عندهم ويحول بذلك دون انخراطهم في تيارات الثورة الإسلامية . ورغم سقوط البعض القليل فريسة لهذه المصيدة الأثيمة ، ورغم الجهود المضنية التي بذلتها السلطة في تمرير هذه السياسة ، إلاّ أنّ الجامعة أضحت قاعدة من قواعد الكفاح الثوريّ المتصاعد . وكان ثمة خطر آخر يهدّد الثوريّين من الطلاب وهو انحراف البعض منهم نحو الشيوعية وأحزابها . لكن تعاليم الإمام الخميني نوّرت العقول وتعلّم الشباب الرسالي المؤمن أنّ الأوهام المفروضة والزائفة لابدّ أن تتبدّد وأن يبحثوا عن الحقائق الناصعة . إنّ ذكاء هذه الشريحة من الطلاب ووعيهم قد أدّى إلى ظهور تيار جديد في الجامعات ؛ غير متأثّر بالأفكار المستوردة ، شعاره الانصياع إلى أوامر الإمام والكفاح من أجل ظهور التوحيد وإعلاء كلمة الحقّ وإرخاص نفوسنا في سبيل ذلك . وتمكن هذا التيار من تبيين الحقائق وتحديد المواقف وتعرية التنظيمات الزائفة فبانت الوجوه الكالحة التي تقف وراء الكواليس وتسعى لتحوير الكفاح عن مسيره الصحيح . وإذا بالنشاطات السياسية تتخذ صبغة دينية يوماً بعد آخر ، وإذا بالشعب الإيراني يتمسّك بالقيم الدينية ويجعلها منطلقاً لمواجهة النظام الشاهنشاهي ، فحبّ الشهادة خير وسيلة للوقوف أمام رصاص الشاه وتحمّل التعذيب في غياهب سجونه . ولولا إيمان الشعب الإيراني الباسل واتكاله على الله واعتقادهم الراسخ بأهل البيت وامتثالهم التامّ لتعليمات الإمام لكانت جذور الثورة قد جفّت إثر عمليات القمع والتعذيب الشرس التي مارسها النظام الشاهنشاهي .
وقد سرت دماء الأمل في عروق الشعب بعدما لاحت في الأفق تباشير النصر الإلهي المؤزّر .
عاد الإمام من منفاه بعد 15 عاماً . ولقد أثبت التاريخ ولاء الشعب الإيراني للإمام الخميني من خلال الاستقبال الحافل الذي جوبه به . فلقد هبّت ايران بأسرها لاستقبال الإمام . وعجز المراقبون عن التعليق على هذه المشاعر الجيّاشة أو تحليل الملحمة التي سطرها الشعب .
وانتصرت الثورة الإسلامية في إيران بعد سنوات طويلة من الصبر والاستقامة على طريق الحقّ وتقديم قوافل الشهداء . أجل انتصرت الثورة وأذهلت الخبراء والمحلّلين السياسيّين وأجهزة المخابرات الاستكبارية في الشرق والغرب . لم يكن لثورتنا من نظير فشعب أعزل لا يملك سوى سلاح الإيمان بالله يطيح بالملك العميل للولايات المتحدة بقيادة شيخ طاعن في السن جاوز الثمانين ، ويذلّ دول الاستكبار العالمي .
رغم أنّ الحكومة التي يطمح الإمام الخميني في إقامتها كانت واضحة المعالم منذ انطلاق النهضة ، إلاّ أنّه أصرّ على اجراء استفتاء عامّ لتحديد معالم الحكومة الجديدة في إيران ، وذلك ليعرف الجميع أنّ الحكومة الإسلامية قد قامت على مبادئ الشرع وإرادة الشعب . كانت نتيجة الاستفتاء واضحة وما من حاجة إلى إجرائه ، إلاّ أنّ وعي الإمام ودرايته السياسية سدّا الطرق في وجه المتذرّعين وأتمّ الاستفتاء الحجّة على الجميع . وكان للاستفتاء وتفاعل الشعب معه ، الأثر البالغ في فشل التنظيمات العميلة للقوى الكبرى ، فانتهجوا سياسة الإرهاب واغتيال الزعماء الدينيّين وقتل الأبرياء من الناس بأوامر أربابهم الزائفين ، خاصّة أميركا ، ظانّين أنّ بمقدورهم القضاء على دوحة الثورة الفتيّة . لكن أنّى للشعب أن يتغاضى عن منجزات الثورة الإسلامية العظيمة ؟ فتحمّل الصعاب ودافع عن ثورته وطرد التنظيمات الإرهابيّة في آخر المطاف . وعلى الرغم من أنّ هذه المجموعات الإرهابية مازالت ترفل في ظلال الاستكبار ذليلة مهانة إلاّ أنّها لن تنسى الصفعة التي تلقّتها من أبناء الشعب الإيراني الأبيّ .
