مشاهدة النسخة كاملة : سقوط الأندلس ومرثية ابو البقاء الرندي


عبدالله الزومان
13-09-2010, 04:01 AM
(( أحد البحوث التاريخية التي يقدمها لكم الباحث التاريخي عبدالله الزومان ))

الذين يحسبون أن التاريخ لا يستعاد إلا باعتباره ماضياً ولّى مخطئون مرتين، واحدة في حق شعوبهم التي هي حاضر ماضي الأجداد والآباء، وأيضا مستقبل الأبناء والأحفاد، والأخرى في حق التاريخ نفسه ؛ لأن هذا الأخير لا يعرف منطق الحلقات المنفصلة، فهو كالسيل المنهمر في الزمن، والمتصل الحلقات، بحيث لا يأتي وحده إن لم تكن وراءه قوة تدفعه، وتلك القوة هي "منطق التاريخ".

وأحسب أن جزءاً كبيراً من هزائمنا اليوم، بل جميعها ، وليد غياب الإدراك لهذا المنطق التاريخي الصارم والقاسي معاً، ووليد احتقارنا " للوعي التاريخي" الذي بدونه لا تستطيع أمة صناعة مستقبلها والتحكم في حاضرها. إن القرآن الكريم يعرض علينا مصائر الأمم السالفة لا من أجل الحكايات، بل لتملك "حاسة الوعي التاريخي والحضاري"، هكذا يقول لنا القرآن الكريم: انظروا جيداً إلى الماضي لتسيروا بثقة إلى المستقبل.

إن مصائبنا اليوم راجعة كلها إلى أننا لم نعد نحفل بالتاريخ الذي وضعناه خلف ظهورنا، واهمين أن المستقبل له طريق مختلف، وناسين أننا نجر وراءنا هذا التاريخ بكل خيباته وهزائمه، شئنا أم أبينا، ولذلك كان من الطبيعي أن نتخبط اليوم في حياتنا، ونتعرض لأبشع أنواع الظلم والاحتلال والتخلف والتجزئة، دون أن يكون لنا ناظم لسلوكياتنا أو منطق سليم لسياستنا. لقد قرأ اليهود تاريخنا وعرفوا كيف يتسلّلون إلى ديارنا ويسرقون قدسنا ، ودرس الغرب ثقافتنا وتجاربنا الحضارية وأدرك أين يوجد المقتل فدخل منه. إن وراءنا خمسة عشر قرناً من التجارب مع اليهود، ومن الحكمة القرآنية عن اليهود، ومع ذلك مازال فينا من يثق بهم ويريد أن يعقد معهم سلاماً. هذا مثل واحد عن التخبط وغياب وعينا التاريخي الحضاري.

عندما نبدأ الكتابة عن الذكرى الخمسمائة لطرد أجدادنا المسلمين من الأندلس، نحس بالألم مرتين الأولى: لمأساوية هذا الحدث الجلل المدوي في أعماق كل مسلم يرى حدود الإسلام تقضم قطعة قطعة !! والثانية : لأن مسلمي اليوم مازالوا يدفعون "الجزية" الحضارية والتاريخية لمستعمري الأمس ، كأن ذلك التاريخ ليس تاريخهم. ففي "مؤتمر مدريد "التاريخي في أكتوبر 1991 ذهب العرب طواعية "لتسليم" فلسطين لليهود والتنازل عنها تحت مظلة الشرعية الدولية ، في قلب الأندلس وفوق قبور المسلمين هناك، مثلما سلم "أبو عبد الله الصغير" مفاتيح غرناطة لملك ( قشتالة ) عام 1491، أي خمسمائة سنة قبل مؤتمر مدريد، ولم يكن اختيار المكان اعتباطيا، وإنما "لتذكير العرب والمسلمين بتجربة أجداهم"، و"إمعانا في الكيد والإذلال". وبعد اجتماع مدريد بأربع سنوات، جاء مؤتمر برشلونة في نفس المنطقة التي حكمها المسلمون من قبل ليرسم مخططاً استعمارياً جديداً اسمه "الشراكة الأورو-متوسطية" بين العرب وأوروبا. ماذا تريد أوروبا المنتصرة من المهزومين؟ إنها تريد "خيراتهم" عبر اتفاق رسمي في برشلونة، كل شيء يتم باتفاقات يمليها المنتصر: اتفاق تسليم غرناطة، اتفاق تنصير مسلمي الأندلس، اتفاق مدريد، اتفاق أوسلو، اتفاق برشلونة!!.

