مشاهدة النسخة كاملة : مقهى الأدباء، قصة قصيرة


رمال عُمان
20-06-2006, 11:19 AM
مقهى الأدباء

قصة قصيرة بقلم د. جمال الجزيري

تنتهي المحاضرة فنتسابق على الخروج من تلك القاعة المظلمة نرى الشمس تداعب الأشجار من وراء الغيوم الخفية فنبتسم لهذا الغزل العذري . يعلق نجاح عبد النور "كانت محاضرة مملة " فارد علية أيحسبنا ذلك الدكتور أحجار صماء فيظل يكتب علي السبورة أربع ساعات متواصلة دون أن يمل أو نفقه شيْا مما يكتب". يبدو أننا أخرجنا ما هو مشحون داخلنا فنبدأ في بشغف إلى الشمس الحنون وهي تدلك أغصان الأشجار كأنها تريد أن تبعد عنها لسعة البرد أو تجعلها تتراقص في انتظار انقشاع السحب وكأن هذا التراقص طقسا شعائريا جميلا يجلب الدفيء للقلوب العفية التي لم تستطع الساعات أن تفقدها دفئها بالحياة و الفن النابت في التربة الطرية … نلوح للشمس ونلقي السلام على الأشجار فترد علينا بابتسامة ساحرة في عيون الأوراق الندية …
نسير خارجين . نتمنى لو كان ايهاب عباس معنا الآن . لكنه لا يحب هذه المحاضرة ولا يعرف الدكتور وبذلك لا يحضرها أبدا . نمر علي عم سيد بائع الجرائد بالجامعة . يجلس تحت شجرة متكئا علي جذعها يتدثر بجلبابه الصوفي ويلف حول رأسه الشال المعتاد . ولا يكاد يتبيننا فنظره ضعيف . يضع أمامه صفا من الجرائد وصفا من الكتب .نلقي السلام عليه ونجلس نقلب الكتب فلم نجد في الجرائد العون وصفحاتها كلام جرائد كما يقولون نجد "المذاهب النقدية " لشكري عياد و"خالتي صفيه و الدير " لبهاء طاهر . فنشتري نسختين ونضع ثمن النسخ الأربع في يد عم سيد فيرفع النقود أمام عينيه ويفحصها هو يقول لنا مبتسما "معليهش يا ابني أولاد الحرام ما خلوش لأولاد الحلال حاجة" نبتسم لمداعبته الطريفة ونرتب علي كتفه "سلام يا عم سيد" فيدعوا لنا بالنجاح و نور الطريق…
نقترح أن نمر علي سراج وصفي في قسم الصحافة . نجده واقفا مع إيناس السيد، فلا نشأ أن نقطع عليهما حديثهما. نقف بعيدا علي المقعد الرخامي أسفل المبني المقابل. يهمهم نجاح بكلمات لا اسمعها. يتجه إلىّ، ثم يبدأ الكلام بصوت هامس صادق كأنه يتكلم إلى نفسه : "عندما قلت لي أنك تكتب القصص لم أصدق . قلت ربما تدعي الكتابة لكي تجلب إليك الأنظار ، أو لكي تستولي على اهتمامي – لأني غريب، و لا أعرف أحدا هنا حيث أنني حولت إلى الكلية منذ فترة قصيرة – لكنني عندما قرأت قصصك أدركت أنك كاتب ناضج. فسامحني إن كنت أخطأت التفكير فيك". أربت على يديه بجواري: "سيدي تكفيني نبرة الصدق في كلامك، و ليس بين الأحباء حساب أو عتاب. كما أنني مازلت أتعلم الحبو على طريق القص و لم أنضج بعد". أحتضن كتابي شكري عياد وبهاء طاهر، ثم أشير إليهما في يد نجاح و أقول: "مازال الطريق طويلا، كلما قرأت لأساتذتنا، أشعر بأننا سنظل نحبو لفترة طويلة حتى نتعلم المشي"……
يتحسس نجاح بطنه فيصحو داخلي الإحساس بأنني لم افطر بعد ،ننظر إلى سراج نجده مازال واقفا علي السلم مع إيناس أكح بشدة، فينتبه سراج ،أشير له . بأننا ذاهبان إلي المقهى ،وهو يعرف أننا نلتقي علي مقهى علاء ويكفيني فقط أن أكور أصابع يدي وأضع إصبع الإبهام علي فمي فيفهم أننا ننوي أن ندخن الشيشة وبالتالي نجلس علي مقهانا الأليف .