كان الاستكبار قد قرّر هزم الثورة الإسلامية في ايران وکسر شوکتها مهما بلغ الثمن لأنّه كان يخشى تأسّي سائر الشعوب في المنطقة والعالم ، بالنموذج الايراني . و من جهة أخرى كان لابدّ له من استعادة سمعته المهدورة ، فأثار عميله صدام التكريتي ليشعل فتيل الحرب ضدّ ايران . لقد قدّرت الدوائر الاستكبارية الفاسدة آنذاك أنّ ايران مازالت في بداية عهدها الثوري ولم تستقرّ حكومتها الإسلامية بعد و أنّ جيشها يعاني التمزّق والتدهور وليس لديها ما يكفيها من الذخيرة والعتاد وأمّا صدام فإنّنا سنمدّه بكلّ ما يلزمه لخوض هذه الحرب المدمّرة ، فسيكون الغالب المنتصر في الحرب ولا ريب . وبينما کانت نشوة الدعم المالي و العسكري الذي تلقّاه من أميركا وسائر الدول الغربية تملؤه ، أعلن صدام أنّه سيغزو طهران في غضون ثلاثة أيّام . واستمرّت الحرب المفروضة على ايران ثمانية أعوام بدل الأيام الثلاثة وكان مآلها أنّ صدّام وحماته الغربيّين لم ينالوا شبراً واحداً من أراضي ايران .
في هذه السنوات الثمان فتح صدام جبهتين للحرب ، إحداها ضدّنا والأخرى ضدّ الشعب العراقي المظلوم . كان يقصف مدننا بالقنابل الكيمياوية وتطال حملاته هذه ، قرى العراق وأريافه أيضاً . وكانت ايران الإسلامية تتجنّب مقابلته بالمثل حفاظاً على الشؤون الإنسانية والإسلامية وترجئ الردّ إلى الحرب التقليدية في جبهات القتال لا غير . ولم تكن قوى الشرّ والمراقبون السياسيّون ليستوعبوا هذه السياسة أيضاً .
كان عمري عند اندلاع الحرب 25 عاماً . كانت أمّي وزوجي كسائر الأمّهات والأزواج اللائي ذهب رجالهنّ إلى جبهات القتال يهتمن صابرات ، بإعداد جيل مقاوم ، شجاع ومؤمن . وما شبابنا الرسالي المقتدر اليوم إلاّ قطوف المساعي الشاقّة واستسهال الصعاب في تلك الأيام العصيبة .
وتبدّلت جبهات القتال إلى جامعة تخرّج رجالاً اختصاصهم الإنسانية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان . كانت تجربة العيش بين الموت والحياة في آن واحد ، جعلتنا نعيش في جنّة بين الدنيا والآخرة ، إذ ما من نطق أو سمع أو فعل إلاّ لله الواحد المتعال .
الأخوّة والمحبّة ، الجدّ والاجتهاد ، التعبّد والمعنويّات ، الشوق والفرح ، التضحية والشجاعة ، كلّ هذه كانت تثبت لنا أنّ الدنيا والآخرة ليسا بمتضادّين في نطاق الدين ، بل يكمل أحدهما الآخر . والشهادة ... كانت ومازالت أمنية مجاهدينا الشجعان .
وفي عام 1988 ، أي سنة قبل وفاة الإمام الخميني ، وافق رحمه الله على قرارٍ لمجلس الأمن مكرهاً ، وأعلن أنّه تجرّع كأس السمّ بالموافقة على هذا القرار . ووضعت الحرب أوزارها في ظروف كانت المنظّمات الدولية فيها تغطّي على جرائم صدّام وتحرّف حقائق اعتدائه على ايران وكونه البادئ في الحرب ، ولم تتوانَ في تقديم أنواع الدعم له . وكان هذا السلوك يُعَدّ غريباً لمن لا علم له بحقيقة هذه المنظمات وصلتها بالدول الاستكبارية العظمى .
نرجئ الحديث عن هذا الأمر إلى فرصة قادمة ، حيث طال الحديث في حلقتنا الأولى . وأحاول أن أكتب باختزال أكثر وأسلوبٍ أسهل .
وفي نيّتي أن أمرّ بهذا الموقع مرّة أو مرّتين في الأسبوع لتحديثه بإذن الله وذلك في غضون الدقائق الخمس عشرة التي سأخصّصها لهذه القناة من ارتباطي بالآخرين . وأقدّم اعتذاري سلفاً عن أيّ تأخير في الموضوعات الجديدة التي سأقدّمها .
والسلام
موقع نجاد الرسمي (http://www.ahmadinejad.ir/)