ضياع الأندلس
إن ضياع الأندلس صورة "مأساوية" لضياع مجد المسلمين وحضارتهم وعزهم في التاريخ، لكنها كذلك صورة للتخاذل العربي والإسلامي عن النصرة وانشغال المسلمين بأنفسهم وبالدنيا، وعمق التشتت والانقسام والتناحر في الأمة وما أشبه اليوم بالأمس !!
شاء القدر للأندلس أن تكون بين البحر وبين الجبهات الصليبية المتعددة، التي كانت تتربص بها الدوائر، فظلت مدة ثمانية قرون أي منذ افتتحها القائد المسلم طارق بن زياد تغالب النصرانية بالإسلام، وتقاوم تحرشات الصليبين، لكن دولة الإسلام كانت ماضية نحو الاضمحلال والتفرق بفعل الأمراض الداخلية التي إذا تفشت في حضارة أهلكتها، وبفعل العوامل الخارجية المتمثلة في الممالك النصرانية التي كانت تتجمع لغزوها، وتنتزع تباعا قواعد وثغور دولة الإسلام، حتى إذا كان القرن الثامن الهجري لم يبق في دولة الإسلام الشامخة في الأندلس سوى مملكة"غرناطة الصغيرة" تواجه منفردة أعداءها الصليبيين الذين تجمعوا حول قصعتها.

وطوال عهود المواجهة والتحدي الصليبي، ظل المسلمون في الأندلس يستنجدون بأبطال المغرب الأقصى، ويستمدون منهم العون وهؤلاء ماكانوا يبخلون بإرسال الجيوش والمقاتلين، فعندما اشتد الخناق على أشبيلية وقرطبة من النصارى الصليبيين وجه الأمير المرابطي "يوسف بن تاشفين" من سبتة أسطولاً من سبعة آلاف جندي نحو الجزيرة الخضراء، ثم قصد حصن ( ألفونسو السادس ) ملك( قشتالة )، والتقى الجمعان عند مكان اسمه "الزَّلاقة"، حيث جرت الموقعة التاريخية الشهيرة بهذا الاسم أوائل رمضان 479هـ و انتصر فيها المسلمون.

ولكن دولة "الموحدين" التي ورثت المرابطين سرعان ما دبّ في أوصالها الوهن والضعف، إلى درجة أن المأمون بن المنصور الموحدي عقد في عام 624هـ معاهدة مع ملك ( قشتالة ) الصليبي ( فرناندو الثالث )، يتعهد له فيها بدفع جزية كبيرة، ويسلم عشرة من الحصون التي يختارها الصليبي، ويبني له كنيسة في مراكش، وإذا أسلم نصراني يتعهد الموحدون بإعادته إلى النصارى، وإذا تنصّر مسلم ليس للمسلمين عليه سبيل. وهكذا لم يجد مسلمو الأندلس من يحمي ديارهم من الصليبيين، ودخل أمراء الممالك الأندلسية في صراعات على النفوذ والسلطة والشهوة، ودبّ بينهم الخلاف الذي أغرى بهم الأعداء، وبدأ البعض منهم يعطي الولاء للصّليبيين لمعاونتهم ضد إخوانهم المسلمين، فهذا محمد بن عبد العزيز بن عامر حاكم بلنسية يتحالف مع الملك القشتالي ألفونسو السادس ويدفع له الجزية ويتنازل له عن الكثير من الحصون والقلاع الإستراتيجية، مما ساعد ( ألفونسو ) على الاستيلاء على طليطلة عام 478هـ. وهذا محمد بن يوسف بن الأحمر الذي أسس مملكة غرناطة، يعقد اتفاقية مع ( فرناندو الثالث ) ملك ( قشتالة )، يتعهد له فيها أن يكون من أتباعه، ويعترف بسلطته على مملكة غرناطة، ويدفع له الجزية، ويصبح عضواً في ( الكورتيس ) القشتالي (البرلمان)، بل يتعهد بمساعدته على قتال المسلمين، فاشترك جيش غرناطة وفق الاتفاقية مع جيوش ( قشتالة ) في حصار اشبيلية عام 646هـ، ما أدى إلى سقوطها بيد النصارى !!