أقف أمام المطعم الصغير. أمد للعامل جنيها: "سندوتشين فول واثنين طعميه" عندما يكون قد جهز السندوتشات، يكون نجاح قد اشترى المعسل. نشير لعلاء من بعيد. نسحب كرسيين، و نجلس في أحد الأركان أمام المقهى حتى يتسنى لنا متابعة حركة الناس و هم يجيئون و يذهبون في الشارع أمامنا. فمن عاداتنا أن نراقب ملامح البشر و نختزنها في قلوبنا و عقولنا علّها في يوم تتفاعل و تخرج منها شخصيات ثرية تملأ قصة من القصص.
يجيء علاء بأكواب الماء: "صباح الخير يا شباب، ايه أخبار الأدب على حسكم". "صباح النور، تمام، يسلم عليك و عاوز يشوفك". فنضحك جميعا. ودون أن نطلب شيئا، يذهب و يأتي بكوبين شاي كشري مضبوط، فدائما يتذكر ما نحن معتادون أن نشربه. يضع الصينية بخفة و حذر مخافة أن تقع بعض النقاط على الكتب أو مجموعة الأوراق الموضوعة في أجندة كلا منا. ودون أن نكلمه إلا بابتسامة في وجهه البشوش، يأخذ باكو المعسل من على المنضدة الصغيرة أمامنا و يحضر لنا شيشتين سالكتي القلب صافيتي الزجاج بعد أن يبدل ماءهما المشروب عليه بماء نظيف.
يضع نجاح المبسم في فمه و يسحب الدخان بنهم. تشرد عيناه بعيدا. تبدر ابتسامة خفيفة تلقائية على وجهه الصامت. ثم يتكلم بحميمية كأنه يتحدث عن شيء أليف يحس به: "مجروح القلب، متثاقل الهمم، لا يستطيع أن يجمع ملامحه التي بدأ يفقدها في لحظات… الله ، الله". فأنظر إليه كطفل تائه عثر على أمه أو كممثل على خشبة المسرح ينظر للجمهور بطرف عينيه ليرى مدى أثر أداءه عليهم أو كفلاح يقف على الدرّاسة يلقمها حزم القمح و ينظر بجانبها ليرى الغلال الخارجة منها ليعرف نتيجة عرقه و "شقاءه" : "يا سيدي ، أنني أغير على قصتي (تشكل) من هذا الغزل الصريح. تغزلك فيها يشعرني بالحرج؛ فلم أفعل شيئا يستحق كل هذا الثناء الصادق."…………………
فينظر إلي نجاح بخبث ، رافعا حاجبيه لأعلى ، زاما شفتيه، ويتكلم بنبرة جادة متكبرة كأنه يراني حشرة حقيرة أمام عينيه، مقلدا المسيطرين على نادي أدب سوهاج:
"أنت يا ابني لسة قدامك كتير عشان تعرف تكتب. لازم تضبط الإيحاء وتخلي التون واضح . وتستخدم الراوي العليم عشان تعرف تتحرك. و فوق كدة و كدة تخلي العمود الانسجامي منبسط في النص. وأوع تمشي مع مصطفى فتحي و لا تصاحب حد من أدباء العاصمة اللي بيحتقرونا".
