مشاهدة النسخة كاملة : شرح {ادب المقامات }


بيسان
25-11-2008, 02:01 PM
اعتاد أصحاب المقامات أن يتخذوا لهم راويا يتحدثون باسمه وقد جعل بديع الزمان راويه عيسى بن هشام كما اتخذ الحريري الحارث بن همام واصطلحوا على أن تكون ملحهم ونوادرهم عن رجل آخر وهو هنا البطل أبو الفتح الإسكندري وفي المقامات الحريرية أبو زيد السروجي.
وفي المقامة القريضية سيشرب عيسى بن هشام مقلبا ساخنا من البطل المحتال أبي الفتح الإسكندري الذي اتخذ الحيلة والمكر والخديعة وسيلة للحصول على المال تطبيقا للمبدأ القائل الغاية تبرر الوسيلة بمعنى أن الكذب والاحتيال وسائل للوصول إلى المال.
يقول إنه مازال رهين أسفار وأليف حل وترحال تقعده النوى وتقيمه حتى إذا أناخ ركبه بجرجان وألقى فيها عصاه استعان على الدهر بإصلاح ضياع جعلها موردا وبالاتجار في أموال اتخذها رفدا ومعينا.



وفي هذه المقامة يغترب عيسى ابن هشام وهو الراوية الوهمي الذي اتخذه بديع الزمان راويا لقصته ويبتعد عن الأوطان حتى يصل وينزل أرض جرجان وهي مدينة كانت قديما عاصمة بلد خوارزم وتعتبر الآن من بلاد التتار واستعان على حاجة الأيام بعقار وأرض مغلة حرك فيها يد العمارة وأموال قصرها ووقفها وجعلها خاصة بالتجارة.واستعان أيضا بحانوت أي دكان الخمار جعله مكان إقامة ومرجعا واتخذ له رفقة صحابة وخلطاء. .وجعل عيس الرجوع للدار أول النهار وآخره أي طرفاه وبقية اليوم في الحانوت.
ولم ينس نفسه من لذة الرفاق والندمان فجلسوا يوما يتذاكرون الشعر وأهله من الشعراء وقد جلس أمامهم فتى غير بعيد علم من أساريره أنه يفهم ما يقولون لأنه يصغي إصغاء الذي يعلم ولكنه كان صامتا حتى ليتوهمه الناظر أنه جاهلا لا يستطيع الإبانة حتى إذا تشعبت أمامهم طرق المذاكرة واستفاض الحديث وكثرت فنون القول وطال بينهم الجدال في موضوعات مذاكراتهم قال قد أصبتم عذيقه ووافيتم جذيله والمقصد هنا التعظيم لنفسه مثل قول الحباب " أنا عذيقها المرجب وجذيلها المحكك " أي أن أبا الفتح الإسكندري "الفتى " يرجع إليه ويعتمد عليه وإذا رغب في الكلام سيفيض ويندفع فيه وإن تكلم سيفيض ويفصح ويبين في كلامه حيث أن لديه فن البلاغة كما يزعم. ولو قلت لأصدرت بمعنى وفقت وسأحدثكم حديثا مختلفا فكلامي ذو فنون وأساليب متفاوتة وقوله يسمع الصم مأخوذ من قول المتنبي :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم.
يقول :إنه حيثما كثر بيننا الجدل وتعددت أمامنا مناحي الكلام واختلفت موارد الأحاديث وتعددت أطراف القول قال لنا ذلك الفتى : لقد وجدتم صاحب الأمر البيان وإني لو شئت أن أتكلم لما تركت شاردة ولا واردة ولجئتكم بالذي يأخذكم لعجب منه..
فقلنا ما تقول في امرئ القيس؟وامرؤ القيس هو ذو القروح الملك الضليل أبو الحارث حندج بن حجر الكندي شاعر اليمانية ورأس شعراء الجاهلية وأميرهم وقائدهم إلى التفنن في أبواب الشعر وضروبه والمقدم في الطبقة الأولى منهم.
قال هو أول من وقف بالديار وساحاتها.
ومن ذلك قوله :
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان وربع عفت آياته منذ أزمان
وقوله :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وأنه من اغتدى والطير في أعشاشها ومن ذلك قوله يصف الخيل :
وقد اغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل
كميت يزل اللبد عن حال متنه كما زلت الصفواء بالمتنزل