حصار غرناطة
وما جاء القرن التاسع الهجري، حتى كانت ممالك الأندلس قد دخلت تحت مظلة الصليب، ولم يعد بيد المسلمين سوى مملكة غرناطة التي دبت فيها نار الحرب الأهلية، فحاصرها الصليبيون بقيادة ( فرديناند الخامس )، بعد سنوات قليلة من المقاومة البطولية من طرف محمد بن سعد المعروف "بالزغل"، وجنود المسلمين والسكان، ودخل ( فرديناند الخامس ) سهول غرناطة، بجيش قوامه أربعون ألف راجل وعشرة آلاف فارس، وأعمل في المسلمين كل أنواع الفتك والتنكيل ؛ فأتلف المحاصيل وأحرق المنازل وذبح السكان العزل وشدد الحصار على آخر معقل من معاقل الإسلام في الأندلس، وأوفد المسلمون الرسل يتوسلون النجدة من مصر والروم ، لكن دون جدوى !!

كانت جميع قواعد الأندلس الأخرى في ( مالقة ،والمرية ،ووادي آش ،والحامة، وبسطة ) قد أصبحت نهائيا تابعة لمملكة ( قشتالة )، وعين فيها حكام من النصارى، وخضع أهلها وأصبحوا يدينون بالطاعة لملك النصارى، بل ارتد عدد من المسلمين إلى النصرانية، وفر آخرون نحو المغرب خشية القتل والمطاردة، وهرع آخرون إلى غرناطة للاحتماء حتى غصت بالوافدين الجدد. وكان سلطان غرناطة يراقب هذه الحوادث، ويشعر أن سقوط مملكته مسألة وقت ليس إلا، لكنه أدرك خطأه في التآمر ضد عمه "الزغل" الذي كان أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه في مثل تلك الظروف الحالكة السواد. وسرعان ما ظهرت علائم النهاية حين بعث ( فرديناند ) إلى أبي عبد الله محمد بن يوسف يطلب إليه تسليم الحمراء والبقاء في غرناطة تحت طاعته وحمايته، فاكتشف أنه خدع حين تحالف مع ملك ( قشتالة )، فجمع الكبراء في المملكة الذين أجمعوا على رفض التسليم والدفاع حتى الموت عن دينهم وأرضهم، وأعلنت غرناطة حالة الحرب، وحمل أبو عبد الله شعبه على القتال، وخرج في قواته يحاول استعادة القواعد والحصون المسلمة المجاورة، وثار أهل البشرات المطلة على بحر الزقاق (مضيق جبل طارق) وما حولها على النصارى، ووقعت بين هؤلاء وبين المسلمين عدة معارك انتصر فيها المسلمون، فغضب ( فرنديناند ) لهذا النصر غير المنتظر، وخرج بعد عام من ذلك- أي عام 896هـ- في جيش ضخم مزود بالمدافع والذخائر الوفيرة، وسار إلى غرناطة، ونزل بمرجها الجنوبي وأنشأ لجيشه في تلك البقعة مدينة صغيرة مسورة سميت "سانتافي" أو الإيمان المقدس، رمزاً للحرب الدينية ضد الإسلام، ومازالت هذه القلعة إلى اليوم، وبدأ حصار غرناطة من جديد في جمادى الآخرة سنة 896هـ (مارس 1491م.

نهاية دولة الإسلام في الأندلس
عندما أطبق الحصار على المسلمين في مملكة غرناطة لأيام وهددهم الجوع والعطش والموت، لم يعد أمامهم سوى الحرب حتى آخر رجل أو التسليم للصليبيين، فكانوا يخرجون للمواجهة ثم يعودون وقد تساقط منهم الكثير، لكن نفاد المؤونة، ودخول الشتاء وانتشار المرض والجوع أقنع أبا عبد الله بالتفكير في مفاوضة ( فرديناند ) في التسليم غير مرة لولا اعتراض موسى بن أبي الغسان الذي قاد المعارك في جبال البشرات، وعندما تقدم حاكم المدينة أبو القاسم عبد الملك وقرر أن المؤن تكاد تنفد ولا جدوى من المقاومة، قرر أبو عبد الله ومن معه التسليم، فأرسل أبا القاسم لمفاوضة( فرديناند ). أما موسى بن أبي الغسان، فقد امتطى جواده ورحل رافضاً الذل والمهانة، وقيل: إنه أجهز على الصليبيين وفتك بالكثيرين منهم قبل أن يسقط من على ظهر جواده، ورفض الرأفة التي عرضوها عليه ، واستمر يقاتل بصمود حتى خارت قواه، ثم رمى بنفسه في النهر....!!