فأتمادى في الضحك إلى أن يقع مبسم الشيشة من يدي، فأتمتم: "اللهم اجعله خيرا"………
يستعيد نجاح ملامحه البسيطة بعد أن يتخلص من تلك الملامح التي يعوزها الصدق: فيبدأ في الضحك خابطا كفه بكفي كأننا طفلين عثرا على لعبة تستهويهما. أقول له:
"أنت لازم تقرأ كل أعمال القاص الفرنسي سيزان و الروائي الأسباني فالنتينو و القاص البريطاني المتميز جيرار جنيت و كمان الروائي السوفيتي حلمنتوفيتش " فيرد عليّ :
"لازم العقدة تكون متأزمة قوي و تيار الوعي متدفق و صارخ و الحداثة تكون واضحة عندك. أنت ما عندكش أي حداثة و لا مودرنية. سيبك من الحواديت التافهة بتاعتك دية وخلي عندك وعي بتشظي الزمن وانقشاع المكان".
نضحك و نهتز إلى أن نشعر بأننا أصفياء صفاء النهر و أبرياء براءة النسمة الحانية التي تهفهف على خد أنثى رقيقة. فنبدأ في غناء أغنية عشاق الحياة لمحمد منير : " آه يا عشاق الحياة، جمر الهوى جوه القلوب والع، لو غاب قمر مليون قمر طالع، يفتح سبيل في المستحيل، يا فجرنا يا سلسبيل مهما تغيب راجع 00 دا بكرة جاي بنهار يستاهل المشوار، و حلمنا لو ينضرب حنصد و نرد و لابد يبقى المصير في اليد". ثم نقبض على شيء ما في أيدينا، لا نراه، لكننا نحس به، ربما كان قلما أو قلبا أو كلمة صدق أو إحساس طازج، لا نعرف بالتحديد كنهه، لكننا نحس أنه في أيدينا و يكفينا فقط الإحساس في هذه اللحظة الفريدة………
نبصر سراجا قادما نحونا. يبدو أنه يدندن بأغنية ما أو قصيدة ما، فرأسه تتماوج يمينا و شمالا كأنها تلحن ما تدندنه…… يسحب لنفسه كرسيا. يجلس أمامنا و يضع قدمه على العارضة أسفل المنضدة. يخطف مبسم الشيشة من يدي و يسحب نفسا: " صباح الصباح و القلوب الملاح و اللي جاي أحسن من اللي راح". بعد أن يضع علاء أمامه كوب الشاي بالحليب، نبادره: "مبسوط جدا يعني!!" فيرد علينا ووجهه ملئ بالبشر و الصفاء: "أنا مبسوط لثلاثة أسباب: أولا، قابلت إيناس. ثانيا، أحمد عبد الحكم ابن الجنية سمعني قصيدة خرافة. ثالثا، الندوة اللي عملناها لماجد يوسف نجحت فوق ما نتصور. وتوتة توتة خلصت الحدوتة".