ولم يقل الشعر كاسبا:
أي أنه لم يقصد بشعره المال ولم يقله رغبة في الدنيا وحبا في الجمع كعادة الشعراء المتكسبين بشعرهم.
ولم يجد القول راغبا : يعني أنه كانت تواتيه الألفاظ وتجيئه عفوا فلم يكن يتعمد الإجادة ولكنه أجاد عن غير قصد واستوى على عرش البيان دون مجهود وإنما الطبيعة والسليقة كانت سبب نبوغه وتفوقه.
ففضل من تفتق للحيلة لسانه وانتجع للرغبة بنانه
أي زاد رفعة وقدرا يعني ؟أنه سما على هؤلاء الذين لم تحرك ألسنتهم غير الرغبة في المال ولم ينطقهم بالشعر إلا انتجاع الكرماء والذهاب إلى المياسير وأناف على غواربهم فكان أبعدهم شأوا وأفضلهم مقولا وأجودهم شعرا.
قلنا فما تقول في النابغة؟
النابغة هو :أبو أمامة زياد بن معاوية أحد الشعراء في الجاهلية وزعيمهم وحكمهم بعكاظ أحسنهم ديباجة وجلاء معنى ولطف اعتذار.وإنما لقب بالنابغة لنبوغه ولتفوقه في الشعر فجاءة وهو كبير بعد أن امتنع عليه وهو صغير.
قال يثلب إذا حنق :أي أنه يسب ويشتم ويقذع في الهجاء إذا اشتد به الغضب وثارت في نفسه الحدة
ويمدح إذا رغب :أي أنه إذا أراد مدح المديح الذي يخرس الألسنة ويعجز الفصحاء.
ويعتذر إذا رهب:النابغة أكثر الشعراء تفننا في الاعتذار وأبرعهم سبكا وأرقهم عذرة وأرقهم تدخلا إلى القلب ومن بديع اعتذاراته قوله :
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني وتلك التي أهتم منها وأنصب.
فبت كأن العائدات فرشن لي هراسا به يعلى فراشي ويقشب.

قلنا ما تقول في زهير:
هو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني ثالث فحول الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية وأعفهم قولا وأوجزهم لفظا.قال يذيب الشعر والشعر يذيبه ويدعو القول والسحر يجيبه: أي أنه سلس القياد للشعر وأنه ملك زمامه فإذا قال سحر القلوب واستهوى الأفئدة واسترعى الأسماع.
قلنا فما تقول في طرفة ؟
طرفة بن لعبد البكري هوعمرو بن العبد البكري أقصر فحول الجاهلية عمرا مات مقتولا فهو الشاعر الذي حمل رسالة قتله من غير أن يعلم .مات في العشرين من عمره أجود الشعراء طويلة وأوصفهم للناقة .
قال هو ماء الأشعار وطينتها.أي أنه يملك أصل الشعر وزمامه ويملك كنز الشعرومدينته ومات ولم تظهر أسرار كنوزه ولم تفتح أسرار خزائنه.
قلنا فما تقول في جرير والفرزدق:
جرير هو أبو حرزة جرير بن عطية بن الخطفي التميمي اليربوعي أحد فحوا الشعراء الإسلاميين وبلغاء المداحين الهجائين وأنسب ثلاثتهم ( هو،الفرزدق ،الأخطل ) ولد باليمامة سنة 42 ه من بيت اشتهر بالشعر ونشأ بالبادية وفيها قال الشعر ونبغ.

الفرزدق هو أبو فراس همام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي أفخر ثلاثة الشعراء الأمويين وأجزل المقدمين في الفخر والمدح والهجاء ولد سنة 19 ه ونشأ بالبصرة بين فصحاء آبائه وقومه منذ أول تمصيرها فلم تختلط لهجته بعجمة ولا لحن فأراده أبوه على رواية الشعر ونظمه فرواه ونظمه وبرع فيه.