واتفق الطرفان على شروط التسليم التي وضعها (فرديناند) ووزراؤه: إذا لم ترد للمسلمين نجدة من البر أو من البحر خلال شهرين سلموا مدينة غرناطة للمسيحيين، وعندئذ يكون على السلطان والقواد والوزراء والشيوخ أن يقسموا يمين الطاعة لملوك ( قشتالة )، ويمنح أبو عبد الله بعض الأملاك في البشرات، ويؤمن ملك ( قشتالة ) المسلمين على أرواحهم وأملاكهم وأسلحتهم وخيولهم دون قيد أو شرط، ويسمح لهم بممارسة شعائرهم الدينية بحرية، ويصون جوامعهم ومؤسساتهم الدينية، ولا يمنع المؤذنين من الأذان للصلاة، ويسمح لهم بالاحتفاظ بعاداتهم ولغتهم وزيهم، وبأن يفصل في قضاياهم قضاة من المسلمين وفق شريعتهم، ولا تفرض عليهم ضريبة تفوق ما كانوا يؤدونه لملوكهم، ولا يسمح لمسيحي بالدخول إلى بيت مسلم عَنْوة أو يهينه إطلاقا، ويطلق سراح جميع الأسرى المسلمين، ويسمح لكل من يرغب في العبور إلى إفريقيا من المسلمين ضمن مدة معينة أن يفعل ذلك في سفن ( قشتالة ) دون استيفاء أجور تفوق أجور السفر العادية ، و يمنع بعد انقضاء المدة المعينة أي مسلم من السفر إلا بعد أن يدفع علاوة على أجرة السفر، عشر أمواله التي يحملها معه، ولا يضطهد أو يعاقب مسلم بجريمة غيره، ولا يجبر أي نصراني اعتنق الإسلام على الارتداد إلى دينه القديم، ويمنح أي مسلم يريد اعتناق النصرانية بضعة أيام للتفكير وينقاشه قاض مسلم بحضور حاكم مسيحي، حتى إذا أصر على موقفه سمح له باعتناق المسيحية، ويحرم على الجنود المسيحيين إساءة معاملة المسلمين أو نقلهم من منازلهم دون إرادتهم، ويؤمن المسلم الذي يرغب في السفر أو الإقامة بين المسيحيين على سلامته وأمواله، ولا يجبر المسلمون على حمل علامات مميزة كالتي كان يحملها اليهود.
وهكذا أذعنت غرناطة وسلمت، وانتهت دولة الإسلام بالأندلس في شهر صفر 897هـ ديسمبر 1491م، وطويت تلك الصفحة المجيدة من الدنيا، وقضي على تاريخ الحضارة هناك!! أما الملك التَعِس أبو عبد الله الصغير فقد قضت عليه معاهدة التسليم بأن يغادر غرناطة إلى البشرات.

ولما ذاعت أخبار التسليم وشروطه المذلة المهينة سخط المسلمون عليه، فاستعد للرحيل، وفي نفس اليوم الذي دخل فيه النصارى غرناطة، غادر أبو عبد الله قصره وموطن عزه ومجد آبائه، وتقدم نحو (فرديناند ) ومد إليه مفاتيح الحمراء قائلا له: "إن هذه المفاتيح هي الأثر الأخير لدولة العرب في إسبانيا، وقد أصبحت أيها الملك سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا، هكذا قضى الله، فكن في ظفرك رحيما عادلا"، وتقدم صحبة (فرديناند ) نحو الملكة ( إيزابيلا ) لتحيتها، وغادر المكان، وعندما أشرف في مسيره على منظر غرناطة انهمر دمعه وأجهش بالبكاء، فصاحت به أمه عائشة: "أجل، فلتبك كالنساء ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال". وما تزال إحدى الصخور في إسبانيا تحمل اسماً مؤثراً لهذا المكان هو "زفرة العربي الأخيرة". وتقول إحدى الروايات إن أبا عبد الله رجا ( فرديناند ) أن يغلق الباب الذي خرج منه لآخر مرة حتى لا يجوزه من بعده إنسان !!