عندما يضع كوب الشاي فارغا على المنضدة، يعود ويتكئ على كرسيه وابتسامة تعلو وجهه فتزيده بشاشة ونورا دون أن تبدو على شفتيه. فنقول له أن الحواديت لم تنته بعد وها هي حدوتة واضحة وبسيطة. نبدأ في الحكي ويكاد الضحك أن يغالبنا:
"نسخ قصيدة من الأعمال الكاملة لأمل دنقل. ذهب بها إلى أحدهم: ما رأيك أستاذنا في هذه القصيدة. لقد كتبتها بعد عناء كبير. فرسم تكشيرة على وجهه وجعل نبرة صوته خشنة بها قدر من الحكمة و الوقار: ‘هذه ليست قصيدة. إنها لعب عيال. الصور فيها منبعجة وكلماتها مكرورة. أين أنت من أمل دنقل. ألست جنوبيُُ مثله. دع الشمس تسقط على كلماتك حتى تستوي على عودها’. فيميل على شاعرنا الهمام و يهمس في أذنه: ‘هذه القصيدة لأمل دنقل’. فينتفض الشاعر كأن فأرا تسلل إلى عبه فيكاد أن يغطس تحت الكرسي. ثم يغير من ملامح وجهه ويقول مصطنعا المداعبة: ‘ألم أقل لك إنه لعب عيال؟’… "
فنضحك جميعا ونكاد أن نسقط من على كراسينا…..يرفع سراج وجهه إلى الشمس التي توشك أن تنصرف إلى سريرها خلف الجبل: ما رأيك يا شمسنا؟ هل سقطت على كلماتهم؟!!" فتختفي خلف غمامة تتجول في الأفق وكأنها تعلن رفضها التام أو كأن الكلام أحرجها وجعلها تشعر بالضيق…
أشير لعلاء بيدي: أضم أصابع الوسطى والخنصر و البنصر وأجعل الإبهام والسبابة فوق بعضهما تفصلهما مسافة تكفي لوضع كوب الشاي، فيفهم تلقائيا أننا نريد أن نشرب شايا مرة أخرى. ويرفع نجاح باكو المعسل بيده، فيأتي عمر – صبي المقهى – و يبدل حجري المعسل. لا يطلب سراج شيشة، فهو لا يحب أن يشرب لوحده ويكفيه أن يشارك أحدنا…
نرتشف الشاي ونبدأ في مناقشة ما ننوي أن نفعله وكأن الشاي نقلنا من حالة إلى أخرى. العدد الجديد من كتاب (نصوص عشرينية) في نادي أدب الجامعة… أعددنا معظم الأعمال التي سننشرها. تتبقى أعمال من سبقونا في نادي الأدب الذين تخرجوا السنة الماضية. يتكفل سراج بتجميع هذه الأعمال، فعنده نشخ منها. يقول نجاح إننا لو طبعنا هذا الكتاب قريبا،لحققنا شيئا يعوض ما فقدناه على يد الأساتذة العظام وأصبح سرابا فلم نستطع أن نمسك به. فأرد عليه لا تقلق يا أبا الِبشر. سيطبع الكتاب في أقرب وقت ممكن. أما عن الدراسة التي تتناول أعمالنا ويمكن أن ترشدنا فيما بعد، إتفقت مع مصطفى الضبع على أن يكتبها ورحب بالفكرة جدا قائلا إن نادي أدب الجامعة جزء حميم من وجدانه، فهو لا يمكن أن ينسى نشأته الجنوبية……
نسحب دخان الشيشة في شغف وكأننا نكافئ أنفسنا على نجاح وصانا إليه أو شيء قيم حققناه. فننظر برضى إلى حركة البشر في الشارع أمامنا، أولئك البشر الذين بدءوا يلملمون نشاطهم ويتعجلون الذهاب إلى البيت حتى يأنسوا بالدفء بعيدا عن لسعة البرد التي بدأ عودها يقوى، فتلقي الشمس علينا السلام وتختفي خلف الجبل.
هامش أول: كنا ننوي أن نعنون هذه القصة بكلمة (كأن) لما لها من تواجد قوي وحضور غزير في القصة. لكن بعد أن وصلنا نبأ إزالة (مقهى علاء) أو (مقهى الأدباء) كما أطلقوا عليها بعد رحيلنا تكريما لنا – بعد أن استقل علاء وفتح مقهى جديدا – فإننا قررنا إطلاق اسم (مقهى الأدباء) عنوانا للقصة، فربما نستطيع الإمساك بلحظة هربت من أيدينا بعد أن هاجرنا إلى القاهرة.
هامش ثان: عندما اختفت الشمس خلف الجبل، غمزت لنا برموشها، فأهدت قلوبنا دفئا أبديا لم تستطع أرصفة القاهرة أن تنتزعه منا.

زعيم المحبة
20-06-2006, 03:53 PM
الله يعطيك ألف عافيه أخوي رمال عمان ع هذا القصة،،،،،،،،،،،

رمال عُمان
21-06-2006, 04:19 AM
شكرا لك أخي الكريم .