فقال جرير أرق شعرا وأغزر غزرا أي :أن جرير يفوق صاحبه في كثرة معانيه والفرزدق أمتن صخرا وأكثر فخرا
أي أنه متمكن في فن القول قادر على صقله وتصريفه وهو فخور بنسبه صلف بمجده والمقصود أنه مجيد في الفخر بأيام قومه الماضية وأنمه وجد من قومه أحسابا عالية وأمجادا شامخة فاستطاع أن يشيد بها.
وجرير أوجع هجوا وأشرف يوما: يريد أنه أكرم من صاحبه حاضرا أي أنه أفضل في نفسه من صاحبه أو أنه أشرف ذكرا لأيام قومه .
والفرزدق أكثر مطلبا وروما وأكرم قوما وجرير إذا تغزل أحزن وإذا ثلب وذم أهلك وإذا مدح أرفع وأحسن والفرزدق إذا افتخر عظم فخره وجزل فهو أفخر الشعراء الثلاثة وإذا احتقر وأهان أزرى وعاب وعتب وإذا وصف أتم وأكمل وأوفى.
قلنا فما تقول في المحدثين من الشعراء والمتقدمين منهم ؟
وقد شجر بين الأدباء وصيارف الكلام خلاف أي الفريقين خير منزلة في الأدب وأحسن مقاما فيه ؟ القدماء وهم شعرء دولة بني أمية وما قبلها أو المتأخرون وهم شعراء الدولة لعباسية وما وليها؟ وتعصب جماعة لهؤلاء ورأى قوم الفضل لأولئك ، غير أن القول الفصل هو الذي ذكره أبو العباس المبرد في الكامل حيث يقول :"وليس لقدم العهد يفضل القائل ولا لحدثان العهد يهتضم المصيب ،ولكن يعطى كل ذي حق حقه " وذلك رأي البديع في حكمه.
قلنا فلو أريت من أشعارك ورويت من أخبارك ؟ قال خذها في معرض واحد وقال من الرجز أبياتا استخدم فيه الحيلة لينال في ذلك مالا
ففي البيت الأول أظهر قلة حيلته وفقره بارتدائه وتغطيه بالثوب البالي أو الأطمار وراكبا في ذلك العسرة والشدة من فقره وسوء حاله .
وفي الثاني:
حاملا الحقد على الليالي لطول ما غمرته من بلايا وشدة ما يجد من كروبها وآلامها وملاقيا منها أشد الكوارث وأصعبها حيث يشق احتمالها .
وفي الثالث وكان هذا الحر أي نفسه أعلى قدرا ومكانة منزلة ودرجة أي كنت مثريا ذا بسطة من المال وكانت النعمة ظاهرة علي والوفر تشهد لي دلائله وتحتج لي علاماته وماء وجهه أغلى قيمة وقدرا.
وفي الرابع انقلب عليه الدهر وانقطع عنه طيب العيش فأصبح لا صلة له بطيب العيش و أصبحت أمت واتصل بالفاقة والعوز الذي كنت أنكرهما سابقا.
وفي الخامس لم يبق من ثروتي وجاهي غير الذكريات المؤلمة إلى يومي هذا أيضا .
وفي السادس والسابع لولا زوجي العجوز التي تقيم بسر من را وأبنائي الذين يقطنون قريبا من جبال بصرى ولولا كراهتي أن يموت هؤلاء بموتي وألا يجدوا عائلا بعدي لما وسعني المقام في هذه الحياة الفانية مع هذا البؤس الأليم والضنك الملازم بل كنت أقتل نفسي صبرا وذلك بأن أمنعها التصرف حتى تموت.
وهنا شرب عيسى بن هشام مقلبا ساخنا من أبي الفتح الإسكندري المحترف البارع في فن الكدية والتسول والاحتيال.فأعطاه وأغدق عليه من المال ما تاح له وتيسر وتهيأ وأمكن ما يعطيه من مال إشفاقا عليه وعلى عياله,فابتعد عنهم البطل أبو الفتح وراح
.
فجعلت أنفيه وأثبته : أي أنه تردد في التعرف عليه فتارة ينفي معرفته وتارة يثبتها ثم دله عليه ثناياه أي أسنانه في مقدمة فمه.
فقلت الإسكندري والله فقد كان فارقنا خشفا أي صغيرا جميل الرواء بهي المنظر ووافانا جلفا أي أتاهم جافيا غليظا.
يقول إن السبب في عدم تعرفهم عليه من أول وهلة أنه قد تغير حاله واختلف سمته عما كنا نعهده .
وتبعه عيسى ثم قبض على خصره أي وسطه وقال له : ألست أبا الفتح الإسكندري ؟ ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين؟ فأي عجوز لك بسر من را ، فضحك أبو الفتح وقال:
ويلك هذا الزمان غير الزمان السابق فهذا زمان زور وكذب وباطل فلا يخدعك فيه الغرور.
لاتلتزم بحالة واحدة ولكن مثلما تنقلب عليك الليالي وتدور در مثلها .. انتهى الشرح.