سياسة التطهير الصليبية
ولكن ( فرديناند ، وإيزابيلا ) لم يكن في نيتهما التقيد بالشروط التي عقداها مع المسلمين؛ لأن تلك الشروط كانت مجرد خدعة للاستيلاء على المدينة، لقد كان هناك نظام عالمي جديد يتشكل، بلغة واقع اليوم، يقف على رأس الهرم فيه الصليبيون الجدد، وكان هؤلاء يراقبون الأوضاع في العالم الإسلامي وفي قلب الإمبراطورية العثمانية التي كانت تتحلل بالتدريج بفعل الضربات من كل جانب، ولم تكد تنقضي سنة واحد حتى أصدر الملك ( فرديناند ) مرسوماً يقضي على المسلمين بالتخلي عن دينهم أو مغادرة البلاد، ثم شرع في إنشاء المحرقات ومحاكم التفتيش، وأكره المسلمين على التنصر بالقوة، وفي عام 1498 م تعرض المسلمون لاضطهاد عام، إذ خيروا بين التنصر والإعدام، فخضع البعض منهم، ولكن الكثيرين تمسكوا بدينهم والتجؤوا إلى جبال ( الألب )، فلحق بهم الصليبيون وذبحوا عدداً كثيراً منهم بوحشية بربرية، وفر الباقون في اتجاه المغرب الأقصى ومصر.

وأطلق على المسلمين الذي بقوا في غرناطة وباقي مدن إسبانيا تسمية "الموريسكيين" احتقاراً، أو "المسيحيون الجدد"، ومنع هؤلاء من استعمال لغتهم العربية، وفرض عليهم اطراح أزيائهم، والتخلي عن عاداتهم وتقاليدهم، أما الشعائر الدينية فقد كانوا يمارسونها خفية وراء الجدران حتى لا يتعرضوا للحرق أو القتل أو النفي، ويشكك في اعتناقهم النصرانية، وفرض عليهم التسمي بالأسماء الإسبانية، والكتابة والحديث بالإسبانية، كما تم وضعهم في أدنى السلم الاجتماعي للقضاء على أي بروز جديد لأي معالم حضارية إسلامية.

وتحققت نوايا الصليبيين في طرد المسلمين من إسبانيا الكاثوليكية عندما أصدرت الملكة ( إيزبيلا ) في فبراير 1502 مرسوما يقضي بطرد المسلمين خارج إسبانيا، وبدأ تطبيق سياسة التطهير العرقي بعد سياسة الإبادة، حيث طرد ملايين المسلمين، وكما قال أحد المؤرخين: "كانت ساعة شؤم تلك التي حل فيها الصليب محل الهلال على أبراج غرناطة!!".

ما أشبه الليلة بالبارحة!!
لقد ضاعت الأندلس، ولكن كم أندلس جديدة في تاريخنا الحديث نراها تضيع أمام أعيننا ونحن نبكي ما لا نستطيع الحفاظ عليه مثل الرجال، كما قالت أم أبي عبد الله !! كم من اتفاقيات تعقد مع أعدائنا وخصومنا ولا نراها تنفذ ونستمر في توقيع الاتفاقيات!!

المؤسف أننا ننسى ولكن أعداءنا لا ينسون، فها هو الملك ( خوان كارلوس الأول) ملك إسبانيا يعترف بالخطأ الذي ارتكبته الملكة ( إيزابيلا ) في حق اليهود الذين طردوا من إسبانيا بمقتضى قرارها الصادر في 31 مارس 1492م ، وقدم الملك (خوان كارلوس ) اعتذاره رسمياً إلى رئيس دولة الكيان الصهيوني، دون أن يفعل نفس الشيء إزاء المسلمين الذين كانوا سادة الأرض والحضارة هناك !! بينما لم يكن لليهود ملك قائم ولكن عاشوا تحت حكم الإسلام مطمئنين في سلام تام قبل أن يأتي الصليبيون، فكيف يعتذر ملك إسبانيا لبضعة آلاف كانوا أهل ذمة ولا يعتذر لعدة ملايين كانوا أصحاب الدولة والحكم والحضارة؟!

