مشاهدة النسخة كاملة : أبـو الطيب المتنبــي


فارس الفرسان
06-05-2008, 08:07 PM
في فجر حياتي الأدبية شغفت بأبي محسَّد، وكان هذا الشغف يكبر معي.. لذا كانت هذه الدراسة استقطارا لذلك الشغف المتنامي.
كفى العربية فخرا شامخا وعزا ساميا أن تنجب هذه الشخصية الفريدة في فكرنا العربي. ولا أحسب شاعرا عربيا كان يمكن أن يكون في هذا العصر أبعد صرخة وأكثر حماسة وأورى زندا من هذا الشاعر. وقد لا أعدو الصواب إذا قلت أن المتنبي أغزر الشعراء فضلا وأوسعهم شهرة وأعلاهم منزلة، فقد رفع شأن الشعر العربي وأحله مرتبة لم تكن له من قبل، وحمل الراية عاليا، وفتح للشعراء طرائق الخلد، وسن لهم سنن المجد. وبذلك تبوأ مكانة رفيعة ومنزلة سامية، مما دفعنا إلى الإعجاب بعبقريته والافتتان بشعره.
ولد الشاعر الحكيم أبو الطيب المتنبي في محلة كندة بالكوفة . وقد أجمع الرواة أن تاريخ مولده هو سنة 303 هـ. ذكره ابن خلكان في تاريخه فقال: أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي المعروف بالمتنبي الشاعر المشهور، وقيل هو أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار والله أعلم . وقال عنه ابن رشيق في كتابه العمدة: إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس ذلك هو أحمد بن الحسين الملقب بأبي الطيب المتنبي) .
ومهما يكن فهو عربي الأصل، نشأ في أسرة فقيرة، ويعرف أبوه بعبدان السقاء كان عمله سقاية الماء في محلة كندة، وقد أرسله حين درج إلى مدارس العلويين في الكوفة ليتعلم فيها القراءة والكتابة مع فريق من أولاد أشراف العلويين. وأخذ يختلف على دكاكين الوراقين لمطالعة بعض الكتب والكراريس، وكانت هذه الحوانيت منتدى للأدب، يقصدها العلماء والأدباء والباحثون، فلا بد أنه كان يلقى فيها كثيرا منهم ويتصل بهم. وطبيعي أن تلك الحوانيت هي التي مهدت للمتنبي ثقافته الأولى، ساعده على ذلك ذكاؤه الحاد، ويروى عنه أنه كان قوي الذاكرة، سريع الحفظ. وأنه ذهب إلى البادية وأقام فيها سنتين لتقويم لسانه وتعلم اللغة. ويبدو أنه سافر لهذه الغاية عندما أغار القرامطة على الكوفة سنة 312هـ، وغادرها ثانية سنة 319هـ مع كثير من أهلها لعودة القرامطة إليها بعد انتصارهم على جيوش الخلافة. ويحدثنا الرواة أنه خرج إلى بادية بني كلب. فأقام بينهم مدة ينشدهم من شعره ويأخذ عنهم اللغة، فعظم شأنه بينهم، حتى وشى بعضهم إلى لؤلؤ أمير حمص من قبل الإخشيدية بأن أبا الطيب ادعى النبوة في بني كلب وتبعه منهم خلق كثير، ويخشى على ملك الشام منه، فخرج لؤلؤ إلى بني كلب وحاربهم وقبض على المتنبي وسجنه طويلا ثم استتابه وأطلقه . ونحن لا ندري على وجه التحقيق لم ذهب المتنبي إلى البادية، هل ذهب إلى هناك ليتقن اللغة، أم أن أباه اضطر إلى الهرب من الكوفة واللجوء إلى الصحراء نتيجة للحوادث السياسية والاضطرابات التي كانت تتعرض الكوفة آنذاك!! فنحن نعلم أن الكوفة كانت عرضة لهجمات القرامطة الذين أقاموا لهم حكومة في البحرين، وكان النزاع بين رئيسهم أبي طاهر وبين الخلافة العباسية شديدا، فقد هاجم أبو طاهر البصرة سنة 311هـ، وقطع طريق الحج وسلب الحجاج العائدين من مكة سنة 312هـ.
وفي السنة نفسها قطع طريق الحجاج العراقيين الذاهبين إلى مكة، واغتنم فرصة الذعر الذي استولى على العراقيين، فدخل الكوفة ونهبها وضربها ثم عاد إلى البحرين. فلعل هجرة والد أبي الطيب إلى البادية كان نتيجة لهذا الذعر الذي لحق الكوفيين. ومهما يكن من سبب هذه الهجرة إلى البادية، فإننا نعلم أن والده استقر به في بادية السماوة عند بني الصابي، وهم فرع من جشم بن همدان أخواله، ومكث سنتين في بادية السماوة، ويبدو أن القرمطية اجتذبت في بدء ظهورها أنصارا لها من أوساط البدو المتحمسين. ولعل تلك الدعوة تناولت القبائل كافة ، مما حمل الدكتور ر. بلاشير على الاعتقاد بأنه لقي بعض القرامطة فتأثر بهم، فإن لم يتأثر بالدعوة القرمطية فليس بمستبعد أن يكون أصابه الاضطراب من جراء المأساة التي قلبت أوضاع الخلافة ويتابعه في هذا الرأي الدكتور طه حسين إذ قال: إن المتنبي قد أصبح قرمطيا من أثر بقائه في البادية، إذ أن القرامطة منذ ظهروا كانوا يجدون في بادية الشام حماسة للدعوة، فهو تأثر بهم أو أنه أصبح داعية من دعاتهم، وأنه طمع في أن يستهوي (بدر بن عمار أمير طبريا) إلى قرمطيته القديمة
عاد المتنبي إلى الكوفة ، ورجح بعض الباحثين أن ذلك كان سنة 315هـ، واستقر في الكوفة ، ولا نعلم على وجه التحقيق كيف قضى المتنبي حياته في الكوفة بعد عودته إليها، وكل الذي نعلمه أنه اتصل بشخص يعرف أبو الفضل الكوفي، وأبو الفضل هذا رجل قد ثقف الفلسفة. يقول صاحب الخزانة: إن أبا الطيب وقع في صغره إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوسه وأضله كما ضل . ولا ندري إذا كان أبو الطيب قد درس عليه الفلسفة حقا! وكل الذي نعلمه أن صاحب الوساطة يذكر لنا شعره الذي تأثر فيه بالفلسفة اليونانية، فهل كان ذلك لأنه درس الفلسفة، أو كان من أثر هذه الآراء العامة التي كانت شائعة بين المثقفين في ذلك العصر‍! ونحن أميل إلى الاعتقاد الثاني، فدراسة الفلسفة لا بد أن تكون قد تركت لها آثارا على شعره. وقد مدح أبو الطيب أبا الفضل بقصيدة غريبة فيها أبيات تلفت النظر أنها في الحقيقة تحوي آراء هي التي حملت بعض الباحثين على القول باعتناق المتنبي لمذهب القرامطة. ولكن ناشر ديوان المتنبي يقول عنها إن المتنبي إنما قالها ليمتحن عقب أبي الفضل، وكلا التفسيرين يجانبان الواقع، فنحن نعتقد أن المتنبي إنما ذكر هذه الصفات وهذه الآراء ليفخم بممدوحه، وأن المتنبي لم ير بأسا في مدح من يعتنق هذه المبادئ فيقول مثلا:


يا أيها الملك المصفى جوهرًا _________________________
من ذات ذي الملكوت أسمى من سما _________________________

نور تظافر فيك لاهوتيّه _________________________
فتكاد تعلم علم ما لم يعلما _________________________

ويهم فيك إذا نطقت فصاحة _________________________
من كل عضو منك أن يتكلما _________________________

أنا مبصر وأظن أني نائم _________________________
من كان يحلم بالإله فأحلما _________________________

كبر العيان عليَّ حتى أنه _________________________
صار اليقين من العيان توهما _________________________


ولكن هذا الكلام، وإن كان صريحا في ذكر الحلول، فلا يدل على أن المتنبي كان قرمطيا، وربما كانت هذه عقيدة ممدوحه أبي الفضل فذكرها تقربا إليه، وهو على كل حال، يدل على عدم اهتمام المتنبي بالتمسك بروح الدين. وبعد رجوعه من البادية إلي الكوفة ، لم يطل مكثه بها، فتركها إلى بغداد ، ولم يبق في بغداد طويلا، فخرج عنها إلى الشام. يقول طه حسين: إن المتنبي إنما ترك الكوفة بسبب عقيدته القرمطية خشية على نفسه من يؤاخذ، وأنه خرج إلى الشام بسبب هذه العقيدة ليتصل بالدعاة هناك ويعمل على نشر الفكرة .