وما تزال إسبانيا اليوم تنهج نفس السياسة التطهيرية في سبتة ومليلية اللتين تحتلهما منذ القرن الخامس عشر الميلادي، بطرد المغاربة ومحاربة الإسلام والمسلمين ومنعهم من إقامة احتفالاتهم وأعيادهم الدينية، وبناء المساجد.
نعم، ما أشبه الليلة بالبارحة!! وما أشبه الأندلس بفلسطين وسبته ومليلية والشيشان والبوسنة والهرسك وكشمير وجنوب السودان !! ومن يقرأ هذه الأبيات التي يبكي فيها أبو البقاء الرندي ضياع الأندلس يجد أنها تحكي مأساة ما يعيشه المسلمون اليوم-:



سقوط الأندلس ولم يبق لنا وثيقة عن تلك المأساة مثل قصيدة أبي البقاء الرندي



أبو البقاء الرندي
أبو البقاء صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن علي بن شريف الرندي الأندلسي (601 هـ -684 هـ الموافق: 1204 - 1285 م) هو من أبناء (رندة) قرب الجزيرة الخضراء بالأندلس وإليها نسبته.
ورُندة ( Ronda ) و هي مدينة غرب ملقا أو مالقة ، تقع على نهر ينسب إليها ، قال الحميري في الروض المعطار: مدينة قديمة بها آثار كثيرة .
و وصفها لسان الدين ابن الخطيب في المشاهدات بأنها أم جهات و حصون و شجرة ذات غصون و جناب خصيب.
و قد اشتهر من هذه البلدة الأديب الناقد الفقيه الشاعر أبو البقاء الرُندي رحمه الله صاحب القصيدة الشهيرة في رثاء ما سقط لزمانه من مدن الأندلس و مناطقها :

عاشَ ابو البقاء الرندي في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وعاصر الفتن والاضطرابات التي حدثت من الداخل والخارج في بلاد الأندلس وشهد سقوط معظم القواعد الأندلسية في يد الأسبان، وحياتُه التفصيلية تكاد تكون مجهولة، ولولا شهرة هذه القصيدة وتناقلها بين الناس ما ذكرته كتب الأدب، وإن كان له غيرها مما لم يشتهر، توفي في النصف الثاني من القرن السابع ولا نعلم سنة وفاته على التحديد.


وهو من حفظة الحديث والفقهاء. وقد كان بارعا في نظم الكلام ونثره. وكذلك أجاد في المدح والغزل والوصف والزهد. إلا أن شهرته تعود إلى قصيدة نظمها بعد سقوط عدد من المدن الأندلسية. وفي قصيدته التي نظمها ليستنصر أهل العدوة الإفريقية من المرينيين عندما أخذ ابن الأحمر محمد بن يوسف أول سلاطين غرناطة في التنازل للإسبان عن عدد من القلاع والمدن إرضاء لهم وأملا في أن يبقى ذلك على حكمه غير المستقر في غرناطة وتعرف قصيدته بمرثية الأندلس. و قصيدته:


لِكُلِّ شَيءٍ إِذا مـا تَـمّ .. نُقصـانُ
فَلا يُغَرَّ بِطيـبِ العَيـشِ .. إِنسـانُ
هِيَ الأُمُورُ كَمـا شاهَدتُهـا .. دُوَلٌ
مَـن سَـرّهُ زَمَـن ساءَتـهُ أَزمـانُ
وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلـى .. أَحَـدٍ
وَلا يَدُومُ عَلـى حـالٍ لَهـا شـانُ
يُمَزِّقُ الدَهرُ حَتمـاً كُـلَّ ..سابِغَـةٍ
إِذا نَبَـت مَشرَفِيّـات .. وَخرصـانُ
وَيَنتَضي كُلَّ سَيفٍ للفَنـاء .. وَلَـو
كانَ ابنَ ذي يَزَن وَالغِمد ..غمـدانُ
أَينَ المُلوكُ ذَوي التيجانِ مِن ..يَمَـنٍ
وَأَيـنَ مِنهُـم أَكالِيـلٌ .. وَتيجَـانُ
وَأَينَ مـا شـادَهُ شَـدّادُ فـي .. إِرَمٍ
وَأينَ ما ساسَه في الفُرسِ .. ساسـانُ
وَأَينَ ما حازَهُ قارونُ مـن .. ذَهَـبٍ
وَأَيـنَ عـادٌ وَشـدّادٌ .. وَقَحطـانُ
أَتى عَلى الكُلِّ أَمـرٌ لا مَـرَدّ .. لَـهُ
حَتّى قَضوا فَكَأنّ القَوم ما .. كانُـوا
وَصارَ ما كانَ مِن مُلكٍ وَمِن .. مَلكٍ
كَما حَكى عَن خَيالِ الطَيفِ .. وَسنانُ
دارَ الزَمـانُ عَـلـى دارا وَقاتِـلِـهِ
وَأَمَّ كِسـرى فَمـا آواهُ .. إِيــوانُ
كَأَنَّما الصَعبُ لَم يَسهُل لَهُ .. سبـبٌ
يَومـاً وَلا مَلَـكَ الدُنيـا سُلَيمـانُ
فَجائِـعُ الدُهـرِ أَنـواعٌ مُنَـوَّعَـةٌ
وَلِلزَمـانِ مَسـرّاتٌ .. وَأَحــزانُ
وَلِلحَـوادِثِ سلـوانٌ .. يُهوّنُـهـا
وَما لِمـا حَـلَّ بِالإِسـلامِ سلـوانُ
أَتى عَلى الكُلِّ أَمـرٌ لا مَـرَدّ .. لَـهُ
حَتّى قَضوا فَكَأنّ القَوم ما .. كانُـوا
دهى الجَزيـرَة أَمـرٌ لا عَـزاءَ ..لَـهُ
هَوَى لَـهُ أُحُـدٌ وَاِنهَـدَّ .. ثَهـلانُ
أَصابَها العينُ في الإِسـلامِ فاِرتـزَأت
حَتّى خَلَت مِنـهُ أَقطـارٌ ..وَبُلـدانُ
فاِسأل بَلَنسِيةً مـا شَـأنُ ..مرسِيَـةٍ
وَأَيـنَ شاطِبـة أَم أَيـنَ .. جيّـانُ
وَأَين قُرطُبـة دارُ العُلُـومِ .. فَكَـم
مِن عالِمٍ قَد سَما فِيها لَـهُ .. شـانُ
وَأَينَ حمص وَما تَحويِهِ مِـن .. نُـزَهٍ
وَنَهرُها العَـذبُ فَيّـاضٌ ..وَمَـلآنُ
قَوَاعد كُنَّ أَركـانَ البِـلادِ ..فَمـا
عَسى البَقـاءُ إِذا لَـم تَبـقَ أَركـانُ
تَبكِي الحَنيفِيَّةُ البَيضَاءُ مِـن ..أَسَـفٍ
كَما بَكى لِفِراقِ الإِلـفِ ..هَيمَـانُ
عَلى دِيارٍ مـنَ الإِسـلامِ ..خالِيَـةٍ
قَد أَقفَرَت وَلَهـا بالكُفـرِ ..عُمـرانُ
حَيثُ المَساجِدُ قَد صارَت كَنائِس مـا
فيهِـنَّ إِلّا نَواقِيـسٌ .. وصلـبـانُ
حَتّى المَحاريبُ تَبكي وَهيَ ..جامِـدَةٌ
حَتّى المَنابِـرُ تَبكـي وَهـيَ عيـدَانُ
يا غافِلاً وَلَهُ فـي الدهـرِ ..مَوعِظَـةٌ
إِن كُنتَ في سنَةٍ فالدهـرُ ..يَقظـانُ
وَماشِيـاً مَرِحـاً يُلهِيـهِ ..مَوطِنُـهُ
أَبَعدَ حِمص تَغُـرُّ المَـرءَ ..أَوطـانُ
تِلكَ المُصِيبَةُ أَنسَـت مـا ..تَقَدَّمَهـا
وَما لَها مِن طِـوَالِ المَهـرِ ..نِسيـانُ
يـا أَيُّهـا المَلـكُ البَيضـاءُ رايَتُـهُ
أَدرِك بِسَيفِكَ أَهلَ الكُفرِ لا .. كانـوا
يا راكِبينَ عِتـاق الخَيـلِ ..ضامِـرَةً
كَأَنَّها فـي مَجـالِ السَبـقِ عقبـانُ
وَحامِلينَ سُيُـوفَ الهِنـدِ ..مُرهَفَـةً
كَأَنَّها فـي ظَـلامِ النَقـعِ ..نيـرَانُ
وَراتِعيـنَ وَراءَ البَحـرِ فـي ..دعـةٍ
لَهُـم بِأَوطانِهِـم عِـزٌّ .. وَسلطـانُ
أَعِندكُم نَبَأ مِـن أَهـلِ .. أَندَلُـسٍ
فَقَد سَرى بِحَدِيثِ القَومِ .. رُكبَـانُ
كَم يَستَغيثُ بِنا المُستَضعَفُونَ ..وَهُـم
قَتلى وَأَسرى فَمـا يَهتَـزَّ .. إِنسـانُ
ماذا التَقاطعُ في الإِسـلامِ .. بَينَكُـمُ
وَأَنتُـم يـا عِبَـادَ اللَـهِ إِخــوَانُ
أَلا نُفـوسٌ أَبيّـاتٌ لَهـا ..هِـمَـمٌ
أَما عَلى الخَيـرِ أَنصـارٌ .. وَأَعـوانُ
يا مَن لِذلَّـةِ قَـوم بَعـدَ ..عِزّتهِـم
أَحـالَ حالَهُـم كفـرٌ ..وَطُغيـانُ
بِالأَمسِ كانُوا مُلُوكاً فِـي ..مَنازِلهِـم
وَاليَومَ هُم في بِـلادِ الكُفـرِ عُبـدانُ
فَلَو تَراهُم حَيارى لا دَلِيـلَ .. لَهُـم
عَلَيهِم مـن ثيـابِ الـذُلِّ ..أَلـوانُ
وَلَو رَأَيت بُكاهُـم عِنـدَ .. بَيعهـمُ
لَهالَكَ الأَمـرُ وَاِستَهوَتـكَ أَحـزانُ
يا رُبَّ أمٍّ وَطِفـلٍ حيـلَ ..بينهُمـا
كَمـا تُفَـرَّقُ أَرواحٌ .. وَأَبــدانُ
وَطفلَة مِثلَ حُسنِ الشَمسِ إِذ ..برزت
كَأَنَّمـا هـيَ ياقُـوتٌ وَمُـرجـانُ
يَقُودُها العِلـجُ لِلمَكـروهِ ..مُكرَهَـةً
وَالعَينُ باكِيَـةٌ وَالقَلـبُ ..حَيـرانُ
لِمثلِ هَذا يَبكِي القَلبُ مِـن ..كَمَـدٍ
إِن كانَ في القَلـبِ إِسـلامٌ وَإِيمـانُ

طيف الأمل
13-09-2010, 10:01 PM
أهلا بك استاذنا الكريم .. وأهلا بعبق الفوائد ..
قلة الوعي التاريخي كما أشرت هي من الأسباب التي أدت إلى عدم وصولنا للمستقبل ..

لست سوى قطرة من بحركم ..فتقبل مروري ..

ولي عودة إن شاء الله ..

الهنــائــي
13-09-2010, 10:26 PM
هيه يا الاندلس

نبكي بكاء الدم على سقوطها الى اليوم ...

فهي كانت رمزا من رموز الاسلام وحضارتها ..

اين انتِ اليوم .. واين هم المسلمين من الاساس ....!!

سقطوا بعد سقوطكِ يا الاندلس

شكرا لك اخي .. بارك الله فيك

الريان
13-09-2010, 10:40 PM
السلام عليكم

تاريخ عريق ومـــؤلم
تبكي القلوب بالحسرات على ما وصل إليه الامة الاسلامية

بارك الله فيك

رgح مجنـgنه
23-09-2010, 11:22 PM
رآئع مآ سطرت لنآ آخي ،،

يعطيك العآفية .،‘

عبدالله الزومان
25-09-2010, 11:00 PM
أهلا بك استاذنا الكريم .. وأهلا بعبق الفوائد ..
قلة الوعي التاريخي كما أشرت هي من الأسباب التي أدت إلى عدم وصولنا للمستقبل ..

لست سوى قطرة من بحركم ..فتقبل مروري ..

ولي عودة إن شاء الله ..


http://www.al-zafah.com/up1//uploads/images/al-zafah-29a534666c.gif (http://www.al-zafah.com/up1//uploads/images/al-zafah-29a534666c.gif)
استاذتي طيف الامل
شكراً لهذا الحضور العذب
الذي عطر متصفحي
فمرورك مصدر سرور لي

http://www.al-zafah.com/up1//uploads/images/al-zafah-a5d4115e7f.gif (http://www.al-zafah.com/up1//uploads/images/al-zafah-a5d4115e7f.gif)

عبدالله الزومان
26-09-2010, 02:30 AM
الهنائي
الريان
جنون انثى

اعزائي
اطربتم عيني بتلك الكلمات
وتلك الردود الرائعه
ينحني قلمي احتراما
لجلالة كلماتكم
باقه من الورد اهديها لكم
تحيتي

روح الورد
27-09-2010, 08:01 PM
يعطيك الف عافيه اخوي

دمت بخير...